أم كلثوم التي في خاطري

Lina Jaradat
Lina Jaradat

أم كلثوم التي في خاطري

لم يعهد عن أم كلثوم كثرة الكلام، رغم أن صنعتها الأولى هي الكلام. يندر أن نجد لها مقابلة مكتوبة أو مسموعة أو مصوّرة، كما يندر أن نسمعها تتكلم قبل أو بعد أي من حفلاتها الغنائية. حين تقف على المسرح فإنها تفعل ذلك بانضباط هائل يفرض سطوته على جميع الحاضرين في المكان من فرقة موسيقية وجمهور، وحتى حين تقود نشوة الطرب مستمعيها إلى الهتاف باسمها، فإن أكثر ما يمكن أن تبديه من مشاعر هو ابتسامة رقيقة ترتسم على وجهها. ومع أننا لا نعرف إلا القليل عن حياتها الشخصية: ولادتها ونشأتها، أهلها، بداياتها، تطورها، زواجها إلخ، فإن كل هذه المعلومات لا يبدو أنها تمثل عالمها الحقيقي. حتى اسم مسقط رأسها، وعائلتها، وأسماء كل من عملت معهم واحتكت بهم، تبدو أقل أهمية. هي أم كلثوم فحسب. في هذا المعنى لم يكن من باب المبالغة في تعيين المكانة إسباغ لقب "كوكب الشرق" عليها. هي "كوكب" بمعنى أنها قائمة في ذاتها، وكان يكفي قول "أم كلثوم" ليتحقق معنى الكوكب دون أي تعيين آخر.

في زمن كان العرب مشغولين خلاله في صناعة هويتهم السياسية والثقافية وتبديدها، كانت مشغولة باستكشاف ذلك الكوكب الشاسع الذي صاره صوتها. وقعت حروب، وثورات، وانقلابات، وانقلابات مضادة، وقامت أحزاب وحركات، لمع زعماء وانطفأوا، تغيّر وجه بلدها مصر أكثر من مرة، كما تغيّرت ملامح كل المنطقة العربية من حولها، وبقيت هي هي، مفردة في صناعة، بل حياكة مشروعها الخاص، وإرثها الذي كان يتشكل مع كل أغنية جديدة تشدو بها. "النجوم" في واقع الأمر لم يكونوا المطربين الآخرين، وما أكثرهم وما أروع معظمهم في ذلك الزمن، بل كانت تلك الأغنيات التي ظلت تنثرها كالمصابيح في سمائها الخاصة، حتى أصبحت هناك سماء كاملة، بكوكبها ونجومها، تطل على أرض العرب الخراب.

صوتها لا يزال صوت الجميع، وقادرا على تمثيل الروح الجماعية التواقة للفرح والأنين

لم يكن العرب ليعترفوا يوما بأن مجد أمجادهم الحقيقي خلال قرن التحولات الكبرى وصولا إلى قرننا الحالي، هو امرأة، وهو صوت امرأة. هي ليست مفكرة، ولا أديبة، ولا سياسية، ولا حقوقية، وليست خطيبا يقف على منبر ليعظ حول الخطأ والصواب، أو ليعلن برنامجا سياسيا، أو ليصنع حلفاء وأعداء، أو ليطرب المستمعين بأحلام المستقبل. هي "هنا الآن"، الرمز العربي الوحيد ربما الذي لشدة ما كانت "هنا الآن"، صارت في كل وقت ومكان. الأرض، حيث وقفت قدماها يوما، ارتجت أكثر من مرة. دماء كثيرة سالت في جميع الساحات والدروب، مؤامرات كثيرة حيكت، هزائم كثيرة وقعت، إرث حضاري نُهب مرات ومرات، على الأرض وقعت مآس كثيرة، أما كوكب "أم كلثوم" فظل يشع علينا. قد يسطع ضوء ما، ثورة ما، "انتصار" أو "هزيمة" ما، قد يحجب ضوء ذلك الكوكب، لكنه يظل ثابتا في مداره، مثلما كانت صاحبته ثابتة على مر العقود.

STRINGER - AFP
أم كلثوم خلال حفلها في قاعة الأولمبيا في باريس

كثر عيّنوا أنفسهم، أو عيّنهم آخرون "صوت الناس" أو "صوت من لا صوت لهم"، بعضهم كان بالفعل يحمل وعدا بالخلاص وبـ"التقدم والازدهار"، بعضهم لم يصمد مسافة "آه" واحدة من آهات أم كلثوم، قلة نادرة جدا لامست أرواح الناس مثلما فعلت أم كلثوم وما زالت تفعل. في إرثها العصيّ على الإحاطة والوصف، ربما تكون الوحيدة التي نجحت في البقاء متربّعة على عرش القلوب والعقول، مجرد ذكر اسمها تعويذة خالصة للمحبة والجمال والكمال، وهو ما لم يقع لعربي أو عربية غيرها على مر القرون السالفة. وفي وقت كثرت فيه الأصوات حد الجعجعة، فإن صوتها لا يزال صوت الجميع، ولا يزال قادرا على تمثيل تلك الروح الجماعية التواقة إلى أن يسمع صوتها، وأن يصل فرحها وأنينها إلى العالم بأسره. ذلك صوت مفرد، كوكب مفرد، حقيقي، يطل من عليائه على الشرق الحزين الغارق في أوهامه، وفي نكباته.

font change