لم يعهد عن أم كلثوم كثرة الكلام، رغم أن صنعتها الأولى هي الكلام. يندر أن نجد لها مقابلة مكتوبة أو مسموعة أو مصوّرة، كما يندر أن نسمعها تتكلم قبل أو بعد أي من حفلاتها الغنائية. حين تقف على المسرح فإنها تفعل ذلك بانضباط هائل يفرض سطوته على جميع الحاضرين في المكان من فرقة موسيقية وجمهور، وحتى حين تقود نشوة الطرب مستمعيها إلى الهتاف باسمها، فإن أكثر ما يمكن أن تبديه من مشاعر هو ابتسامة رقيقة ترتسم على وجهها. ومع أننا لا نعرف إلا القليل عن حياتها الشخصية: ولادتها ونشأتها، أهلها، بداياتها، تطورها، زواجها إلخ، فإن كل هذه المعلومات لا يبدو أنها تمثل عالمها الحقيقي. حتى اسم مسقط رأسها، وعائلتها، وأسماء كل من عملت معهم واحتكت بهم، تبدو أقل أهمية. هي أم كلثوم فحسب. في هذا المعنى لم يكن من باب المبالغة في تعيين المكانة إسباغ لقب "كوكب الشرق" عليها. هي "كوكب" بمعنى أنها قائمة في ذاتها، وكان يكفي قول "أم كلثوم" ليتحقق معنى الكوكب دون أي تعيين آخر.
في زمن كان العرب مشغولين خلاله في صناعة هويتهم السياسية والثقافية وتبديدها، كانت مشغولة باستكشاف ذلك الكوكب الشاسع الذي صاره صوتها. وقعت حروب، وثورات، وانقلابات، وانقلابات مضادة، وقامت أحزاب وحركات، لمع زعماء وانطفأوا، تغيّر وجه بلدها مصر أكثر من مرة، كما تغيّرت ملامح كل المنطقة العربية من حولها، وبقيت هي هي، مفردة في صناعة، بل حياكة مشروعها الخاص، وإرثها الذي كان يتشكل مع كل أغنية جديدة تشدو بها. "النجوم" في واقع الأمر لم يكونوا المطربين الآخرين، وما أكثرهم وما أروع معظمهم في ذلك الزمن، بل كانت تلك الأغنيات التي ظلت تنثرها كالمصابيح في سمائها الخاصة، حتى أصبحت هناك سماء كاملة، بكوكبها ونجومها، تطل على أرض العرب الخراب.