ما الذي أغاظ اليساريين والإسلاميين في مسيرة أم كلثوم؟

توافق الطرفان على تركيب سماعات أيديولوجية لسماع الغناء

AFP
AFP
أم كلثوم محاطة بفرقتها الموسيقية في ختام حفلها في الأولمبيا بباريس

ما الذي أغاظ اليساريين والإسلاميين في مسيرة أم كلثوم؟

في الذكرى الخمسين لرحيلها، لا تزال أم كلثوم (1898- 1975)، تحفزنا على طرح الكثير من الأسئلة عن جوانب حياتها الفنية والاجتماعية، وهي أسئلة يبدو أنها ستبقى في التداول ما دامت أغانيها باقية كمكوّن أساس في الثقافة العربية. ومن هذه الأسئلة المتجددة، ما يُطرح عن نظرة اليساريين والإسلاميين إليها كفنانة وإنسانة.

ففي البداية، بقيت أم كلثوم قريبة في غنائها من مختلف الطبقات الاجتماعية، بسبب التجارب الفنية الأولية التي صاحبت حركة نهوض ثقافي في عشرينات القرن العشرين، وإن كانت بعض الأصوات الغنائية تميزت بقربها من الهاجس الشعبي العام، مثل الفنان سيد درويش (1892- 1923). إلا أن أم كلثوم بعد صعود سلطة 1952 في مصر، صارت في محل سؤال عن دورها الفني وما يمكن أن تقدمه للمرحلة الجديدة. لم يكن هناك ما يلفت في موقف اليساريين والإسلاميين من أغاني أم كلثوم، سوى ذكر أن سيد قطب بعد ثورة يوليو 1952 طالب "بمحاكمة أم كلثوم لأنها غنت للملك السابق"، وهو ما لم يتحقق بسبب اعتراض عبد الناصر، كما يذكر محمد شعير في كتابه "مذكرات الآنسة أم كلثوم".

كلب الست

سوف نجد قصيدة ساخرة لأحمد فؤاد نجم، مقاربة زمنيا لهذا التاريخ عنوانها "كلب الست"، والتي كتبها، حسب قوله، إثر تعرض طالب كان يمر من أمام فيلا أم كلثوم للعض من كلبها، وإن أجهزة الدولة أعفت الست وكلبها من المسؤولية الجنائية بحجة ما قدمته أم كلثوم للدولة من خدمات. بل إن الطالب نفسه عبّر عن سعادته لأن الذي عضه كلب أم كلثوم. وظل نجم يردد مع كل لقاء تلفزيوني أن الست صرحت بأنها ستخرب بيت كاتب القصيدة، فقيل لها إنه بلا بيت. فقالت سأشرده، فقالوا لها: هو أصلا مشرد. هذه القصيدة/ القصة بدت من المؤشرات الأولى المعلنة عن موقف اليسار من أم كلثوم كإنسانة وفنانة، فإذا كانت بالتأكيد لا تشمل الجميع إلا أن ترديدها على نطاق واسع عكس مفهوم اليساريين للفن حينها. وقد تبعتها في ما بعد قصيدة أخرى للشاعر نفسه خاطب فيها الست: "يا ولية، عيب اختشي/ يا شبه إيد الهون/ ده أنتي اللي زيك مشي/ يا مرضعة قلاوون/ مدحتي عشرين ملك/ وميت وزير ورئيس/مروان، وعبد الملك/ والمفتري، وعتريس/ بتغني بالزمبلك؟/ ولا انتي صوت إبليس/ من أول المبتدأ/ حتى نهاية الكون؟".

فمع هذين النصين، وغيرهما، أصبح اليساريون وكأنهم حاملو سماعات أيديولوجية تعيق أي دخول حر لأغاني الست إلى آذانهم.

طالب سيد قطب "بمحاكمة أم كلثوم لأنها غنت للملك السابق"، وهو ما لم يتحقق بسبب اعتراض عبد الناصر

وما يلاحظ في النصين أن كاتبهما ينطلق من هجوم نقدي، قد يندرج ضمن الشتيمة التي تخلو من الشعر، شتيمة شملت عبد الحليم حافظ وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي وإحسان عبد القدوس وغيرهم. واللافت أن هذا المنحى من الكتابة اللاذعة كان بمثابة الشعارات التي تتردد مع كل جلسة أو ندوة، وصارت تتردد في لقاءات تلفزيونية وكأنها كانت تصرفا بطوليا. مع هذا، من المهم القول إن التوصيف في النص الثاني حول مدائح أم كلثوم للحكام كان صحيحا. وينقل سعيد الشحات في كتابه "أم كلثوم وحكام مصر" عن سيد حجاب أن اليساريين كانوا يقولون إن "عبد الناصر يحكم مصر بالكورة والحشيش وأم كلثوم". ويرى حجاب أن المقولات النظرية الخائبة التي شاعت بين بعض اليساريين الشبان "سقطت وذابت وحدها مع الأيام".

AFP
الرئيس المصري جمال عبد الناصر (وسط) وخلفه أنور السادات (يمين) مع المطربة أم كلثوم والملحن محمد الموجي في القاهرة أواخر الستينات

وكان من الواضح أن ما يقولونه عن فنها الطبقي المتعالي، لا يتوافق مع أصلها القروي البسيط، ولا مع جانب كبير من تاريخها الفني. ويشير سعيد الشحات إلى الكثير من ناس قريته الذين كانوا يحضرون حفلات أم كلثوم، ليلة الخميس الأول من كل شهر، ومنهم خاله "الذي عرف طريقه إلى حفلات أم كلثوم بزيه الفلاحي الأنيق". ويلفت إلى ما جاء في رواية "ميرامار" لنجيب محفوظ "ليلة غنائها هي ليلة جميع الطبقات والأفراد، وصوتها علامة عصر بأكمله". ويذكر رجاء النقاش في كتابه "لغز أم كلثوم" أن نجيب محفوظ كان يتردد على حفلات أم كلثوم لكنه بعد أن ارتفعت أسعار التذاكر صار يسمع حفلاتها عير المذياع الذي كان في المقاهي. ومن الواضح أن مرتادي حفلات أم كلثوم لم يبقوا على حالهم، فالذين يظهرون، بعد تسجيلات التلفزيون، لا يبدو أنهم هم أنفسهم الذين ارتادوا معظم حفلاتها السابقة، خاصة تلك التي أقيمت في مدن مصرية وعربية أخرى غير القاهرة، بل إننا شاهدنا، في تسجيلات حفلة باريس، صعود بعض الجمهور إلى المسرح، حيث تغني، وتقبيل يدها.

تجويد الغناء وتجديده

وما يُقال عن علاقة أم كلثوم بسلطة 1952 سيبقى محل جدل لا نهاية له، ومن ذلك ما قاله نجيب محفوظ إن "عبد الناصر أعطى لغنائها معنى جديدا". فهناك كثيرون يربطون تمركز حضور أم كلثوم الفني، والهالة التي أحاطت بها، بالحقبة الناصرية، كما فعل حازم صاغية في كتابه "الهوى دون أهله"، إلاّ أن الباحث في سيرة أم كلثوم سيجد أن حضورها الفني امتد إلى أكثر من ثلاثين سنة قبل وصول عبد الناصر إلى السلطة، كما أن الهالة التي أعطيت لها، كانت نتاج مثابرتها في الغناء وتجويده وتجديده، وليست قرارا أو احتضانا من قبل السلطة. وأظن أن صاغية يكمل في قراءته المنحى اليساري لقراءة أعمال هذه الفنانة، فهو، إذ يتقارب مع مفهوم النقد الثقافي، منذ غرامشي حتى إدوارد سعيد، لا يدرس الجماليات الموسيقية والغنائية باعتبارها عماد حياة هذه الفنانة، والتي بسببها وجدنا هذا التقدير الهائل لشخص أم كلثوم، وما يسبغ على حياتها من هالة تصل إلى مستوى التقديس، "معبودة الجماهير". وبدلا من ذلك يعتبر أن هذا الحضور "الطاغي" جاء بسبب دعم أو تماه مع سلطة قومية عروبية. وهو رأي، إذا كان في جانب منه بعض الصحة، فإنه يغمط تجربة الفنانة عامة.

يرى حجاب أن المقولات النظرية الخائبة التي شاعت بين بعض اليساريين الشبان "سقطت وذابت وحدها مع الأيام"

كما أن هذه الهالة التي أحيطت بها لم تُخف الجوانب الإنسانية البسيطة في حياتها، كصراعها في بداية تألقها الفني مع الفنانة منيرة المهدية، الذي يصفه موسى الشديدي، مؤلف كتاب "جنسانية أم كلثوم"، بـ"الشرس"، ولا منافساتها في نقابة الموسيقيين، أو وصولها إلى المحاكم إثر خلاف مع الفنان الشيخ زكريا أحمد بسبب حقوق التأليف الموسيقي. كما أن قصص الحب الشهيرة مع محمد القصبجي وأحمد رامي، وما يقال عن أزواجها وأولادها السرّيين، تبعد صفة التنزيه المطلق لها والتي لاحظها صاغية.

AHMAD AL-RUBAYE - AFP
مقهى أم كلثوم، الذي افتُتح عام 1970 وسُمي تيمنا بأسطورة الغناء العربي أم كلثوم

وأظن أن هذا النقد يخرج عن قراءة أم كلثوم، أو سماعها، في إطار الزمن الذي عاشت فيه، إذ، يبدو لي، لم يكن في الإمكان أن تكون غير ما كانت عليه. ابنة بيئتها ومجتمعها، التي تسعى إلى نشر التنوير الفني والثقافي في أوساطه، مسخّرة بذلك كل معارفها الثقافية والفنية من أجل ذلك. فإذا كان قيل لمنيرة المهدية إن "صوت المرأة عورة" ولا يجوز أن تغني، فإن نشر صورة لأم كلثوم في بداية حياتها الفنية كان بمثابة خطيئة، فوالدها الشيخ إبراهيم رأى أن في نشر صورتها خروجا على تقاليد العائلة، و"خروجا على ناموس الشرف"، حسب ما يورده محمد شعير في "مذكرات الآنسة أم كلثوم"، كما أن أباها حرّم عليها أن تغني "يا ليل" لأنه يرى أن هذه الكلمة "لا تغنيها إلا المغنية (الأبيحة)". ولم تكن في البداية تنشد سوى القصائد الدينية.

تربية أم كلثوم

إلى ذلك، يتوافق الإسلاميون مع اليساريين في تركيب سماعات أيديولوجية تحد من السماع الصافي لغناء أم كلثوم. وكان الاختلاف الوحيد بينهما هو في الوجهة الأيديولوجية التي ينطلقون منها. وإذا كان اليساريون حمّلوا أم كلثوم جانبا من هزيمة 1967، حيث ظنوا أن أغانيها العاطفية، في الحب والغرام والمليئة بالتأوهات، خدرت "الشعوب العربية"، كما صرّح بذلك الشاعر نجيب سرور، متناسيا "الأغاني الوطنية" الكثيرة التي شدت بها، فإن الإسلاميين ذهبوا إلى أبعد من ذلك، واعتبروا أن أم كلثوم سبب الهزيمة وفساد المجتمع، ابتداء من خطب الشيخ عبد الحميد كشك المحرّضة ضد الفنانة وليس انتهاء بتصريحات عبدالله النفيسي، التي بدت متشددة ومستفزة حين قال إن حفلاتها كانت مصاحبة لجلسات السكر وتعاطي الحشيش.

ذهب الإسلاميون أبعد من ذلك، واعتبروا أن أم كلثوم سبب هزيمة 1967 وفساد المجتمع

وأظن أن المسألة تتعلق بفهم هؤلاء الأيديولوجيين لدور الفن وأهميته، فهم إما يرونه أداة للخطاب السياسي المباشر المعبّر عن "الشعب" أو "الأمة"، كحال اليسار والقوميين، أو أنه أداة لنشر الفضيلة عبر المدائح الدينية، وما عداها "حرام"، كما يرى الإسلاميون.

وإذا كانت تجربة أم كلثوم مليئة بالأغاني الوطنية الكثيرة، وكذلك الأغاني الدينية، فإن هؤلاء، اليساريين والإسلاميين، لا يرون أن للفن أهميته الخاصة بعيدا من كل هذه الشعارات والمنطلقات الأيديولوجية. ولم يروا أهمية لما كانت تقوم به أم كلثوم من تربية جمالية في أغاني الحب، التي كوّنت الوجدان العربي، وهي تربية يصبح بدونها الإنسان مشوها أو عبارة عن خشب أو جدار لا حس له.

ومن المفارقات هنا، نذكر في الأخير أن أم كلثوم حين قامت بجمع التبرعات، في حفلاتها، لما سُمي بالمجهود الحربي، بعد 1967، ظلت تغني أغاني الحب التي لا يطلب الحاضرون والمتحمسون للتبرع سواها.

font change

مقالات ذات صلة