عرّابة الثقافة... أسماء صديق

عرّابة الثقافة... أسماء صديق

من السهل تأسيس صالون أدبي، ومن الصعب استمراره، فثقافة الصالون الأدبي تحمل في عمقها عملا فلسفيا قيّما، تزينه المعرفة النقدية، وأجواء تحرص على معاملة الموجودين، وبالتالي الشعور بالمكان كمساحة واسعة، تتجمع في ميدانها أبرز العناوين، بهدف الانتصار للمناقشة، بشجاعة وفن، وهي من مميزات الأدب في صالونات تتحول إلى شكل من أشكال المجتمع، حين تجتمع فيه شخصيات اجتماعية من محبي الأدب والفنون، والابتكار وحتى المسؤولون لأخذ شعور الإبداع وطموح الفكر. مكانٌ نستطيع تسميته بمكتبة شفاهية نقدية، واجتماع في موعد متفق عليه، وحضور ملتزم من الأعضاء..

واستنادا إلى ما ذكرت، ثمة نموذج عربي حي لصالون أكمل ثلاثين عاما، وهو "صالون الملتقى الأدبي" في أبوظبي، وهو من الصالونات البارزة عالميا، ومسجل في "اليونسكو"، أسسته قبل ثلاثة عقود السيدة أسماء صديق المطوع، التي وصفها الكاتب الليبي إبراهيم الكوني بأنها "عرّابة الثقافة"، فهي الملتزمة بكافة تفاصيل الصالون وشروطه الدولية المعروفة، لتسافر مع القراء سفرا معرفيا أنيقا بصحبة المؤلفين والمبدعين والفنانين، ومن كل أنحاء العالم، مستمرة ضمن مواعيد النقاش كل أسبوعين دون توقف، وعلى ما يبدو لي أنها جمّلت خرائط التخييل عبر القراءة، مع العضوات المشاركات وجميعهن من النساء، بعد أن اختارت أعضاء الملتقى بعناية، وفق معايير اجتماعية وذات سمعة وموهبة والتزام، ومن جنسيات عربية وجغرافية وأديان ومذاهب مختلفة، وجميعهن سيدات لديهن سمعة أكاديمية ونقدية وفنية... أثبتن خلال العقود الثلاثة جودة الفكر والنقاش بشجاعة وحرية وفن، وحتى المشاجرات والاختلافات تأتي بلطف ولباقة، فهنّ مجموعة فريدة من الأكاديميات والمبدعات اللائي يقرأن بعناية ودقة، من أجل أن يكتبن تقاريرهن من شرفة النقد، بالإضافة إلى تقارير رأي، وهن يناقشن مختارات الصالون الجمالية.

أهم الصالونات التاريخية في العالم اتخذت من النقد الأدبي جاذبيتها، وسلطتها المكتسبة وسمعتها الطيبة ومجدها

بشكل شخصي، أعد "صالون الملتقى" استثمارا ثقافيا جماليا، وفي عداد المؤسسات الكبرى، خاصة بعد إطلاق السيدة أسماء جائزة "صالون الملتقى للرواية الأولى"، وبالتعاون مع "دار الآداب اللبنانية" العريقة، وبعد أن حل عليه ضيوف من جميع أنحاء العالم، ومن أبرز الكتاب والشعراء والمفكرين شرقا وغربا، إلى جانب أنشطة ثقافية لم أحصرها.. الصالون يؤدي الجميع فيه وظائفه في مناقشة الأفكار المطروحة، وبات محسوبا ضمن تاريخ أبرز الصالونات الأدبية في العالم، فهو إضافة ثقافية مهمة ليس في نقاش أعمال المبدعين من روايات وقصص وشعر فقط، وإنما نقاش يتعلق أيضا بالفن والإخراج والفكر والموسيقى وحتى الأزياء المستوحاة من الخيال، من خلال عضوات الصالون وحضورهن النقدي والثقافي، ومن خلال الاستقبال والمحادثة واحترام القواعد الاجتماعية، وكأنهن يضمنّ جودة الوقت، وجودة النقاش وجودة مستوى الذكاء والمعرفة، لينظر إلى دورهن الديناميكي والحضاري، وكأننا أمام بلاط جديد للأدب. 
في هذا المناخ الأدبي، وبعد سنوات طويلة، حيث لم يغب عن "صالون الملتقى" النقد الشفهي، أصبح ضيوف الصالون متقبلين النقد غير النمطي حول أعمالهم، فهي صادرة من عقول أنثوية ذكية، تتميز بسعة الاطلاع والسلطة الأدبية، ضمن قواعد اللياقة لا الاستفزاز، فالنقد في الملتقى ليس حكما ثقيلا، وبطبيعة الحال أهم الصالونات التاريخية في العالم اتخذت من النقد الأدبي جاذبيتها، وسلطتها المكتسبة وسمعتها الطيبة ومجدها... 
في هذه الدائرة الإنسانية، ارتبط الصالون بمدينة أبوظبي الراقية، والغنية بجامعاتها ومؤسساتها الثقافية والفكرية، فبعيدا عن الترفيه والاستهلاك، تبقى تجمعات المدينة الخاصة أرستقراطية، ومن فئات ثقافية ولغوية ومكانية مختلفة، ليتأسس الصالون في هذه الأجواء، لكنه ليس شكلا أرستقراطيا كما يظن البعض، بل إنه في الحقيقة تعزز بفعل القراءة، وتفكيك النصوص، وأنشأ تواصلا عميقا بين المؤلفين، والنقاد ودور النشر، وأحدث تقاربا في قطاعات مختلفة، فأدى الصالون دوره الحقيقي، وبقي استثمارا أدبيا محسوبا للفكر الإنساني.

font change