لماذا يرقص الأطفال الفلسطينيون الدبكة فوق أنقاض غزة؟

عن رحلة العودة الملحمية إلى الشمال المدمّر

AFP
AFP
صورة جوية تُظهر نازحين فلسطينيين يسيرون نحو غزة بعد عبور ممر نتساريم من جنوب القطاع

لماذا يرقص الأطفال الفلسطينيون الدبكة فوق أنقاض غزة؟

بعيدا من ثنائية "النصر" و"الهزيمة"، وهي بخطاباتها المتعددة، جزء من الخطاب السياسي والأيديولوجي لكلّ طرف من الأطراف، وانطلاقا من قناعات تلك الأطراف الراسخة أساسا في افتراقها الحاد، في كل مسألة السابع أكتوبر وما حصل بعده، فإن مشهد عودة الغزيين المليونية إلى شمال غزة حمل في طياته ما يتجاوز ذلك الاستقطاب السياسي. إنه واحد من مشاهد قليلة، مما قد يشهدها المرء في حياته، ولا يملك سوى أن يعلق عليها بالقول إنها "أكبر من الحياة". ومصدر كونها كذلك، أي اندفاع الناس أنفسهم، أفرادا وجماعات وفي لحظة مشتركة متسامية، يتحدى في الواقع أحادية السرديات السياسية التي لا تتردد في توظيف معاناة البشر، من أجل تأكيد الخلاصات أو تسجيل النقاط، أو محوها.

المدينة و"المنتجع"

لم يشهد التاريخ الحديث هجرة عكسية بالكثافة والقوة التي شهدناها يوم 27 يناير/ كانون الثاني 2025. كان الاحتلال الإسرائيلي قد نجح عبر شهور من القصف والقتل والتدمير، في تهجير سكان شمال غزة، بما في ذلك مدينة غزة نفسها، في اتجاه وسط القطاع وجنوبه، وكان الطموح منذ بداية الحرب على غزة، أن يرى العالم هذا المشهد نفسه، في هجرة أولئك الناس الجماعية إلى سيناء. مشهد كان له لو حدث أن يشكل ذروة أحد أهداف الحرب الذي لم يكن سريا كثيرا بل غالبا ما كان معلنا، وهو تفريغ غزة من أهلها، بحيث تصبح الأرض ممهدة لأن تصبح منتجعا سياحيا فريدا من نوعه على البحر، وفق رؤية جاريد كوشنر صهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب في بدايات الحرب، وقد عبر ترمب نفسه عن هذا الطموح، مغلفا إياه بخطاب السلام الموعود، حين قال قبل أيام إنه لم يعد هناك ما يمكن أن يعود إليه السكان في شمال غزة، وبالتالي يجب أن يهاجروا لفترة تقصر أو تطول إلى مصر والأردن. كان الرجل يتكلم انطلاقا من قناعة راسخة بأن ذلك الهدف "السري" المعلن، الذي كان يشار إليه أحيانا باسم "خطة الجنرالات" تحقق فعلا.

مشهد آلاف البشر وهم يتقدمون في كتلة واحدة، على ذلك الشريط الضيق من الأرض، بدا مستلا من الملاحم والأساطير والحكايات

مشهد آلاف البشر وهم يتقدمون في كتلة واحدة، على ذلك الشريط الضيق من الأرض الذي كان يضم شارعي الرشيد وصلاح الدين، بدا مستلا من الملاحم والأساطير والحكايات. فالواقع كان طوال الوقت يقول شيئا آخر. كانت الأنباء تتوارد، ولا تزال، حول حجم الدمار هناك، حول أحياء محيت عن بكرة أبيها، وحول بنية تحتية لم تعد قائمة، وحول خريطة تبدلت ملامحها، فلا يعود ممكنا للمرء أن يتعرف موقع حيه أو بيته، ناهيك عن الوصول إليه في المقام الأول. فلماذا اندفع الناس إلى العودة، بهذه الكثافة غير المسبوقة، إلى تلك الأرض الخراب؟

REUTERS/Stringer
مشهد جوي يُظهر فلسطينيين ينتظرون السماح لهم بالعودة إلى منازلهم في شمال غزة

الشوق العظيم

في الواقع، كان أهل غزة يجيبون طوال الوقت عن هذا السؤال، لكن قلة كانوا يسمعون أو يأخذون الأجوبة على محمل الجد. كنا نسمع النازحين، لا سيما النساء، وهم يرددون عبارات من قبيل لا نريد سوى العودة إلى بيوتنا ولو كانت مدمرة، سوف نقيم على أنقاض بيوتنا، لا أريد سوى أن أنام في بيتي، وسوى ذلك من أشواق سكنت وجدان الناس وازدحمت بها مخيلاتهم طوال أشهر النزوح القاسية المريرة. ملامح العائدين سيرا، في تلك الأيام، عكست هذا الشوق العظيم، وعكست في طبيعة الحال فداحة مشاعرهم تجاه عملية الاقتلاع بالنار والحديد التي تعرضوا لها. وكأن ما دمره الاحتلال على أرض الواقع، كان ينبني في اللحظة نفسها داخل أولئك السكان. وهذا الدرس الذي لم يتعلمه، ليس الإسرائيليون وحدهم بل غالبية العالم، حول مأساة النكبة الفلسطينية. كان الفلسطينيون قد أعادوا إحياء أحيائهم، بالاسم على الأقل، في أماكن نزوحهم. لم يطلقوا على أماكن سكناهم في المنافي أسماء جديدة، بل احتفظوا بالأسماء نفسها، فصارت تلك الأماكن استعارات مؤقتة وبديلة من الأمكنة الأصيلة.  

Omar AL-QATTAA / AFP
فلسطينية تنظف أنقاض منزلها المدمر في بيت لاهيا

الأمر نفسه ينطبق على كل مناحي الحياة الفلسطينية منذ 1948. لقد احتفظ الفلسطينيون بلهجتهم، بل بلهجاتهم المتعددة، حتى لا يزال ممكنا لأحدهم أن يعرف مسقط رأس فلسطيني آخر، سواء التقاه في لبنان أو سوريا أو الأردن أو أي بلد أوروبي، فقط من طريقته في الكلام. صحيح أن الفلسطيني الذي ولد ونشأ مثلا في لبنان أو في سوريا، اكتسب سمات من تلك البلاد، بما في ذلك اللهجات، إلا أنه ظل محتفظا بلهجته الأصلية، تلك التي ورثها عن أهله، وأورثها لأولاده.

كأن ما دمره الاحتلال على أرض الواقع، كان ينبني في اللحظة نفسها داخل أولئك السكان. وهذا الدرس الذي لم يتعلمه، ليس الإسرائيليون وحدهم بل غالبية العالم

كذلك، يندر أن تجد شعبا يحتفي بنوع معين من الطعام أو الحلويات مثلما يفعل الفلسطيني المنفي. كل أكلة تحمل في داخلها كل شيء. فلا يعود طقس تناول الطعام احتفاليا لما فيه من قرب وحميمية ولحظات سعيدة، بل لكونه باستمرار إحياء شبه طقوسي لشيء فريد لا يوجد في أي مكان آخر. حين يريد أن يعد صديق صديقه بلحظات لا تقدّر بثمن سيعده بأن يطهو له "المسخن" أو "القلاية"، أما "المقلوبة" فبات لمجرد ذكر اسمها أثر سحري لا يقاوم.

Omar AL-QATTAA / AFP
رجل يرفع العلم الفلسطيني أثناء مشاهدته عودة النازحين إلى شمال غزة عبر ممر نتساريم

الأصيل والطارئ

لطالما تعامل الاحتلال الإسرائيلي مع الفلسطينيين، سواء أكان مقتنعا فعلا بذلك أم أنها محض دعاية سياسية، بوصفهم طارئين على المكان، "عربا" لا بأس بأن يعودوا "من حيث جاؤوا" أو أن يندمجوا في محيطهم العربي الأوسع. أما الأميركي، متجسدا في ترمب اليوم، فله نظرة أخرى وإن تقاربت مع تلك النظرة. لا أحد يعيش في مكان لا مقومات للعيش فيه، فمن الطبيعي أن يرحل من مكان لا يجد فيه سوى القسوة والدمار، إلى مكان يوفر له على الأقل حياة طبيعية آمنة. ربما كان السر كامنا في أمور بديهية ومباشرة من قبيل أن معظم الفلسطينيين، في فلسطين وخارجها، ما زالوا مهاجرين أو نازحين، وهي الوضعية التي أدت ممارسات إسرائيل نفسها إلى تأبيدها، وما مساعيها اليوم إلى إلغاء خدمات الأونروا التي وجدت للتعامل مع مسألة اللجوء، إلا من قبيل التوهم بأن إلغاء "الوكالة" سوف يلغي أصالة وضعية اللجوء المكرسة دوليا، أو سيلغي الحق في عودة اللاجئين إلى أماكنهم التي طردوا منها.

BASHAR TALEB / AFP
أشخاص يسيرون على طول شارع الرشيد الساحلي في غزة بعد عبور ممر نتساريم من الجنوب إلى غزة

جاء مشهد عودة سكان شمال غزة بالشكل الذي شهدناه، لينسف دفعة واحدة جهود سنوات طويلة من الإنكار المتفاقم لدى إسرائيل والكثير من حلفائها. الأمر نفسه ينطبق على مشاهد استقبال المحررين من سجون الاحتلال. كثر يتساءلون ما معنى الاحتفال بخروج حفنة من السجناء قياسا بالثمن الفادح الذي دفعه أهل غزة، لا سيما الثمن البشري؟

REUTERS/Hatem Khaled
فلسطينيون نازحون في مركبة، في انتظار السماح لهم بالعودة إلى شمال غزة

الموت والنجاة

هنا مجددا يخطئ الاحتلال القراءة أو يتعمد إغفال الحقائق. فالفلسطينيون المتهمون بعدم تقديرهم الحياة وحبهم للموت، بحسب الدعاية الإسرائيلية، جسدوا منذ البداية أحلام عودتهم، وقيام دولتهم، وحريتهم النهائية، بقضية المعتقلين. أولئك المعتقلون، شأن وقائع اللجوء والنزوح، شأن التنقل اليومي بين حواجز الاحتلال في الضفة الغربية، تذكار يومي لهم بأنهم تحت الاحتلال. العدد الهائل من المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، ناهيك عن ظروف الاعتقال، وعن ضبابية الوضع القانوني وسيولته، يجعل كل بيت فلسطيني تقريبا معنيا بهذه القضية. بالطبع، هناك معتقلون اتخذوا وضعية وطنية رمزية مثل عبد الله البرغوثي ومروان البرغوثي وأحمد سعدات، إلا أن الغالبية العظمى من أولئك المعتقلين ليست لديهم تلك الوضعية الرمزية والسياسية، هم أبناء وبنات عائلات وقرى وأحياء، وإذا نظرنا إلى خريطة انتماء الآلاف المؤلفة من أولئك المعتقلين على مر الأجيال، لوجدنا أنها تطاول الشعب الفلسطيني بأسره. بالتالي، فإن الاحتفاء بإطلاق المعتقلين رغم الثمن الفادح يأتي انطلاقا من شعور الشعب الفلسطيني الفادح بأنه كله معتقل مع أولئك المعتقلين. بالتالي، فإن حرية واحد منهم تعادل حريتهم جميعا، تماما مثلما أن عودة أحدهم إلى بيته المهدم تعادل عودته إلى وطنه.

حرية واحد من الفلسطينيين تعادل حريتهم جميعا، تماما مثلما أن عودة أحدهم إلى بيته المهدم تعادل عودته إلى وطنه

ملمحان آخران لا يفهمهما المتعجبون من مشهد عودة النازحين. الأول هو أن كثرا منهم يعودون إلى أحبة تركوهم هناك ولا يعرفون شيئا عن مصائرهم. لهفة العودة التي تختلط فيها الفرحة بالرهبة، وسرعة تلك العودة، نابعان أيضا من التلهف لسماع أخبار من بقوا هناك والاطمئنان اليهم ورؤيتهم وجها لوجه، بعدما اقتصر التواصل معهم على الاتصالات والرسائل الهاتفية، أو انعدام حتى ذلك التواصل لدى كثر أيضا. أما الملمح الثاني فهو الحاجة الملحة لانتشال الضحايا من الأحبة والأقارب ودفنهم، وهو حق آخر حرم منه أهل غزة طوال أشهر الحرب.

BASHAR TALEB / AFP
فلسطيني يبكي أثناء انتشال جثة من تحت أنقاض مبنى مدمر في حي مهدّم برفح

يعود الفلسطينيون إلى بيوتهم وأحيائهم، متعبين مسكونين بمشاعر الفقد والألم، وبالقلق من المستقبل القريب والبعيد، لكنهم مع ذلك يبتسمون، ويغنون ويرقصون، وأي لوحة لها أن تعبّر أكثر من لوحة عودتهم عن مدى عشقهم للحياة، فالأصل في هذه الاحتفالات هو الشعور بالنجاة، الذي بدا طوال أشهر مظلمة، حلما مستحيلا، بل بلغ الأمر ببعضهم استعجال الموت بدلا من المكوث في خيمة وانتظار مجيئه الحتمي، مما يجعل الشعور بالنجاة ملمحا ثقافيا جديدا يضيفه الفلسطينيون إلى حكاية تمسكهم بأرضهم وحلمهم بدولتهم وحريتهم، وإن لم يكن ثمة ما يوحي بقرب انتهاء فصول تلك الحكاية.

font change