"فيما يقترب صراعان رئيسان في المنطقة من نهايتهما، يؤكد رئيس بلدية إسطنبول، عقب اجتماع رؤساء البلديات الأخير من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن المدن الكبرى في الشرق الأوسط قادرة على لعب دور محوري في إعادة إعمار المراكز الحضرية التي دمرتها الحروب، واستعادة سبل العيش، وتعزيز التعاون الإقليمي".
آذن دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" حيز التنفيذ، باقتراب الصراع الدائر منذ خمسة عشر شهرا في غزة من نهايته، وبدأت الأطراف المعنية تستعد لإطلاق محادثات إعادة إعمار القطاع المدمر. وفي ظل هذه التطورات، يقف الشرق الأوسط عند منعطف تاريخي، ليس فقط في فلسطين وسوريا، بل في المنطقة بأسرها، التي شكّلت الحروب والنزوح والتدهور البيئي اختبارا قاسيا لصمود شعوبه ومدنه.
وتمتلك المراكز الحضرية إمكانات هائلة لتعزيز التنمية والتعاون الإقليمي. ونحن، القادة المحليون، نتمتع بموقع فريد لإيجاد حلول مبتكرة لمواجهة التحديات الملحة في المنطقة. وهو ما دفعني لدعوة رؤساء بلديات ومحافظين من مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للاجتماع في إسطنبول، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، لمناقشة سبل تحقيق ذلك.
أزمة سوريا وفلسطين...
تُبرز أزمتا سوريا وفلسطين الحاجة الملحّة إلى إيجاد حلول مستدامة. ففي سوريا، تسبب أكثر من عقد من الصراع في تشريد أربعة عشر مليون شخص وتدمير مدن تاريخية كانت موئلا لحضارات عريقة. وفي غزة، أدى العنف المستمر الذي تمارسه القوات الإسرائيلية في غزة إلى تدمير آلاف المنازل وتشريد عشرات الآلاف من العائلات الفلسطينية.
كانت المدن عبر التاريخ مهدا للديمقراطية وموئلا للحضارة. وقد شهد الشرق الأوسط فترات من الازدهار الحضاري عندما كانت مدنه نابضة بالحياة
وفي هذه الأوقات العصيبة، أثبتت إسطنبول، التي أُوليت قيادتها للمرة الثانية، أنها نموذج يُحتذى به في التعاون الإقليمي والإدارة الحضرية الفعالة. ففي مارس/آذار 2024، حقق حزب "الشعب الجمهوري" المعارض، الذي أنتمي إليه، انتصارا كبيرا على المستوى الوطني، مما يعكس تصاعد الطلب الشعبي من أجل قيادة ديمقراطية وتقدمية في مواجهة النزعات الاستبدادية والاستقطاب السياسي.
ولطالما كانت إسطنبول، التي صمدت في مواجهة كل الصعوبات، ملاذا للمضطهدين. فمنذ استقبالها لليهود الفارين من إسبانيا في عام 1492، إلى استضافتها اليوم ما يقرب من مليوني سوري وآلاف اللاجئين الآخرين الفارين من الحروب والمعاناة، كانت إسطنبول– ولا تزال– تقدّم نموذجا حيا لكيفية تكيف المراكز الحضرية مع التحديات المعقدة والتصدي لها.
وبفضل تعدادها السكاني الذي يتجاوز 16 مليون نسمة، تمتلك إسطنبول خبرة واسعة في تقديم الخدمات البلدية، مثل إدارة المياه والنفايات، مما يوفر رؤى قيمة حول إعادة بناء المدن المدمرة، مثل حلب ودمشق في سوريا، وغزة في فلسطين.
ولكن إسطنبول أكثر من ذلك، ولا يقتصر نموذجها على تطوير البنية التحتية فحسب، بل يقوم على أسس العدالة والشمول والابتكار، وهو نهج آمل أن يكون مصدر إلهام للمدن المنكوبة بالحروب في المنطقة.
إرث من الصمود والتكيف
لقد كانت المدن عبر التاريخ مهدا للديمقراطية وموئلا للحضارة. وقد شهد الشرق الأوسط فترات من الازدهار الحضاري عندما كانت مدنه نابضة بالحياة. ففي العصر العباسي، برزت بغداد كمركز عالمي للمعرفة، بينما لعبت المدن إبان الحقبة العثمانية كحلب والقاهرة وإسطنبول أدوارا رئيسة كمراكز للتعايش الثقافي والتجارة والدبلوماسية.
وقد بات لزاما علينا اليوم أن نستعيد هذا الإرث. وباعتبارها أقرب المؤسسات الإدارية إلى المواطنين، تمتلك المدن الحضرية دورا حاسما في تعزيز التعايش، وتقليل الفجوات الاجتماعية، ومنع الأزمات المحلية من التحول إلى صراعات دولية.
بصفتي رئيسا لاتحاد بلديات تركيا، سأرسل قريبا وفدا من الخبراء إلى دمشق ومدن سورية أخرى لتقييم الاحتياجات المحلية، واستكشاف الحلول الممكنة بالتعاون مع المحافظين السوريين الجدد
وتنعكس هذه الرؤية في "إعلان إسطنبول"، الذي وقّعه عدد من القادة المحليين خلال اجتماع رؤساء البلديات من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في إسطنبول يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 2024. وقد آلينا على أنفسنا أن نبني، من خلال الالتزام بتعزيز التبادل الثقافي والاقتصادي واستمرار الحوار وتعزيز التعاون المشترك، شبكة تضامن قوية لمواجهة التحديات المشتركة، مثل الفقر والتهجير والتدهور البيئي.
وللمضي قدما، أمامنا مهام رئيسة ثلاث:
الأولى هي إعادة بناء المدن
إن إعادة إعمار المدن بعد فترات الصراع مهمة شاقة، ولكنها فرصة في الوقت نفسه لإعادة تصور الحياة الحضرية. لتحقيق بيئات شاملة ومرنة ومستدامة، وينبغي أن تتجاوز جهود التعافي مجرد استعادة ما فُقد، فنعمل على بناء مدن ذكية تلبي الاحتياجات الملحة اليوم وتواجه تحديات المستقبل من خلال الابتكار والعدالة الاجتماعية.
في غزة وسوريا، يتطلب الدمار الذي لحق بالبنية التحتية ونزوح السكان تعاونا إقليميا. وإسطنبول مستعدة لنقل خبراتها في التخطيط الحضري وترميم التراث وإشراك المواطنين والتنمية المستدامة. ولا بديل في هذا المجال عن تعزيز الشراكات مع المنظمات الدولية لتطوير برامج متكاملة للتعافي بعد النزاعات، تركّز على الإسكان الميسور التكلفة والمساحات الخضراء وضمان الوصول العادل إلى الخدمات العامة. وستسهم هذه الجهود– جنبا إلى جنب مع إعادة الإعمار المادي، في تعزيز التماسك الاجتماعي ودفع عجلة الاقتصاد وإحياء الأمل في المجتمعات المتضررة.
وبصفتي رئيسا لاتحاد بلديات تركيا، سأرسل قريبا وفدا من الخبراء إلى دمشق ومدن سورية أخرى لتقييم الاحتياجات المحلية، واستكشاف الحلول الممكنة بالتعاون مع المحافظين السوريين الجدد.
الثانية هي استعادة الحياة
ينبغي ضمان أن سكان غزة والنازحين السوريين العائدين إلى ديارهم لن يواجهوا عناء وضنكا جديدين. وفي كلتا الحالتين، يقع على عاتق القوى الإقليمية والمجتمع الدولي مسؤولية تأمين عودة آمنة وكريمة للمهجرين وتوفير الدعم اللازم لإعادة بناء حياتهم في مدنهم التي دمرها النزاع.
وتلعب المدن الإقليمية دورا محوريا في هذا السياق. ومثال ذلك ما يمكن أن تلعبه برامج التدريب المهني في إسطنبول، التي يمكن الاستفادة منها في تزويد النازحين بالمهارات الأساسية في الحرف اليدوية وريادة الأعمال، مما يمكّنهم من المساهمة بفعالية في إعادة إعمار مجتمعاتهم. وستعزز هذه الحلول المحلية والمستدامة الاندماج الاجتماعي، وتضع أسس دولة ديمقراطية شاملة للجميع.
يمكن للمراكز الحضرية أن تلعب دورا رئيسا في تخفيف الأزمات الكبرى ووضع الأسس لمستقبل أكثر استقرارا وازدهارا
والثالثة هي تعزيز الروابط
إن الوحدة والتضامن بين مدن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ليسا مُثُلا عليا فحسب، بل ضرورة حتمية لتحقيق التقدم والتنمية المستدامة في حياة المواطنين اليومية. فقد عانت المنطقة لعقود من الصراعات والفقر والأزمات البيئية، وهي تواجه تحديات هائلة تتطلب استجابة جماعية.
ولتحقيق تعاون إقليمي فعال، يجب أن تركز المدن على تعزيز الشراكات والتفاهم المتبادل. فلا يمكن لأي مدينة أن تكون آمنة أو مزدهرة إذا كان جيرانها يعانون من النزاع أو الفقر.
ويوفر "إعلان إسطنبول" إطارا واضحا لهذا التعاون. فمن خلال تعزيز الحوار المستمر وتكثيف التبادل الثقافي والاقتصادي وإقامة شراكات مع المنظمات الدولية، يمكن للمدن إنشاء شبكات إقليمية عابرة للحدود تعزز النمو المتبادل والقدرة على الصمود. وبالتوازي، يتعين على المدن الانخراط بشكل أكثر فاعلية في جهود السلام العالمية، وزيادة تأثيرها في المنصات الدولية لتأمين الدعم والموارد اللازمة. وبالتوازي مع ذلك، يجب على الحكومات الوطنية تمهيد الطريق لتعاون أقوى بين القادة المحليين عبر الحدود.
وباختصار، يمكن للمراكز الحضرية أن تلعب دورا رئيسا في تخفيف الأزمات الكبرى ووضع الأسس لمستقبل أكثر استقرارا وازدهارا. ومن خلال التركيز على إعادة بناء المدن، واستعادة سبل العيش وتعزيز الروابط الإقليمية يمكن إحياء الحضارة والديمقراطية، اللتين انبثقتا تاريخيا من المراكز الحضرية، ليجدا من جديد أرضية صلبة للنمو والازدهار.
* رئيس بلدية إسطنبول ورئيس اتحاد بلديات تركيا