سوريا... شرعية العملية الانتقالية وتعيين أحمد الشرع رئيسا

أن تعيين السيد الشرع رئيسا انتقاليا هو أفضل الحلول السورية

أ ف ب
أ ف ب
الرئيس السوري الجديد احمد الشرع يتحدث امام مسؤولي الفصائل المسلحة في دمشق في 29 يناير

سوريا... شرعية العملية الانتقالية وتعيين أحمد الشرع رئيسا

مع اللحظة الأولى لسقوط نظام الطاغية بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، والتفكير ينصب على الخيار الذي ستسلكه الإدارة السورية الجديدة في ما يتعلق بالغطاء القانوني والدستوري للمرحلة الانتقالية. خرجت الكثير من الأفكار على السطح من مثل الدعوة إلى "مؤتمر للحوار" وقد تردد ذلك على لسان وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أكثر من مرة، وتم تداول عدد المدعوين بأكثر من 1200 مدعو، بيد أن حجم عدد الأعضاء الكبير هذا جعل من قابلية تطبيق هذه الفكرة مستحيلا.

لذلك تم تجاوز هذه الفكرة والبحث عن أفكار أكثر عملانية، فجرى تداول فكرة "المؤتمر الوطني" على غرار فكرة "المؤتمر السوري" العام في يونيو/حزيران 1919، لكن أعضاء ذلك المؤتمر التسعين كانو أعضاء في "مجلس المبعوثان" العثماني ممثلين عن مناطق بلاد الشام المختلفة من مثل سوريا ولبنان. صحيح أن التمثيل كان حقيقيا على المستوى المذهبي والديني والثقافي، فتحدّر أعضاء المؤتمر من مختلف عناصر الهيكل الديني والمذهبي السوري، من سنّة وعلويين ودروز ومسيحيين ويهود وأعيان ريف ومثقفين ووجهاء مدن يتمتعون بالقوة الاجتماعية والسياسية في مجموعاتهم، وقد ترأس دورات المؤتمر محمد فوزي العظم وهاشم الأتاسي والشيخ رشيد رضا، لكن التمثيل كان حصيلة الانتخاب على درجتين. لذلك فإعادة تطبيق الفكرة اليوم يدخلك في جدل اللجنة التحضيرية والاختيار والتعيين. إذ ليس هناك إمكانية للقيام بأية عملية انتخاب تمثيلي في الوقت الحالي.

أ ف ب
سوريون يشاهدون الالعاب النارية ليلة رأس السنة في دمشق في 31 ديسمبر

لذلك بدا أمام الإدارة السورية الجديدة خياران فقط، إما العمل بدستور 2012، وهو ما يعني أن يصبح نائب رئيس الجمهورية فيصل المقداد رئيسا انتقاليا، لكن هذا الخيار لم يكن مقبولا أبدا من قبل الشعب السوري، وخاصة القوى الثورية، كما أنه لم يطرح أبدا من قبل المجتمع الدولي الذي بدا مرحباً بساكن قصر الشعب الجديد أحمد الشرع.

لم يكن هناك شك في أن إدارة العمليات العسكرية التي قادت عملية "ردع العدوان" تمتلك الشرعية الثورية ولذلك قام الناطق باسمها بقراءة خطاب النصر وتفويض الشرع

الخيار الآخر هو المضي قدما في خيار الشرعية الثورية، وهو مفهوم مؤقت واستثنائي، ينتهي بانتهاء الحالة الثورية أو الفترة الانتقالية. ويختلف عن مفهوم الشرعية كما عرّفها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، وذلك لأن هذا المفهوم يعبر عن درجة غير عادية واستثنائية من الوحدة الشعبية وهو ما دعيت إليه منذ اللحظة الأولى، لكن كيف يمكنك أن تبني مؤسسات الشرعية الثورية هذه؟ وجدنا أن نموذج المجالس الانتقالية كما طبقت في عدد من دول "الربيع العربي" مثل ليبيا والسودان يكادان يكونان الأقرب إلى النموذج السوري طبعا مع اختلافات سأشير إليها لاحقا.

وفعلا انحصر النقاش حول طريقة بناء هذه الهيئة الانتقالية والتي من شأنها أن تحقق ثلاثة مبادئ رئيسة: الأول تحقيق جوهر القرار 2254 الذي تحدث عن "Transitional Body" (جسم انتقالي)، ويضمن تمثيل كل القوى السياسية والاجتماعية والطائفية والإثنية السورية بما يحقق مبدأ الشمولية، وأخيرا يؤسس مجلسا تشريعيا مؤقتا يصدر إعلانا دستوريا مؤقتا للمرحلة الانتقالية ويصدر أيضا القوانين ويمنح الثقة للحكومة الانتقالية ويقر موازنة الدولة ويشكل هيئة مستقلة للانتخابات القادمة وهيئة مستقلة للعدالة الانتقالية.

لم يكن هناك أي شك في أن إدارة العمليات العسكرية التي قادت عملية "ردع العدوان" تمتلك هذه الشرعية الثورية ولذلك قام الناطق باسمها العقيد حسن عبدالغني بقراءة "خطاب النصر" وتفويض الشرع بتشكيل هذه الهيئة، وهو ما يعني رمزيا نقل الشرعية الثورية من إدارة العمليات العسكرية التي حررت سوريا وانتهت في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى الشرع للبدء في العملية السياسية التي انطلقت البارحة.

لقد تضمن "إعلان النصر " مجموعة من القرارات الثورية العامة من مثل حل مجلس الشعب، واللجان المنبثقة عنه. وحل الجيش بهدف "إعادة بناء الجيش السوري على أسس وطنية". و"حل جميع الأجهزة الأمنية بفروعها وتسمياتها المختلفة، وجميع الميليشيات التي أنشأها، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة تحفظ أمن المواطنين".

كما تم حل حزب البعث العربي الاشتراكي، وأحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" (تحالف أحزاب مرخصة من النظام السابق) وتم حظر إعادة تشكيلها تحت أي اسم آخر، كما تم إلغاء العمل بدستور سنة 2012، وإيقاف العمل بجميع القوانين الاستثنائية. وتم تكليف الشرع رئيسا انتقاليا للجمهورية العربية السورية.

ربما كانت طريقة الإخراج الإعلامي غير موفقة كثيرا، إذ كان يجب أن تكون علنية ومباشرة، لكنها حققت الغرض المطلوب في النهاية.

أرى أن تعيين السيد الشرع رئيسا انتقاليا هو أفضل الحلول السورية وقد دعمت تعيينه، فأنا أرى فيه شخصا وطنيا يحتاج منا إلى الكثير من العمل المشترك للوصول إلى الحلم

في كل المراحل الانتقالية يكون من الأفضل تخفيض فترات التعيين بقدر المستطاع حتى تنتقل من الشرعية الثورية إلى شرعية الانتخابات وهو ما فعلته الإدارة عبر الإعلان عن الهيئة التشريعية، وربما فضل البعض تأجيل الإعلان عن الشرع رئيسا ولهؤلاء أقول التالي:
كان ستيفن ليفتسكي صاحب الكتاب الشهير عن الأنظمة المختلطة (Hybrid regimes) قد ميز في كتابه الشهير "التسلطية التنافسية" بين أنواع مختلفة من الأنظمة التسلطية التي تحكم حول العالم، ودرس نماذج الانتقال السياسي في عدد كبير من دول العالم، فله مقولة مشهورة: "مدخلات العملية الانتقالية تحدد مخرجاتها"، بمعنى أن سوريا التي حكمتها مؤسسات طائفية كالجيش والأمن على مدى أكثر من 60 عاما في ظل حكم نظام حزبي واحد تسلطي وغياب للجهاز البيروقراطي وانعدام فكرة القانون والمساءلة، فالنظام الشمولي الذي حكم سوريا يعد النموذج الأكثر انغلاقا وشمولية في المنطقة العربية وربما العالم باستثناء كوريا الشمالية، كما أنه امتد لعقود طويلة، وبالتالي كان متجها نحو تحلل مؤسسات الدولة وأخذها طابعا زبائنيا وعائليا وهو بالتالي يفتح الباب باتجاه إضعاف المؤسسات وتقوية الشبكات ذات المصالح الخاصة داخل الدولة وخارجها التي تجعل من وظيفتها استمرار النظام الحاكم بأي شكل من الأشكال ولو على حساب المصالح الوطنية العليا التي غالبا ما تختفي أو بالأصح تصبح محل وجهات نظر متباينة حولها، وتسود وجهة نظر العائلة الحاكمة في تحديدها لمعنى المصالح القومية العليا.

 أ ف ب
عناصر من قوات الامن اثناء دورية في ضاحية دمر قرب دمشق في 15 كانون الثاني

وفوق ذلك حرب طاحنة امتدت على مدى أكثر من 14 عاما حولت السوريين إلى معتقلين وجياع ولاجئين ما يعني انعدام الطبقة الوسطى التي تقود عملية التغيير، وفوق ذلك عقوبات دولية هي الأشد بعد العقوبات على روسيا وإيران وكوريا الشمالية، بمعنى مدخلات بهذا الحجم لن تقود إلى ديمقراطية أميركية على طريقة توماس جيفرسون، المخرجات ستكون استمرارا للحرب وللفوضى الأمنية. 
لذلك أن تعيين السيد الشرع رئيسا انتقاليا هو أفضل الحلول السورية وقد دعمت تعيينه، فأنا أرى فيه شخصا وطنيا يحتاج منا إلى الكثير من العمل المشترك للوصول إلى الحلم في بناء سوريا الدولة الديمقراطية المدنية لجميع أبنائها وتستعيد دورها الحضاري الذي تستحقه ونفتخر به جميعا. 

font change