مصطفى سعيد لـ"المجلة": أم كلثوم أنجح "بوب ستار" عربية

عدم وقوفها على المسرح في آخر أيامها كان خيرا لها

AlMajalla
AlMajalla

مصطفى سعيد لـ"المجلة": أم كلثوم أنجح "بوب ستار" عربية

يضع الموسيقي والباحث المصري مصطفى سعيد كلامه عن أم كلثوم في سياق قراءته المختلفة لها بوصفها عصرا أحاطت به الكثير من الأساطير وصنعت آلته الترويجية أصناما في الموسيقى والغناء. هنا حوار "المجلة" معه حول ظاهرة أم كلثوم.

  • ألا تزال أم كلثوم تمارس تأثيرا على الموسيقى اليوم؟ وهل تسجيل أغانيها بأصوات مختلفة ومحاولة تقمصها على المسارح العربية تجسيد لهذا الأثر؟ أم أنه نوستالجيا موسمية لزمن الطرب؟

يصلح التعامل مع أم كلثوم بصفتها الموسيقية وبصفتها عصرا. هي عند بعض الناس أو غالبيتهم، بمن فيهم الموسيقيون، عصر، سواء أطلقوا عليه "الذهبي" أو "زمن الفن الجميل". لكننا لا ينبغي أن نخلط بين أمرين: الزمن والتعصب للماضي ومسألة الموسيقى عند أم كلثوم. لنفترض أن هذه الأغاني لحنت لأم كلثوم فقط، فهل إذا غناها صوت آخر تكون أغنية أم كلثوم أم أغنية من كتب ولحن؟ أما إذا تعمد من يغني أن يقلد أم كلثوم فهنا نتكلم عن ببغائية، وليس بهذا تجديد إلا إذا اعتبر معتبر أن إعادة توزيع اللحن أو مرافقة أوركسترا هما من باب التجديد، ولست أراه هكذا.

أغاني أم كلثوم إرث ومشاع إبداعي ونحن نستعيدها بصفتها عصرا. لكن ليس كل قديم جيد، وفي زمن الاضمحلال والضعف والهزيمة يصبح كل ما له شرعية القديم جيد

أغاني أم كلثوم إرث ومشاع إبداعي ونحن نستعيدها بصفتها عصرا. لكن ليس كل قديم جيد، وفي زمن الاضمحلال والضعف والهزيمة يصبح كل ما له شرعية القديم جيد ومطلوب لأنه قديم، وليس لأنه العصر الذهبي. هذا بسبب الهزيمة التي تمر بها الأمة. الآن يطلقون على أغاني ذلك العصر أغاني الفن الجميل والعراقة والأصالة، ولكن من فتح باب الاستيراد؟ مثلا عندما غنى محمود شكوكو "السح الدح امبو" سنة 1969 سجلها في الإذاعة فنجحت وكانت حلوة، وحين غناها المطرب الشعبي أحمد عدوية بعد أربع سنين هوجم وقالوا عيب، ذلك لأنه قدمها خارج الإطار الرسمي، رغم أن عدوية نفسه قدم بيرم في "مراد ابن آدم". وفي العودة إلى أغاني أم كلثوم، يا ترى كيف نظرت هي نفسها الى ما قدمته خلال العشرين سنة الأخيرة من مسيرتها؟ أكانت نظرتها ذاتها الى أغانيها في الثلاثينات؟ ولنفترض أن العصر الذهبي هناك فعلا، فمن فتح باب الاستيراد أصلا؟ وهل الأغاني التي من ذلك العصر بها استيراد؟

Keystone-France/Gamma-Keystone via Getty Images
أم كلثوم تحيي جمهورها خلال حفلها في قاعة الأولمبيا في باريس

مراحل

  •  في الحديث عن مراحل مسيرة أم كلثوم، كيف تغير غناؤها من الثلاثينات حتى آخر عشرين سنة؟

أم كلثوم التي غنت "أهل الهوى" مختلفة عن التي قدمت "ألف ليلة وليلة"، وعن التي غنت الطقاطيق الخفيفة مثل "ما تروق دمك"ـ ثمة في هذه الطقاطيق الخفيفة من مظاهر الموسيقى العربية أكثر مما في بعض أغانيها في آخر عقد من حياتها. هناك أربعة عشر تسجيلا لـ"أهل الهوى"، كل مرة قدمتها بصيغة مختلفة، ولم تفعل ذلك في "ألف ليلة وليلة" مثلا. في الغناء العربي الأداء يعد جزءا من التلحين. وفي الموسيقى الأوروبية يكون الأداء الأفضل لمن ينفذ إرادة الملحن أفضل تنفيذ، وعليه ألغيت شخصية المؤدي. نحن من لدينا التعدد والتأويل والرأي والرأي الآخر، حتى العازفون أحرار في تأويل اللحن من وجهة نظرهم، يظهر ذلك مثلا في "حبيبي يسعد أوقاته"، حتى الست كانت تغني وهي مرتاحة. فلو جاءت مغنية تريد تقديم هذه الأغنية وسمعتها من زكريا أحمد وأم كلثوم فستخرج بصيغة جديدة.

الفصحى تبرز الشيخة التي في داخل أم كلثوم، وهذه تظهر أحيانا في بعض الأغاني العامية مثل "الأولة في الغرام"

  •  ما الفرق في غناء أم كلثوم بالفصحى عنه بالعامية؟

الفصحى تبرز الشيخة التي في داخلها، وهذه تظهر أحيانا في بعض الأغاني العامية مثل "الأولة في الغرام"، فاللحن إذا كان فصيحا، يكون الغناء هكذا، يظهر مقدرتها على المدود والإقصار وعلى التلاوة وضبط مخارج الحروف، رغم أنه كانت لديها مشكلة في حرفي الثاء والظاء.

نوعان من الحب

  •  كانت "الست" محاطة دائما بنوعين من الحب، حب الجماهير وحب النخبة من شعراء وموسيقيين، بل وشاعت قصص عشق بعضهم لها. هل للقطيعة التي صنعتها أم كلثوم مع صورة المغنية المغناج المتراقصة اللعوب، التي كانت شائعة مطلع القرن العشرين، دور أساسي في هذا؟

هذه أسطورة. أسما الكمسرية، والحاجة ساكنة، والحاجة السيدة السويسية، هؤلاء الثلاثة كن يغنين بالطريقة نفسها، محتشمات على التخت، أي خشبة المسرح. كانت أم كلثوم في كنف المشايخ، فلما ذهبت إلى القاهرة غنت بداية الأمر غناء "العوالم" الحديث حينئذ في العشرينات، "الخلاعة والدلاعة مذهبي". مثلا، وهذا نمط مختلف عن غناء العوالم الأصلي، يطول الحديث فيه. أما عن حب الشعراء والملحنين، أعني محبتهم لها حب رجل لسيدة، فلا دليل على غالب ذلك، وأراه كلاما مبالغا فيه. سمعت عشرات اللقاءات والجلسات الخاصة، يتكلم فيها أحمد رامي، منها شريط في بغداد، لم يأت مرة على ذكر شيء من هذا الحب. كان يتكلم عن عشقه لصوتها الجميل الاستثنائي وليس حب رجل "دايب في دباديب" امرأة، والقصبجي كان ينفذ معها مشروعه في التلحين، فلما قل اهتمامها بألحانه، أصبح عزفه معها في الفرقة مصدر دخل لا أكثر. نحن من صنع هذه الأساطير، مقلدين الغرب الذي قال إن بيتهوفن قاد الأوركسترا وهو أصم. هناك حاجة لتسويق هذه الأساطير. الدراما تحتاج إلى هذه القصص لأنها تنفع في المسلسلات وتتلاءم مع منطق البيع. قبل الخمسينات كانت الصحافة تمدح أم كلثوم حينا وتهاجمها أيضا، مثل أي شخصية عامة. وليس لي قصد هجوم عليها إطلاقا، بالعكس، أحب سماع أم كلثوم وأتأثر بألحان كثيرة لُحّنت لها.

أحمد رامي لم يأت مرة على ذكر شيء من حبه لها. كان يتكلم على عشقه لصوتها الجميل الاستثنائي وليس حب رجل "دايب في دباديب" امرأة

  •  تنفي بإصرار قصة حب أحمد رامي لها التي قيل عنها الكثير ...

نعم، ما لم أسمع منه بصوته أنه يحب أم كلثوم حب الرجل للمرأة.

  • كتبت ورقة بحثية ذات مرة عن غناء أم كلثوم لـ"أراك عصي الدمع" بلحنين مختلفين، لماذا قدمت هذه القصيدة مرتين وما هي قصتها؟

ما حدث من تلحين القصيدة مرة أخرى مرتبط في الواقع بحالة الانفصام في تلك الفترة. ما التطور؟ هل هو أن نأخذ ما لدينا  من إرث وننقله من طور إلى طور، أم أنه أن يكون المغلوب مولعا بتقليد الغالب لأن الهزيمة توحي إليه أن مشابهة الغالب قوة يدرأ بها ضعفه الذي جنى عليه تلك الهزيمة. "أراك عصي الدمع" في الأصل لحن لعبده الحمولي، أخذه عبد الحي حلمي وسجله أربع مرات ولا واحدة منها تشبه الأخرى. قلت إن التلحين في الثقافة العربية يقبل التأويل وإن الأداء جزء من التلحين، لهذا جاء زكريا أحمد وأول لحن الحمولي ليظهره- بصوت أم كلثوم-  في حلة جميلة؛ هؤلاء الناس نوابغ، كانوا يعرفون أنفسهم جيدا. ثم جاء السنباطي وأدخل الپيانو، رمز حداثة ما بعد الاستعمار في ذاك الزمن، فأنت تريد أن تكون الغالب، وأضاف مقدمة أشبه بسمفونيات ودخلات فاغنر، وأدخل شيئا من البيات والرست، لقد كانت عملية قص ولصق. أيّ لحن أشبه بنا؟ السنباطي؟ لا، وأظن أن الحمداني لو سمعه لأنكره تماما. حتى لفظ أم كلثوم في تسجيل الأغنية سنة 31 أفضل من تسجيل 64، لأن اللحن لا يساعد على حسن اللفظ. قد يبدو ظاهر كلامي هجوما شديدا، وربما لو كنت مكانهم كنت فعلت مثلما فعلوا، فقد كانت الهزيمة ثقيلة. لكن ما الدرس المستفاد من ذلك؟ أما آن لنا امتصاص الهزيمة أمام الغرب، أن نستوعبها، لقد أصبحت موسيقانا غريبة عنا.

لم يكن بين عبد الوهاب وأم كلثوم أي خصومة سوى في انتخابات نقابة الموسيقيين وكانا كثيرا ما يلتقيان ويغنيان معا

  •  لحنت بدورك رباعيات الخيام على نحو مختلف أيضا...

أحمد رامي نوّع على الرباعيات في شعر جيد من بحر السريع، وقام بإعادة صياغة المعاني عن نسخة ترجمة فيتزجيرالد لها، قدم رياض السنباطي لحنا جميلا من تأويل أحمد رامي للرباعيات، لحنا يشبه عصره، يبدأ باللهو واللعب، ثم التفكر والتدبر، ثم التوبة والاستغفار. أما أحمد الصافي النجفي الذي لحنت تعريبه، فترجمته مبنية على الرباعيات الفارسية التي أتقنها كأنها لغته الام، أقام في نيسابور ثماني سنوات ليفهم أبعاد كل كلمة ينقلها. لذلك لا تصح مقارنة عملي بالرباعيات التي غنتها أم كلثوم. لكن المقارنة تصح بين نسخة أم كلثوم وتلك التي لحنها منير بشير في الثمانينات عن قصيدة رامي وغنتها نونا الهنا، أو التي لحنها السنباطي أيضا عن قصيدة رامي وغنتها نجاة.

STRINGER / AFP
أم كلثوم

أم كلثوم وعبد الوهاب... ومفقودات

  •  بما أننا نتحدث عمن أدخلوا الغربي أو الأفرنجي كما تقول على اللحن العربي، فلا بد من التوقف عند عبد الوهاب. هل كانت الخصومة المزعومة بينهما نتاجا لشخصيتين متنافرتين، أو أدوارا متعلقة بالمرأة والرجل في وسط شديد التنافس والاحتراف؟

جيد أنك قلت الخصومة المزعومة. لأنها مادة جيدة للتجارة، خصوصا عند جماعة الجندرية، لم يكن بين عبد الوهاب وأم كلثوم أي خصومة سوى في انتخابات نقابة الموسيقيين التي فازت بها أم كلثوم وكان عبد الوهاب يتطلع إليها، فقد كان يريد المال والسلطة، وقد جمع الأول من شركة التسجيلات التي أسسها "كايروفون". وأم كلثوم عندما تركت شركة "أوديون" بعد فيلمها "وداد" كانت تسجل عند عبد الوهاب قبل أن يلحن لها، وكثيرا ما التقيا ولهما حكاية عن غنائهما "والله تستاهل يا قلبي" و"على قد الليل" في تكريم للشيخ سيد درويش. وكانت تذهب لحضور أفلامه وتُعلق عليها، مثلما حدث بعد حضورها "ممنوع الحب" حكاية مشهورة حكاها عبد الوهاب في ذكرياته، يطول الحديث فيها.

AFP
صورة من أوائل السبعينات تظهر أم كلثوم في القاهرة

  •  إذا أردنا الخروج من الصورة المثالية الراسخة، ما الخطأ الذي ارتكبته "الست" في مسيرتها الغنائية في نظرك؟

وقوفها على المسرح في آخر أيامها. كان الأفضل لها أن تسجل أغنياتها في استوديوهات كما فعل عبد الوهاب والشيخ رفعت الذي كان يقرأ في الجامع فقط آخر أيامه لكي لا يهين تاريخه. بعد مئة عام، حين تزول الهالة والقدسية التي صنعها الناس، ستصبح هذه الأمور مادة للسخرية. سينظرون إلى أم كلثوم كـ"بوب ستار" ناجحة، بل أنجح "بوب ستار" عربية. ورغم أنها تأخرت في الاستيراد عن الباقين، وكانت تتأنى في هذه المسألة وذلك لأنها بنت مشايخ أصلا، غير أنها خضعت لقانون السوق لأنها ديفا، وليتها بقيت في الإطار العربي، فهي التي كانت تصنع الموضة.

من تسجيلات التجارب التي لم تنشر تسجيل مختلف لـ"ما تروق دمك" وعدة طقاطيق ليست في المتناول، وحفلة "يا قلبي بكرا السفر"

  •  هل هناك تسجيلات مفقودة لأم كلثوم أو لا يمكن الاطلاع عليها بسهولة؟

من المفقودات أغنية "كل الأحبة". وغالبية حفلاتها قبل الخمسينات لم تسجل، فضاعت بعدم تسجيلها ألحان كثيرة. ومن التسجيلات النادرة: مثلا سمعتها مرة في تسجيل لـ"إفرح يا قلبي" بتقول قوالة قوية جدا، وعموما تسجيلات قاعة "إيوارات" في الجامعة الأميركية أندر من غيرها. من تسجيلات التجارب التي لم تنشر تسجيل مختلف لـ"ما تروق دمك" وعدة طقاطيق ليست في المتناول، وحفلة "يا قلبي بكرا السفر"، وأيضا جلسات عند التابعي ومصطفى بيه رضا مؤسس نادي الموسيقي العربية، هذه أيضا ليست في المتناول. لكن أم كلثوم كانت فطنة جدا لأهمية التوثيق، فهي سيدة أعمال وكانت حريصة على توثيق نفسها. سألت الإذاعة ذات مرة عن تسجيل حفلة في الأربعينات غنت فيها "يا طول عذابي"، فقيل لها إن التسجيل ضاع، فغنتها بعد عشر سنوات في استوديو، ثم عثر على التسجيل الأول فأصبحت لدينا نسختان من "يا طول عذابي".

font change