المعارضة التركية وتسييس القضاء

ترفض حكومة حزب "العدالة والتنمية" الاتهامات بتسييس القضاء

أ.ف.ب
أ.ف.ب
متظاهرون يحملون لافتات ويهتفون بشعارات لدعم زعيم المجتمع المدني عثمان كافالا بعد الحكم عليه بالسجن مدى الحياة، إسطنبول في 26 أبريل 2022

المعارضة التركية وتسييس القضاء

هزّت تركيا مؤخرا سلسلة من المآسي والاعتقالات التي طالت فئات متنوعة، بينهم سياسيون ومديرو وكالات إدارة المواهب وصحافيون ومواطنون عاديون.

ففي 17 يناير/كانون الثاني، اعتُقل رئيس بلدية منطقة بشيكتاش في إسطنبول، المنتمي إلى حزب "الشعب الجمهوري"، أبرز أحزاب المعارضة، بتهمة الفساد.وقبل بضعة أشهر، اعتُقل رئيس بلدية منطقة إسنيورت في إسطنبول بتهمة الانتماء إلى منظمة إرهابية. وبعد أيام، أُلقي القبض على أوميت أوزداغ، زعيم حزب "النصر القومي" المعروف بصراحته، بتهمة إهانة الرئيس.وكان أوزداع قد صرح خلال اجتماع حزبي عُقد في 19 يناير قائلا: "لم تُلحق أي حملة صليبية خلال الألفية الماضية ضررا بالأمة التركية والدولة التركية بقدر ما ألحقه أردوغان وحزب العدالة والتنمية".

وبعد أيام قليلة، تصدرت الأنباء اتهامات موجهة إلى عائشة باريم، صاحبة إحدى وكالات المواهب في تركيا. ففي البداية، وُجهت إليها اتهامات باحتكار سوق الممثلين والممثلات في المسلسلات التلفزيونية. وفي مرحلة لاحقة، ظهرت مزاعم بشأن تورطها في أنشطة غير أخلاقية (دعارة).وبعد ذلك، زعم المدعي العام أنها كانت من بين منظمي المظاهرات الحاشدة التي شهدتها تركيا عام 2013، والمعروفة بـ"احتجاجات منتزه غيزي"، عندما خرج الملايين إلى الشوارع وهزوا حكومة حزب "العدالة والتنمية".

وأخيرا، اعتُقلت عائشة باريم في 24 يناير بتهمة "محاولة الإطاحة بحكومة الجمهورية التركية ومنعها من أداء مهامها". ووفقا لتقارير الصحافة التركية، زعمت لائحة الاتهام التي قدمتها النيابة العامة أن باريم كانت من بين المنظمين، وحثّت الممثلين والممثلات الذين تدير أعمالهم على المشاركة في الاحتجاجات. واستجوبت الشرطة عددا من الشهود وفتحت تحقيقا مع اثنين منهم، خالد أرغينتش ورضا قوجه أوغلي، بتهمة تضليل المحققين من خلال تقديم إجابات تصب في صالح عائشة باريم.

يُعد خالد أرغنتش من أبرز الممثلين الأتراك، واشتهر بتجسيده لشخصية السلطان سليمان القانوني في مسلسل "حريم السلطان"، أحد أكثر المسلسلات التركية شهرة، والذي حظي بمتابعة واسعة في الشرق الأوسط والكثير من دول العالم.

وفي الوقت نفسه، شهدت تركيا مأساة مروعة عندما اندلع حريق هائل في "كارتال كايا"، أحد أشهر منتجعات التزلج في بولو، مما أسفر عن مقتل 78 شخصا. وبما أن الحادث وقع خلال عطلة منتصف الفصل الدراسي، فإن 36 من الضحايا الذين لقوا حتفهم في الفندق كانوا من الأطفال.

يرى سياسيون معارضون ومحللون أن اعتقال أوميت أوزداغ، رئيس حزب "النصر"، يهدف إلى قمع الجماعات القومية التي قد تعارض ما يُعرف بـ"مبادرة المصالحة"

وكان الفندق يعاني من الكثير من أوجه القصور والإهمال الجسيم، ما جعل المأساة أفدح. وسرعان ما تبادلت وزارة الثقافة والسياحة، وبلدية بولو، وإدارة الإطفاء، الاتهامات بشأن الإخفاقات التي أودت بحياة العشرات.وفُتح تحقيق في الحادث، وأسفر عن اعتقال 19 شخصا، من بينهم نائب رئيس البلدية، ومدير إدارة الإطفاء، ومالك الفندق، وفني الكهرباء المسؤول عن صيانة المبنى، بينما لم يجر اعتقال أي من مسؤولي وزارة الثقافة والسياحة، الجهة المعنية بتفتيش هذه المنشآت.وأكد وزير الثقافة والسياحة أن وزارته ليست مسؤولة عن الحادث، ولم يجرؤ أي مسؤول على تحدي هذا الموقف، مما أثار استياء شعبيا واسعا.

أ.ف.ب
الممثل التركي خالد أرغنتش

يُذكر أن الاعتقالات التعسفية خلال السنوات العشر الماضية باتت ظاهرة مألوفة في تركيا.فخلال هذه السنوات، أُقيل 147 رئيس بلدية من مناصبهم، وكانت الغالبية العظمى منهم تنتمي إلى حزب "المساواة والديمقراطية الشعبية" (DEM)، وجرى تعيين أوصياء حكوميين بدلا منهم.

ومن بين أبرز الأحداث التي شهدتها البلاد أيضا، اعتقال عدد من الجنرالات المتقاعدين، الذين وُجهت إليهم في عام 2021 تهمة محاولة الإطاحة بالحكومة. وأمضى هؤلاء الجنرالات سنوات في السجن، ولكن نظرا لتقدمهم في السن، حيث تجاوزوا الثمانين عاما، أُطلق سراحهم في عام 2024 بموجب عفو رئاسي.

ولا يزال عثمان كافالا، رجل الأعمال التركي والناشط في مجال حقوق الإنسان، قيد الاعتقال منذ عام 2017 بتهمة تنظيم احتجاجات منتزه غيزي.أما صلاح الدين دميرطاش، الرئيس المشارك لحزب "الشعوب الديمقراطية"، سلف حزب "المساواة والديمقراطية الشعبية" (DEM)، فقد وُضع رهن الاحتجاز منذ عام 2020 بتهم تتعلق بـ"الانتماء إلى منظمة إرهابية مسلحة" و"ارتكاب جرائم نيابة عن المنظمة".

ولم تقتصر استهدافات السلطة القضائية على الشخصيات العامة فحسب، بل طالت أيضا مواطنين عاديين، حيث اعتُقل الكثير منهم وسُجنوا بسبب آرائهم التي عبّروا عنها خلال مقابلات في الشارع أو عبر منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي.

ومؤخرا، أعلنت المديرية العامة للأمن التركية عبر حسابها على منصة "إكس"أنه، وبناء على أمر قضائي، جرى اعتقال رجل بسبب تصريحاته "غير اللائقة" خلال مقابلة في الشارع، والتي تناولت الرئيس رجب طيب أردوغان وعائلته.

أ.ف.ب
خلال "احتجاجات منتزه غيزي" في ميدان تقسيم بإسطنبول، مايو 2013

وحتى الآن، لم يُعتقل أي شخص من حزب "العدالة والتنمية" الحاكم أو شريكه في الائتلاف، حزب "الحركة القومية"، رغم انتشار مزاعم واسعة النطاق ضد الكثير من أعضائهما، تتراوح بين قضايا الفساد وصولا إلى تهم القتل.

ويرى المنتقدون أن الحكومة تستغل القضاء لأغراض سياسية، في محاولة لردع الشعب التركي عن النزول إلى الشوارع، وتذكيرهم بالعواقب المحتملة في حال تحدوا نهج السلطة.

ويرى سياسيون معارضون ومحللون أن اعتقال أوميت أوزداغ، رئيس حزب "النصر"، يهدف إلى قمع الجماعات القومية التي قد تعارض ما يُعرف بـ"مبادرة المصالحة"، إضافة إلى كونه خطوة انتقامية ضد حزب "الشعب الجمهوري"، من خلال استهداف البلديات التي فاز بها في الانتخابات المحلية لعام 2023.

يشار إلى أن تركيا تشهد حالة متزايدة من السخط الشعبي، لا سيما بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة وتدهور الأوضاع الاقتصادية، مما يدفع المواطنين إلى التعبير عن استيائهم المتزايد. وفي ظل هذه الظروف، يبدو أن الحكومة تشعر بالقلق إزاء احتمال خروج الجماهير إلى الشوارع، وتسعى بكل عزم إلى ردعهم ومنع أي تحركات احتجاجية.

يُعد أكرم إمام أوغلو شخصية قيادية شعبية، كما يُنظر إليه باعتباره أقوى مرشح رئاسي قادر على مواجهة رجب طيب أردوغان، إذ تفوق شعبيته شعبية الرئيس نفسه

ومن ناحية أخرى، لم تتخذ الحكومة أي إجراءات لمنع الجماعات التي تحتج على الأزمة في غزة أو تلك التي تحتفل بالإطاحة ببشار الأسد في سوريا.

ويرى كثيرون أن الهدف الرئيس للحكومة هو أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، الذي نجح في هزيمة حزب "العدالة والتنمية" في المدينة بعد سنوات من هيمنة الحزب، ليفوز بولاية ثانية.

ويُعد أكرم إمام أوغلو شخصية قيادية شعبية، كما يُنظر إليه باعتباره أقوى مرشح رئاسي قادر على مواجهة رجب طيب أردوغان، إذ تفوق شعبيته شعبية الرئيس نفسه. ويرى معارضو الحكومة أن أردوغان، بعدما أدرك صعوبة هزيمة إمام أوغلو عبر صناديق الاقتراع، يسعى إلى إقصائه باستخدام القضاء كأداة سياسية.

وتواجه بلدية إسطنبول، إلى جانب رئيسها أكرم إمام أوغلو، الكثير من الدعاوى القضائية. ومؤخرا، رفع مكتب المدعي العام الرئيس في إسطنبول دعوى قضائية جديدة ضد إمام أوغلو، مطالبا باعتقاله بسبب انتقاده لأحد الخبراء القضائيين الذي تولى قضايا تتعلق به وببلديات حزب "الشعب الجمهوري". و"الخبراء القضائيون" هي التسمية لآلية قضائية يُكلَّف من خلالها خبراء مستقلون أو مؤسسات متخصصة بمراجعة القضايا بناء على طلب المحكمة، ثم تقديم نتائجهم.

أ.ف.ب
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام صورة مؤسس وأول رئيس للجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك

وخلال مؤتمر صحافي عُقد في إسطنبول يوم 26 ديسمبر/كانون الأول، صرّح أكرم إمام أوغلو بأن من بين 8806 أشخاص مسجلين كخبراء في المحاكم بالمدينة، يجري تعيين الشخص نفسه بشكل متكرر في القضايا المرفوعة ضده وضد بلدية إسطنبول، مشيرا إلى أنه يكتب دائما تقارير تدينه.

كما فُتح تحقيق ضد ثلاثة صحافيين من قناة "هالك تي في"،إحدى أبرز المؤسسات الإعلامية المعارضة، بسبب تغطيتهم لهذه القضية. وفي هذا السياق، صرّح أكرم إمام أوغلو بأن تركيا دخلت مرحلة جديدة بعنوان "لا تقترب وإلا ستحترق"، مؤكدا أنهم لن يخافوا ولن يظلوا صامتين.

وحتى لحظة كتابة هذا المقال، تخضع الصحافية التركية البارزة شيرين بايزين للتحقيق بتهمة "نشر الدعاية الإرهابية،" وذلك بسبب بعض المنشورات التي شاركتها عبر حسابها على وسائل التواصل الاجتماعي.

وفي مقاله الأخير، أكد السفير المتقاعد رضا تورمان، الذي شغل منصب قاضٍ  في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بين عامي 1998 و2008 ويُعد أحد أبرز رجال القانون في تركيا، أن هذه الاعتقالات تفتقر إلى أي أساس قانوني، معتبرا أنها ذات دوافع سياسية.

من جانبها، ترفض حكومة حزب "العدالة والتنمية" هذه الاتهامات، مشددة على أن القضاء مستقل ولا يقوم سوى بواجبه وفقا لما يمليه عليه القانون.

font change