البدايات الأولى... مذكرات أم كلثوم كما روتها على صفحات "المجلة"

من شظف العيش في طماي الزهايرة إلى الشهرة والأضواء

AlMajalla
AlMajalla

البدايات الأولى... مذكرات أم كلثوم كما روتها على صفحات "المجلة"

في إطار ملف خاص عن "كوكب الشرق" لمناسبة خمسين عاما على رحيلها، تستعيد "المجلة" مذكرات أم كلثوم كما أملتها على الكاتب المصري الراحل علي أمين، والتي كانت نشرتها في سلسلة حلقات عام 1980. وكانت "المجلة" حصلت من شقيق علي أمين، الكاتب الراحل مصطفى أمين، على حقوق نشر هذه المذكرات التي صدرت المرة الأولى في القاهرة في مطلع الستينات من دون اسم كاتبها. وقد أشرف مصطفى أمين على إعادة ترتيبها قبل أن يسلمها إلى "المجلة". وكان علي أمين كتب المذكرات، بعد أن زار أم كلثوم في بيتها، وقرأت أم كلثوم كل حرف منها، وعدّلت وبدّلت، وأضافت وحذفت. وتضيء هذه المذكرات على ظروف نشأة أم كلثوم وبداياتها وصولا إلى ذهابها إلى القاهرة.

نستعرض في ما يلي مجموعة من المحطات في حياة أم كلثوم الأولى كما وردت في تلك المذكرات، علما أن القارئ يمكنه الاطلاع على المذكرات كاملة عبر هذا الرابط:

الولادة

كانت فاطمة (والدة أم كلثوم) تقيم في بيت ريفي صغير من الطوب النيء، كانت له أبواب عدة تطل على حوش، وكان وراء كل باب حجرة صغيرة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران تقيم فيها أسرة مكونة من زوج وزوجة وبضعة أطفال. وفي إحدى هذه الحجرات رقدت فاطمة المليجي تتلوى من الألم في انتظار المولود. ومع الفجر أطلت المولودة برأسها. وحملت الداية القروية المولودة وخرجت بها إلى المندرة وهي تصرخ: مبروك فاطمة ولدت.

ولم تقل الداية إن فاطمة أنجبت طفلة، فقد خشيت أن تصدم الأب بالخبر.

وكان الأب يجلس على الأرض يقرأ كتابا عن أولاد النبي. وكانت عيناه في تلك اللحظة على اسم إحدى بنات النبي. وقبل أن يسمع أنه رزق بمولود أو مولودة صاح: نسميها باسم بنت النبي... نسميها أم كلثوم. ولم يكن اسم "أم كلثوم" معروفا ولا متداولا في قرية طماي ولا القرى المجاورة، ولهذا بدا اسما غريبا على أسماعهم.

ولم تعارض فاطمة في اختيار هذا الاسم ولكن الأهل والأقارب اعترضوا على الاسم الغريب، وراحوا يحاولون إقناع الشيخ إبراهيم باختيار اسم خفيف، مثل خضرة أو بدوية أو ست الدار.

ورفض الشيخ هذه الأسماء، وأصر على أن يسمي المولودة باسم بنت النبي: أم كلثوم.

تقول أم كلثوم: "يظهر أن أمي كانت تشارك أهل القرية سرا في اعتراضهم على اسم أم كلثوم، لأنني وعيت عليها تناديني باسم "سومة".

وكان والدي أيامها إمام مسجد في قرية طماي الزهايرة، من أعمال مركز السنبلاوي دقهلية، وكان مرتبه من الإمامة لا يكفي للصرف على أسرته، ولهذا كان يقرأ في الموالد. وكان دخله من عمله الإضافي وعمله الأصلي لا يتجاوز عشرين قرشا كل شهر. وكان هذا المبلغ هو الذي يغطي كل شهر نفقات أسرة مكونة من أمي وأبي وأخي خالد وأنا.

يظهر أن أمي كانت تشارك أهل القرية سرا في اعتراضهم على اسم أم كلثوم، لأنني وعيت عليها تناديني باسم "سومة"

ولا أعرف كيف كنا نعيش بهذا المبلغ البسيط. فصورة معيشتنا المتواضعة لا تعيش في ذاكرتي. إن أول صورة أذكرها اليوم هي صورة ستي نصرة، أم أبي. كانت نحيفة سمراء، مسمسمة التقاطيع. أذكرها وقد ارتدت جلبابا أسود وطرحة سوداء وجلسة على الأرض تفصل لي عروسة من القماش وأنا جالسة مسحورة. أذكر أنها عندما انتهت من تفصيل العروسة وملأتها بالقطن رسمت عليها العينين والحاجبين والشفتين، ثم قطعت خصلة من شعرها ولصقتها على رأس العروسة، وأنا أرقب عملية الخلق في دهشة وإعجاب. ولاحظت أن أخي كان يحمل كتبا وكراسات كل صباح ويذهب إلى الكتّاب المواجه لبيتنا، فرحت أبكي أمام أمي وأطالبها بدخول الكتّاب. وقالت أمي: أنت صغيرة السن، ولكني رحت أذرف الدموع وألح على أبي أن يدخلني الكتّاب.

قومي يابت يا فالحة

وتعب أبي من إلحاحي فأدخلني كتّاب سيدنا الشيخ عبد العزيز، وكنت أذهب كل صباح إلى الكتّاب وأجلس في الفصل دون أن أتعلم شيئا. وكنت سعيدة بدخولي الكتّاب، فقد أصبحت لي كل مظاهر أخي الكبير. ولم أنتبه إلى أنه كان يتعلم وكنت أنا أتفرج. وبعد بضعة أشهر سمعت أبي يهمس لأمي عقب صلاة الفجر مرة: "أنا ما اقدرش أدفع مصاريف أم كلثوم... ما عنديش غير قرش واحد أدفعه للولد".

وراحت أمي تلحّ على أبي وترجوه أن يبحث لي عن أي طريقة يدبر بها قرشا آخر حتى لا ينكسر قلبي. لقد كانت مصاريف الكتّاب قرشا واحدا، أدفعه كل أسبوع لسيدنا فقيه الكتّاب. واستطاع أبي أن يدبر هذا القرش، ولم أخرج من الكتّاب.

وتحولتُ مع الأيام من متفرجة إلى تلميذة بعدما رأيت زملائي في الفصل يكتبون ويقرأون. وبدأت أتتبع دروس الشيخ عبد العزيز بعدما كنت أتتبع حركاته ونظراته.

وفجأة طارت سعادتي، وكرهت التعليم والشيخ عبد العزيز. فقد حدث أن أساءت لي زميلتي وجارتي على 'التختة' التلميذة عزيزة، فقررت أن أنتقم منها. وذهبت قبل موعد بدء دخول التلاميذ إلى الكتّاب، وفتحت درج عزيزة وكسرت لوح الأردواز الذي تكتب عليه.

Alamy Stock Photo

وفجأة دخل مفتش وزارة المعارف، فقفزتُ من مقعدي وضربت له السلام. وسأل المفتش عن الشيخ عبد العزيز، فقلت له إنه لم يحضر بعد. وحضر الشيخ عبد العزيز بعد فترة من انتظار المفتش الذي كان يتميز غيظا من تأخر الشيخ!

ولما جاء الشيخ قال له المفتش: 'ما شاء الله! البنت الصغيرة تحضر في الميعاد، وحضرتك تتأخر نصف ساعة.'

وضاق الشيخ عبد العزيز بهذا اللوم، وحمّلني مسؤوليته وراح يضطهدني. في كل مناسبة كان يطرح السؤال، ثم يتجه نحوي دائما ويقول ساخرا: 'قومي يا بت يا فالحة!'

وكان زملائي وزميلاتي يغرقون في الضحك كلما سمعوا كلمة 'فالحة'. وضاقت الدنيا في وجهي وأصبحت أكره الذهاب إلى الكتّاب، حتى لا أقع في قبضة الشيخ عبد العزيز وأسئلته.

كرسي السلطان

وكنا نمشي كل صباح ثلاثة كيلومترات إلى الكتّاب، ثم نمشي ثلاثة كيلومترات أخرى إلى قريتنا. أي أنني كنت أقطع كل يوم ستة كيلومترات مشيا . ولكني كنت أقطع عادة سبعة أو ثمانية كيلومترات بسبب حبي للمغالطة. فقد انضم إلينا صابر ابن زوج أختي، وعمرو وهو من قرية مجاورة، وكنا نحن الأربعة نلعب لعبة كرسي السلطان أثناء عودتنا من الكتّاب. كان كل ثلاثة منا يحملون الرابع من عمود تلفون إلى عمود آخر.

وكنا نختلف عشرات المرات. كان كل منا يدّعي أن هذا هو دوره في الجلوس على كرسي السلطان. وكنت أكثرهم مغالطة وإصرارا بأني صاحبة الدور. ولذلك كنا نرجع عشرات المرات إلى أعمدة التلفون التي مررنا بها، لنبدأ الرحلة من جديد، ونرضي الطفل الذي ادّعى أن دوره في الجلوس على كرسي السلطان.

أذكر ستي نصرة، أم أبي، وقد ارتدت جلبابا أسود وطرحة سوداء وجلسة على الأرض تفصل لي عروسة من القماش وأنا جالسة مسحورة

وبدأت أحب الكتّاب الجديد لأنني كنت أحب لعبة كرسي السلطان. وبدأت مقاومتي للتعليم تتكسر، خصوصا أن فقيه الكتّاب الشيخ إبراهيم وأولاده لم يضطهدوني كما كان يفعل سيدنا الشيخ عبد العزيز. لم يقل لي الأسياد الجدد: قومي يا بت يا فالحة. لم يسخر مني سيدنا الشيخ. لم يركّز أسئلته في الفصل على أم كلثوم، إلا إذا رفعت أصبعها وأبدت استعدادها للإجابة.

وبدأت أحب أساتذتي. وحبي لهم جعلني أحب التعليم وأحب الذهاب إلى الكتّاب.

وكانت حياة طفولتي سعيدة مليئة بالضحكات، إلى أن صحوت في فجر أحد الأيام على صوت همسات بين أمي وأبي، سمعت أمي تسأل أبي عن سر قلقه طوال الليل. وسمعت أبي يقول لها: "العيد جاي ومش قادر أجيب للأولاد جلاليب جديدة في العيد". وأحسست بآلام أبي وأمي.

وعندما طلع النهار ذهبت إلى أمي وقلت لها: "أنا مش عاوزة جلابية على العيد. جلابيتي القديمة حلوة قوي ونفسي ألبسها في العيد". وبكت أمي وراحت تمطرني بقبلاتها- وشعرت وأنا محاطة بذراعيها أنني أرتدي أجمل فستان في الدنيا.

تقليد الأب

ومن الصور التي تعيش في ذاكرتي صورة أبي وهو جالس على الأرض يعلم أخي قصة مولد النبي والقصائد والتواشيح ليساعده في عمله الإضافي الذي يقوم به. وأذكر أنني لم أكن أهتم بالجهود التي يبذلها أبي لتعليم أخي وتحفيظه هذه القصائد. كنت في شغل عنها باللعب مع أجلّ فتاة في الدنيا: عروسة جدتي.

AlMajalla

ولكن يظهر أن التكرار بدأ يتحكم بذاكرتي، لأنني بدأت وعمري خمس سنوات أقلّد أبي من وراء ظهره. أقلده وهو يعلم أخي خالد.

وفي أحد الأيام ضبطني أبي ووقف وراء الباب يرقبني وأنا أقلده. فلما انتهيت من تقليده قال لي: "تعالي معايا إلى حفلة شيخ البلد"! قلت له: "لا.. موش عاوزة أروح. فراح أبي يغريني بالكراملة التي أحبها، فعاندت ورفضت. ولكن لما بدأ يلوح لي بصحن المهلبية الذي أعشقه ذاب عنادي ووافقت على أن أذهب معه إلى الحفلة.

وكانت الحفلة مزدحمة بالناس. فقد بلغ عدد الذين حضروا حوالى خمسة عشر شخصا. وكان هذا العدد بالنسبة إليّ هو الزحام الضخم. وطلب مني أبي أن أجلس بجانبه على الكنبة الخشبية وأغني كما هي عادة المغنين في ذلك الوقت. ولكني رفضت الجلوس، وأصررت على الوقوف فوق الكنبة وبدأت أغني.

ولم يساورني الخوف. لم أضطرب أمام الجماهير. لقد وقفت وغنيت بلا اهتمام وكأني أغني لعروستي الصغيرة. عندما أصبحت مطربة معروفة بتّ أخاف من الجمهور الذي يعرفني وأعرفه، وأحسب له ألف حساب وأنا أواجهه. ولكن لما كان عمري خمس سنوات كنت أكثر ثقة بنفسي. ويظهر أن التجربة هي التي تعلمنا.

عشرة قروش

ولم يخطر في بالي أني سأستطيع في يوم من الأيام أن أكسب قرشا أساهم به في تخفيف أزمات أمي. ولكن في ذات ليلة وجدت في يدي كنزا.

لقد أعطاني صاحب الحفلة الذي غنيت عنده قطعة فضية من ذات العشرة قروش. وأطبقت أصابعي الصغيرة على العشرة قروش في حرص، وكأني أمسك الدنيا كلها في يدي.

عشرة قروش! لقد بدت لي في تلك الليلة أنها أكثر من مال قارون. وتصورت أن العشرة قروش التي أقبض عليها بأصابعي، ستحل كل أزماتنا المالية.

عندما طلع النهار ذهبت إلى أمي وقلت لها: "أنا مش عاوزة جلابية على العيد. جلابيتي القديمة حلوة قوي ونفسي ألبسها في العيد". وبكت أمي وراحت تمطرني بقبلاتها

لقد شاءت الظروف بعد ذلك أن أمسك بأصابعي ألوف الجنيهات، ولكن هذه الألوف لم تهزني ولم تبهرني كما هزتني وبهرتني العشرة قروش!

وحملني أحد المشايخ على كتفه ليعود بي إلى القرية. واستغرقت في نوم لذيذ مريح وأنا قابضة بكل قوتي على الثروة الضخمة. ولما وصلت إلى أمي، فتحت أصابعي وأعطيتها مال قارون، وأحسست ذراعيها وهي تضمني في حنان. واستغرقت في نوم عميق لذيذ.

القطار

لم يعد أبي يقصر جهوده على تدريب أخي خالد على الغناء. بدأ يدربني أنا أيضا. وذاع صيت الطفلة الصغيرة في القرى المجاورة. وخرج هذا الصيت وراء الحدود، حدود القرى المجاورة، وطالت المسافات التي كان يجب أن نقطعها مشيا على الأقدام. وارتفع دخلنا حتى أصبح في قدرتنا أن نركب قطار السكة الحديد، ولكن في الدرجة الثالثة.

AlMajalla

وما زلت أذكر السعادة التي شعرت بها وأنا أركب القطار لأول مرة في حياتي. كان القطار المسافر من محطة السنبلاوين إلى محطة أبو الشقوق. ودخلت عربته ووقفت على المقعد أطل من النافذة ووالدي يمسك بذيل ثوبي.

ثم فوجئت بمنظر غريب أثناء سير القطار. لقد بدأت أشجار النخيل وأعمدة التلغراف تجري أمامي. هزني هذا المشهد العجيب إلى درجة أنه لما وقف القطار في محطة أبو الشقوق أمسكت بالنافذة ورفضت النزول.

ووعدني أبي أني سأعود إلى ركوب القطار غدا، ولكني رفضت أن أصدقه. وهنا أقسم لي بالله، فصدقته. ونزلت من القطار. وذهبنا إلى الحفلة وكانت مقصورة على القادرين. فإن ثمن التذكرة كان قرشا.

عقد الكازوزة

واكتشف أبي ذات يوم اكتشافا مهما، أن المطرب "الصيت" (ذا الصيت الواسع) يشرب الكازوزة في الحفلات. فأضاف إلى عقودنا بندا جديدا يتعهد صاحب الحفلة بتنفيذه. وكان هذا البند أن يتعهد الطرف الأول بأن يقدم للطرف الثاني (أم كلثوم) زجاجة كازوزة. وما فيش حد أحسن من حد! وكنت سعيدة بالحمار الذي أركبه، وطبق المهلبية الذي ألتهمه، وزجاجة الكازوزة التي أشربها.

وبدأت شهرتنا تملأ الآفاق. وكانت الآفاق هي القرى المجاورة لمركز السنبلاوين. ووصل أجري مع الفرقة التي تتألف من خمسة مشايخ إلى مائة قرش عن كل حفلة نقيمها.

AlMajalla

الصورة الفوتوغرافية

وعندما ارتفع أجر الفرقة من مائة قرش الى مائة وخمسين قرشا أصبحنا أغنياء. ورأى أبي أن نقلد الأثرياء. إنهم يلتقطون لأولادهم صورا فوتوغرافية، فلماذا لا نذهب نحن أيضا إلى المصوراتي؟ وذهبنا إلى المصوراتي في مدينة الزقازيق. وأصبتُ أنا وأخي بنوبة من الضحك أمام المصوراتي. فقد كان يقف وراء الكاميرا تحت ملاءة سوداء. وكان هذا الوضع منظرا غريبا جعلنا نغرق في الضحك.

وراح المصوراتي يرجو أبي أن يمنعني أنا وأخي من الاستمرار في الضحك حتى يلتقط الصورة. فأصول التصوير يومها كانت تقضي بألا يضحك أبدا صاحب الصورة، يجب أن يقف جامدا كالتمثال حتى يلتقط المصور صورته. وبعد محاولات متكررة. تحولنا إلى تماثيل والتُقطت أول صورة لنا.

سر العقال

وكان أبي غير مستريح إلى فكرة اشتغال ابنته في الغناء. كان لا يمانع أن يغني ولده، أما أن تغني ابنته فلا. وكان هذا هو السر في العقال الذي وضعته على رأسي بضع سنوات. وكان والدي يريد أن ينسى أن ابنته هي التي تغني. كان يريد أن يوهم نفسه أن أم كلثوم ولد لا بنت!

"ومسحت" بقدمي الصغيرتين القطر المصري قرية قرية، قبل أن أضع قدمي في القاهرة. وشاء حظي أن أترك في كل قرية عددا من المعجبين بصوت الطفلة الصغيرة.

شرط تقديم حمير

ورأى والدي أن يستغل نجاحي وشهرتي، فأصرّ على فرض شرط إضافي على أصحاب الحفلات في القرى المجاورة. وكان الشرط الإضافي أن يتعهد صاحب الحفلة بأن يقدم لنا حميرا تحملنا من قريتنا إلى مكان الحفلة ذهابا وإيابا.

عندما أصبحت مطربة معروفة بتّ أخاف من الجمهور وأحسب له ألف حساب ولكن لما كان عمري خمس سنوات كنت أكثر ثقة بنفسي

وكان "الطرف الأول" ينفذ نصف الاتفاق ويهرب من تنفيذه النصف الثاني. وكان أصحاب الحفلات يرسلون إلينا الحمير لتحملنا إلى مكان الحفلة، فإذا انتهت الحفلة اختفت الحمير. وهكذا كنا نركب ذهابا ونمشي إيابا. ولم تكن المسافات التي نقطعها مشيا على الأقدام أصعب متاعبنا. كان الانتظار على أرصفة المحطات هو تعبنا الأكبر. فقد كنا في كثير من الأيام نقف على رصيف المحطة 12 ساعة كاملة. وكانت القطارات تمر أمام المحطة مرتين، مرة في الساعة السادسة صباحا، ومرة في السادسة مساء.

في القاهرة

اكتشفت أن هناك مدينة جديدة اسمها القاهرة. اكتشفتها بمحض الصدفة. فقد حدث أثناء حديث عابر بين الثري عز الدين يكن وناظر عزبته، أن قال صاحب العزبة إنه سيقيم حفلة في قصره في حلوان كعادته كل عام احتفاء بليلة المعراج، فقال ناظر العزبة: والله عندنا بنت صوتها حلو، فقال صاحب العزبة: هاتها تغني لنا. فسافرنا مع ناظر العزبة لأول مرة إلى القاهرة.

لا أذكر شيئا عن المدينة الكبيرة. صورها الصاخبة لم تعش في ذاكرتي. كل ما أذكره محطة باب اللوق. ففي هذه المحطة اشترى لي والدي "كراملة" أعجبتني وجعلتني أتصور أن القاهرة بلد "الكراملة" الحلوة. وذهبنا إلى قصر عز الدين بك يكن، وخرج صاحب القصر لاستقبالنا، ونظر إليّ من تحت إلى فوق مرات عدة ثم سأل في دهشة: "هي الي حا تقرا في المولد؟". ولما هزّ ناظر العزبة رأسه موافقا صاح عز الدين بك: "إيه لعب العيال ده؟ بلاش كلام فارغ. إنزل مصر حالا وروحوا هاتوا الشيخ إسماعيل سكر يحيي لنا الحفلة".

AlMajalla

ووضعوني مع الخدم في "البدروم" ولم أدهش من هذه المعاملة، ولم أشعر بأي إهانة لحقت بنا. وجلسنا الساعات في "البدروم" والشيخ إسماعيل سكر يغني للمدعوين. واطمأن صاحب الحفلة إلى نجاح حفلته. وقال الثري عز الدين بك يكن للخدم: "هاتو البنت تغني ونشوف حاتقول إيه". وخرجنا من "البدروم" إلى الدور الأول.

وصعدتُ إلى كنبة وبدأت أغني. واستعادني الحاضرون بضع مرات. واستعادني معهم المطرب الكبير الشيخ إسماعيل سكر نفسه.

الشيخ أبو العلا

كنت أغني بلا إحساس ولا شعور. كنت أردّد الأغاني التي أسمعها من أبي بالطريقة التي يردد بها التلميذ الصغير جدول الضرب، وقواعد النحو والصرف، حتى غيرني "الفونوغراف".

وكان "فونوغراف" العمدة. فقد سمعت عليه الشيخ أبو العلا وهزني صوته وكنت أشعر وأنا أسمعه أنه يغني لي وحدي. وسمعت مئات المرات صوته وهو يغني: "أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا". وسمعته وهو يغني "وحقك أنت المنى والطلب" وقصيدة "غيري على السلوان قادر".

كان "الفونوغراف" يسكت ولكن صوت الشيخ أبو العلا كان يستمر يغني في أذني. وكان أطفال القرية يرددون أغنية "أنا نازلة أدلع أملا القلل". أما أنا فكنت أعيش مع أغاني الشيخ أبو العلا، وكنت أتصور أنه قد مات. لم يخطر في بالي أن صاحب هذا الصوت يعيش في الدنيا التي أعيش فيها.

كان أبي غير مستريح إلى فكرة اشتغال ابنته في الغناء وكان هذا هو السر في العقال الذي وضعته على رأسي بضع سنوات

ومرت السنون. وفي يوم من الأيام كنت في محطة السنبلاوين، فسمعت صوتا يقول: "الشيخ أبو العلا هنا". فلم أصدق أذني. ورأيت أبي يسرع نحو الرجل الكبير ويصافحه في احترام. وأسرعتُ وراءه وأمسكت يده، ورحت أحدثه على الفور عن إعجابي. وتحول الشيخ أبو العلا عني يستأنف حديثه مع الآخرين، ولكني منعته أن يكلم أحدا غيري. أمسكت بيده ورحت ألح عليه أن يأتي معي لزيارتنا في القرية. وأحس الرجل الكبير بتعلقي به، وجاء معي إلى بلدنا، إلى قرية طماي.

ودخلت إلى أمي قلت لها أن أهم إنسان في الدنيا سيتناول معنا الغداء. كل حاجة عندك قدميها له. إدبحي كل الفراخ اللي عندنا واللي عند الجيران.

تحويشة العمر

اتفق أحد أهالي القاهرة مع أبي على أن أغني في فرح ابنه في كوم الشيخ سلامة المجاور لحي العتبة الخضراء في القاهرة. وعند سفري إلى القاهرة أخذت معي "تحويشة العمر". إنها الخمسة عشرة جنيها التي ادّخرتها من مصروفي و"عيديتي" في الأعياد. ونزلنا في بيت صغير. إنه بيت صاحب الفرح. وقبل خروجنا من البيت لإحياء الحفلة، وضعت ثروتي الضخمة في جيبي. ولما انتهت الحفلة وعدت إلى البيت، أسرعت إلى "تحويشة العمر" لأخرجها من جيبي فلم أجدها. اختفت "تحويشة العمر" التي تصوّرت أنني سأشتري بها مدينة القاهرة كلها.

ولم أصدق عيني. رحتُ أبحث في جيبي وجيب أخي، وتحت الكراسي، فلم أجد لها أثرا. لم أذرف الدموع، كانت نكبتي أقوى من الدموع! وأخفيت الحادث على أبي في أول الأمر، ثم اضطررت أن أعترف. ولن أقول لكم ما قاله أبي لي.

AlMajalla

أحمد رامي

وعن طريق الشيخ أبو العلا عرفت الشاعر أحمد رامي. فقد التقى أحمد رامي بالشيخ أبو العلا ذات يوم، وسأله: "في بنت بتغني اسمها أم كلثوم، إي رأيك فيها؟". فأجاب أبو العلا: "دي بتقول لروحها "آه".

وفي إحدى حفلاتي في حديقة الأزبكية، اقترب مني شاب وقال لي: "أنا أحمد رامي". ورأيت لأول مرة الشاعر الذي أغني أشعاره. وأردت أن أقول لهذا الشاعر: أهلا.. فغنيت له قصيدته "الصبّ تفضحه عيونه" وكانت مفاجأة له.

وفاة الشيخ أبو العلا

في إحدى الليالي فوجئتُ بوفاة الشيخ أبو العلا وامتلأ رأسي بقصائد الشعراء، بعدما امتلأت روحي بأغانيه. ولم أستطع أن أبقى في بيتي، كما لم أحتمل الذهاب إلى بيته. مشيت في شوارع حي الزمالك ولم أذرف دمعة واحدة.

مشيتُ إلى شارع فؤاد، ثم إلى شارع الملكة نازلي، ثم عدت أمشي في شوارع الزمالك مرة أخرى. وكنت أتصور أنني سأغسل شوارع القاهرة في تلك الليلة بدموعي. ولكن دموعي تحجّرت في عيني. وكان يمشي معي أخي خالد وعازف الكمان سامي الشوا. كانا يحاولان إقناعي بالبكاء تحت أي سقف، ولكني كنتُ أرفض.

كنت أحسّ أن البيوت لا تتسع لحزني وقضيت الليل هائمة على وجهي. أبكي، بغير دموع، أستاذي الذي علمني كيف أعبر عن المعاني بالنغمات.

روحية المهدي

وأثناء اصطيافنا في الإسكندرية زارني أمين المهدي ودعاني إلى زيارة بيته الذي يطلّ على ترعة المحمودية. وفي هذا البيت التقيت أول صديقة لي. كانت تلميذة في مدرسة "المير دي دييه" وكان اسمها روحية المهدي. إنها ابنة أمين المهدي. لقد أصبحنا صديقتين بعد ساعة من اللقاء. أحسسنا تجاوبا عجيبا، وشعرت كل منا أنها تعرف الأخرى منذ سنوات وسنوات. وبدأت صداقتنا تقوى على مر الأيام.

في محطة باب اللوق اشترى لي والدي "كراملة" أعجبتني وجعلتني أتصور أن القاهرة بلد "الكراملة" الحلوة

ولما انتهت شهور الاصطياف وعدنا إلى القاهرة كنت أحرص على زيارة بيت أمين المهدي كل يوم أحد. فقد كان هذا اليوم إجازة روحية من مدرستها. وكانت تقيم في بيت في باب الخلق يواجه دار الكتب. وفي كل أسبوع كنت أقطع المسافة من شقتي في عمارة بهلر في الزمالك إلى ميدان باب الخلق لألتقي صديقتي التلميذة، وأفتح لها قلبي وتفتح لي قلبها وتحدثني عن أحلامها وأحدثها عن أحلامي.

مقال كاد ينهي المسيرة

وفي يوم من الأيام عاد والدي إلى بيتنا وهو متجهم الوجه ودخل حجرته ونادى والدتي فدخلت وأقفلا الباب. وسمعت همسا لم أهتم به. ولكني رأيت أمي تفتح الباب وتبدأ في حزم الحقائب.

وسألت أمي: ماذا جرى؟ فسكتت ولم ترد، واستمرت تملأ الحقائب بالملابس.

وسالت والدي فقال بحزم: "خلاص.. إحنا راجعي بلدنا. لن نبقى في مصر بعد الآن ولن نعود إليها".

ودهشت من هذا القرار العجيب. كيف نهجر القاهرة وقد التقيت فيها مجدا لم أحلم به؟ كيف أهجر "أم الدنيا" بعدما أحببتها وأحببت من فيها، وبعدما التقيت حظي فيها؟ ورحت ألح على والدتي أن تبرر لي قرار والدي. وكنت أقول لها: أريد أن أعرف لماذا سنهجر القاهرة؟ وأشارت والدتي إلى مجلة ملقاة على الأرض. وأخذت المجلة. كانت مجلة "المسرح" التي يصدرها الناقد المسرحي عبد المجيد حلمي. ورحتُ أقلب صفحاتها في لهفة فلم أجد ردا على سؤالي.

AlMajalla

وعدت اقرأها سطرا سطرا. ثم سقطت المجلة من يدي. لقد نشرت خبرا عجيبا عني. كان الخبر كاذبا يمسّ سمعتي، ولكن المرحوم عبد المجيد حلمي، سامحه الله، كان يعجب في ذلك الوقت بالسيدة منيرة المهدية. وبدلا من أن يقدم إليها باقة ورد، رمى تحت أقدامها شرف المطربة الجديدة.

ولكن هل من العدالة أن يضحي أبي بمستقبلي بسبب خبر كاذب؟ هل من العدالة أن تدفع الضحية ثمن سكين الجزار؟

كان والدي يعرف أن الخبر لا أساس له من صحة، فهل الطريقة للاحتجاج على الخبر أن نجمع ملابسنا ونهاجر الى قرية طماي؟

ورحت أستنجد بأصدقاء أبي. رحت أرجو كلا منهم أن يحضر لإقناعه بالعدول عن الهجرة من القاهرة.

وجاء الأصدقاء إلى بيتنا ليحاولوا إقناع أبي في البقاء في القاهرة. قالوا له إن ابنته أصبحت مشهورة، وإن للشهرة ضرائب يجب أن يدفعها صاحبها، وأولى هذه الضرائب أن يحتمل الأكاذيب التي تنشرها بعض المجلات الصغيرة. ورفض أبي وساطة هذه الوفود. وأصرّ على الهجرة إلى قريتنا.

عندها استسلمت للأمر الواقع وجلست في حجرتي أكتب خطابات وداع لصديقاتي ومعارفي. كنت أكتبها بدموعي. وبين الخطابات التي كتبتها واحد عصرت فيه قلبي، أرسلته إلى صديقتي التلميذة في مدرسة "المير دي دييه". لقد كتبت هذا الخطاب بدموعي. حدثتها عن قرار أبي، ورحت أودعها وأودع القاهرة الحبيبة وكأنني أودع الدنيا كلها.

وجاءت أسرة المهدي إلى بيتنا فوجدوا الحقائب معدة. تكلمت سيدات الأسرة ورحن يناقشن والدي في قراره في بلاغة وحكمة ومنطق. ولم يقتنع أبي. ثم ركزن سهامهن على عاطفة أبي وحبه لي. قلن له إن قراره سيقضي على مستقبلي، وسيدفن المجد الذي كان ينتظرني تحت تراب قرية طماي. ولم يقتنع أبي.

وأخيرا تكلم أمين المهدي. قال لأبي: إن معنى مغادرتكم القاهرة أن الخبر الذي نشرته مجلة "المسرح" عن أم كلثوم صحيح، فالناس تهرب من الحقيقة ولا تهرب من الأكاذيب.

وقام أبي من مقعده وبدأ يفتح حقائبنا ويخرج منها الملابس.

AlMajalla

السينما الصامتة وأفلام رعاة البقر

ومن غرفتي في الفندق شاهدت لأول مرة في حياتي السينما الصامتة. وكانت غرفتي تطل على سينما "كوزمو بالاس" في شارع عماد الدين. وكنت أقف طول الليل أتفرج على الأفلام. أتفرج على الفيلم الواحد أحيانا ست مرات ولا أملّ، ولا أتضايق، ولا أفهم الرواية.

اقترب مني شاب وقال لي: "أنا أحمد رامي". ورأيت لأول مرة الشاعر الذي أغني أشعاره. وأردت أن أقول لهذا الشاعر: أهلا.. فغنيت له قصيدته "الصبّ تفضحه عيونه"

وكان يدهشني أن أرى النساء طويلات جدا، وكنت أحسدهن على طول قامتهن لأن قامتي كانت قصيرة. وكنت أرى بطلة الرواية تقفز على الحصان وتعدو به، وكنت أنا لا أعرف إلا ركوب الحمار، الذي طفت فوقه جميع قرى مصر أغني فيها. وكنت قد تعوّدت أن أنام فوق الحمار، فلم يكن أصحاب الأفراح الذين يدعونني لإحيائها يدعوننا للمبيت عندهم، بل كثيرا ما نسوا أن يقدموا لنا الحمير التي نركبها حتى نصل إلى محطة السكة الحديد، فكنا نمشي بضع ساعات على الأقدام.

وكنت في ذلك الوقت معجبة بأفلام رعاة البقر، أصفق لبطل الفيلم الذي يستطيع أن يصرع بيده ستة رجال، ثم يحمل بطلة الرواية ويقفز بها فوق الحصان. وكنت أصفق لبطل الفيلم.

أزمة الصورة

لقد رأى خالد صورتي معلقة على جدران الشوارع في الإعلانات، وكانت هذه أول مرة توضع صورتي في الإعلانات. واتفقت مع أخي خالد على أن نخفي خبر الفاجعة الكبرى عن والدنا الشيخ إبراهيم. وسكتنا ولم نقل شيئا.

AlMajalla

ولكن أحد خدم الفندق أفشى السر الرهيب لأبي، وأخذ أبي من يده، وجعله يرى صورتي ملصقة على إعلان على جدران شارع عماد الدين. وعاد أبي إلى الفندق ساخطا غاضبا حانقا، يسب ويلعن. وقال إن شرف العائلة قد أهين. إذ كيف تعلّق صورتي على الجدران وقد طليت شفتاي وخداي باللون الأحمر، حتى أصبحت أبدو كالنساء قليلات الأدب عديمات الأخلاق؟

وأصرّ أبي أن أرفض الغناء على المسرح احتجاجا على المتعهد قليل الأدب الذي بهدلنا بأن علق صورتي على الجدران. واستعان المسيو فيتاسيون المتعهد بالشيخ عبد الرحيم بدوي صاحب مطبعة الرغائب، وهي المطبعة التي تطبع إعلانات المسارح، ليقنع أبي بأن وضع صورتي في الإعلانات ليس عملا مهينا، وأن صورة الزعيم سعد زغلول وصورة زوجته "أم المصريين" صفية زغلول تعلق على جدران الشوارع وفي الحوانيت والبيوت.

ورفض أبي هذه الحجة الوجيهة وأصر على إلغاء الحفلة. وعرض المتعهد أن يمزق جميع الإعلانات التي علقت على جدران الشوارع وأن يطبع إعلانات جديدة عن الحفلة الساهرة من دون صورة. وجاء صديق لأبي من المنصورة وقال له إن الشعب سيفهم من تمزيق صورتي أنه ساخط علي، وأنه سمعني فلم أعجبه، وأن هذا سيكون أسوأ دعاية لي بين الناس.

وكان متعهد الحفلة قد طبع إعلانات جديدة خالية من صورتي، وإذا بأبي يصر على أن تلصق الإعلانات التي تحمل الصورة.

تحريم "يا ليل"

وكان أبي يصر أن أبدو محتشمة وأنا أغني: لا أضحك، ولا أبتسم، ولا ألتفت يمينا ولا يسارا أثناء الغناء! وكان يحرم علي أن أغني أغنية فيها "يا ليل". وكان يقول إن السيدة المحترمة لا تتكلم عن "الليل" بل المرأة الفاجرة وحدها هي التي تغني لليل.

ولم أكن أنشد إلا القصائد النبوية الشريفة والقصائد والتواشيح في مديح الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أن أقرأ بعض آيات من القرآن. فإذا جاء من يقترح عليّ أن أغني أغنية تتحدث عن الحب والغرام والهيام، ثار أبي وطرد صاحب الاقتراح شر طردة، وقال له: إن ابنتي لا تغني إلا ما يخص حسن السلوك ومكارم الأخلاق.

AlMajalla

الوالد المتحكم بكل شيء

كان والدي المتصرف في كل شيء. هو الذي يقرر وهو الذي يتفق وهو الذي يتفاوض وهو الذي يبت. وكان يبلغني القرار الذي أصدره فأنفذه صاغرة بلا مناقشة واعتراض. ولا أذكر في تلك الأيام أنه استشارني في أجر اتقاضاه، أو في فرح سأحييه، أو في رحلة سأقوم بها. كان هو الذي يوقع العقود، ويقبض الإيرادات، وينفق ما يرى من المصروفات، فأنا مثلا لم أعرف أن سعر الليلة التي أقيمها ارتفع من قروش إلى جنيهات. ولم أعرف أن أسرتي المعدمة التي كانت تجد طعامها بصعوبة، أصبحت تملك الجنيهات الذهبية!

حين مات أستاذي أبو العلا محمد شعرت أن البيوت لا تتسع لحزني وقضيت الليل هائمة على وجهي أبكي بغير دموع

بل إنني لم أعرف أن والدي اشترى باسمي أطيانا في قريتنا (طماي الزهايرة- مركز السنبلاوين). لم يخبرني كم اشترى، وباسم من كتب العقد، ولا المبلغ الذي دفعه في كل فدان! كل هذه أمور لم يعتبرها من اختصاصي، كل اختصاصي أن أقف على المسرح وأغني.

شقة عابدين

وزاد إقبال الجماهير على حفلاتي في القاهرة. وأصبحتُ معروفة في المدينة الكبيرة وجاء الناس يقولون لوالدي: غير معقول أن تقيم أم كلثوم في قرية طماي الزهايرة، وكلما أردنا أن نتفق معها على سهرة أو فرح أو مولد سافرنا إليها في قريتها لنتفق معها! واقتنع والدي بأن ننتقل من قريتنا إلى القاهرة. وبدأ يفتش عن شقة متواضعة نقيم فيها.

وذات يوم جاء والدي فرحا، لقد وجد شقة في حي عابدين في عمارة الدكتور الدري باشا في شارع قوله رقم 2. وأجرة الشقة 12 جنيها في الشهر. وركبت عربة حانتور يجرها حصانان مع أبي وأخي خالد نتفرج على الشقة الفاخرة.

AFP

وذهلت وأنا أتفرج على الشقة. سوف تصبح لي غرفة، ولأبي وأمي غرفة، ولأخي خالد غرفة، وللاستقبال غرفة وللمطبخ غرفة وللحمام غرفة.

إلى الدرجة الأولى

وانهالت الأموال علينا فجأة دون انتظار. عشنا قبل ذلك في قريتنا على الكفاف. تحمّلنا شظف العيش. مشينا على أقدامنا المسافات الطويلة لأننا لم نكن نملك أجر القطار. وأذكر أنه عندما وصلت النقود إلى أيدينا بدأنا نستعيض عن ركوب الحمير بركوب قطار السكة الحديد. وكنا لا نستطيع أن نركب إلا في الدرجة الثالثة لقلة مواردنا. وهناك تعرفنا بكمساري القطار وغنيت له وأنا في الدرجة الثالثة فأُعجب بصوتي ونقلنا إلى الدرجة الأولى دون أن ندفع فرق التذكرة.

وكان فرق ثمن تذكرة بين الدرجة الأولى والدرجة الثالثة سبعين قرشا صاغ وكان معنى هذه المجاملة أن الكمساري يوفر علينا كل رحلة 210 قروش في الذهاب ومثلها في الإياب. ولم أتصور أن غنائي أربع ساعات ذهابا وإيابا يساوي هذا المبلغ الكبير.

وكبرت وعرفت مدير مصلحة السكك الحديد الذي يرأس كمساري القطار. وعرفت وزير المواصلات الذي يرأس مدير السكك الحديد. وعرفت رئيس الوزراء الذي يرأس وزير المواصلات ومدير السكك الحديد وكمساري القطار! ولكن كان كمساري القطار هو الموظف الكبير الوحيد الذي شعرت أمامه بمهابة وإجلال واحترام!

font change

مقالات ذات صلة