بين نظرية المؤامرة والديمقراطية

لا ننسى أن للعولمة أثرها المشجّع لهذه الوسائل التي تنضح بالأكاذيب

بين نظرية المؤامرة والديمقراطية

ما من تعبير حديثا وقديما أكثر استخداما من "نظرية المؤامرة". فهو موجود على كل الألسنة، خصوصا أثناء الاضطرابات، وربما من دونها، وهي تنتشر بصيغ متنوعة. وتتناسل بتطور وسائل الإعلام، وعلى كل المستويات. فهناك أناس يشكّون في كل رأي أو حدث أو في كل شيء (كأنما بات الشك إدمانا. والشكّ هنا هو "جوهرة" هذه النظرية، التي أصبحت "أفكارا جاهزة تتحوّل أنماطا وممارسة في السياسة، والأمور اليومية والمواقف، وفي مختلف الحالات الاجتماعية والسياسية، والطبية والتربوية، والرياضية، والثقافية، والنفسية (والغيبية..)، فتترافق كل الهواجس، والأفكار والمعتقدات، وخصوصا في الأزمات والحروب والأوبئة والثورات والانقلابات... دائما على كل الخطوط والموجات الخاصة والعامة. في الانتخابات النيابية والرئاسية والنقابية والرياضية...

أثناء اندلاع الثورة الفرنسية اتّهم بعضهم وخصوصا الإكليروس بعض الكُتّاب والفلاسفة بأنّهم وراء هذه الثورة، وقد كانت هذه الظاهرة في بدايتها. وعندما انتشر وباء "كوفيد-19" في العالم كلّه، تفجرت نظرية المؤامرة بلغة اتّهامية متداولة، فمنهم من اتّهم الصين بأن "كوفيد" طلع منها، وشملت هذه الحملات أيضا الصيدليات والأطباء بأنهم "صنعوا أدوية" ووزّعوها تؤثّر على الذاكرة فتضعفها، وحتى على القلب، وتعزّزت هذه النظرية، في اتّهام أميركا بأنها تقف وراء انتشاره، بل وصل الأمر ببعضهم إلى قول إن وباء "كوفيد-91" غير موجود إطلاقا، ورفضوا وضع الكمامة، أي إنها مؤامرة تحمل معاني سياسية وطبيّة ونفسية، وتعزّزت هذه المعارك في وسائل الإعلام، وكذلك في التحاليل، وفي المختبرات!

وهنا نستذكر محطة مشابهة سابقة، عندما فُجّر البرجان في أميركا بضربات الطائرات، وسقط مئات الضحايا والمصابين، وكانت ظاهره خطيرة. هنا ملعب واسع تمرح فيه نظرية المؤامرة، فرأى بعضهم أن إسرائيل وراء هذا التفجير، وأن اليهود في يوم الانفجار غابوا عن مقرّاتهم في البرجين. بل ذهب البعض الآخر إلى نفي "التفجير"، وأن الصُور التي ظهرت على شاشات التلفزة مفبركة صنعت ورُكّبت في أحد الاستوديوهات. ثم جاء دور "القاعدة"، بأنها وراء هذه المؤامرة؛ وهذا ختم إلى حدٍّ كبير هذه التناقضات.

إذا سئل أصحاب الحروب والصراعات والأشخاص من المتنفذين هنا وهناك: "هل أنت متآمر؟" فالردّ الجاهز: "الآخرون هم المتآمرون"

وفي أمثلة أخرى، من أكثرها شيوعا نستذكر نتائج الانتخابات التي أعلنت فوز بايدن على ترمب، فاتهم هذا الأخير الديمقراطيين بأنهم زوّروا الانتخابات، بإلغاء بعض صناديق المنتخبين الذين يؤيّدون ترمب، ما يعني أن إسقاطه مؤامرة مؤكدة، وهذا ما كرّره هو في حملاته الانتخابية الأخيرة، عندما أعلن فوزه قبل فرز الأصوات وأثناء التصويت لكي لا تتكرّر المؤامرة عليه بتزوير نتائجها... وهو ما يعني سلفا أنه إذا خسر فسيرفض النتائج ويتّهم الحزب المقابل.

فيا للغرابة، قد يحار المرء بتحديد من الجاني ومن الضحية ومن يتأبّط "الحقيقة" ومن ينكرها، فحلفاء بايدن دافعوا عن صحة النتائج في حين من صوتوا لترمب، "آمنوا" بتزوير النتائج. وهذا يعني في كثير من الحالات والصراعات أن الحقيقة مخبّأة عند الممسكين بالخيوط في العتمة أو وراء الكواليس. أما في الأنظمة الشمولية، فالأمر محسوم سلفا، فالمنتخبون يعرفون سلفا نتائج الانتخابات سواء النيابية أو الرئاسية أو النقابية، ومنهم من يرفضها (كالمعارضين) ومنهم من يتقبّلها (وهم الموالون)، وهنا تختلف ردود الفعل فالمعارضون من الناس تُبنى آراؤهم في الوشوشة خوفا من العقاب...

اليوم، تندلع حروب وثورات عديدة تؤدي إلى التدمير، وسقوط الضحايا، وجنون العنف، سواء في بعض البلدان العربية أو الأجنبية، ومن الطبيعي أن يكون التراشق بين الكبار والصغار بصيغة نظرية المؤامرة، والأمثلة ماثلة أمامنا: كلٌّ يحبّذ مرجعياته بين ثنائيات المؤامرة والضحية؛ وهنا تحديدا تزدهر الاتهامات تحت شعارات "الدفاع عن النفس" ولو كان أصحابها هم مَن بدأوا بالحرب، واتهامات بعضهم بالحركات أو الدول الإرهابية التي كثر استخدامها: ومن وراء ذلك تحاك قماشة "نظرية المؤامرة" كأن الكل  يتآمر على الكل، الضحايا والمعتدون.

وإذا سئل أصحاب الحروب والصراعات والأشخاص من المتنفذين هنا وهناك: "هل أنت متآمر؟" فالردّ الجاهز: "الآخرون هم المتآمرون".

وأصحاب هذه الفضائل السياسية يمارسون هذه الأدوار لأنهم يتمتعون بنظرية نقدية ثاقبة ولا ينتمون إلى الخراف (من الشعوب)، ويدافعون عن مواقعهم بقولهم: "إن الديمقراطية لم تتحقق وإنها معطلة من قوى غير مرئية ويريدون بتصرفاتهم "وقفها على قدميها".

الدساتير في كثير من الحالات والقوانين في أنماطها تخضع أحيانا للتزوير والإهمال أو حتى للإلغاء. سواء بقيت مجرد كلمات أو باتت، لزوم ما لا يلزم

أما أصحاب وسائل الإعلام العمومية والخاصة، فإنهم "يتحدثون عن المسؤولين من دون أن يقولوا أي شيء"، لأنهم تحت الرقابة المفروضة عليهم ممّن هم "وراء الستار"؛ إنه التواطؤ أو الخوف أو المصلحة، كردّ على الأفراد والجماعات باعتبار أن المجتمع خاضع لقوى تعتبر أن "الحقائق" غالبا ما تكون غائبة أو مغيبّة.

إن الشعور بغياب الحقائق وتصدّع الإعلام يطرح سؤالا: كيف يمكن أن تقال الحقيقة، والعالم خاضع لقوى اقتصادية أو سياسية أو أمنية لا نستطيع تسميتها ومراقبتها. فما هو مرئي يصبح وراء الستار بلا حقيقة.

وهنا تحديدا يبحث الأفراد عن أسباب وكيفية العيش حيث لا يعرفون شيئا عمّا يدور حولهم بالسمع والنظر والرؤية... والأجوبة عند المهيمنين غير صادقة.

أما الفكرة الأساسية لنظرية المؤامرة فهي أن ما هو مستتر (أو السردية المشتركة) هي في خدمة المهيمنين في غالب الأحوال.

إنها لعبة كل العصور، لكنها في هذه الأيام انقلاب من أنظمة شمولية وديكتاتورية، ولهذا يمكن القول إن نظرية المؤامرة من الأمور التي تهدّد (أو هدّدت) الديمقراطية بتاريخها وإنجازاتها وتراكيبها. ذلك أن الديمقراطية لم تعد مكترثة وتتناقض باستمرار. حتى التاريخ المكتوب يعجّ بسرديات ممسوسة بنظرية المؤامرة ولا تتمتع بصدقية أو حتى بمعقولية. فهو مليء باللغو وقلب الحقائق.

تاريخ يتلاعب بالوثائق والوقائع. بل إن الدساتير في كثير من الحالات والقوانين في أنماطها تخضع أحيانا للتزوير والإهمال أو حتى للإلغاء. سواء بقيت مجرد كلمات أو باتت، لزوم ما لا يلزم.

ذلك أن المدوّنات الكبرى وما هو مكتوب أو شفاهي لا يمكن مقاربته، واعتماده إلا بحذر وتشكيك، فمضامينه مرتبطة بنظرية المؤامرة. وعندما بدأت الصحف والمجلات في الصدور استغلت بعضها قوّة الانتشار أو ضعفها لتوسيع التأثيرات والمواقف والأفكار التي بات معظمها رهن سياسة أصحابها أو مموّليها أفرادا وسلطات وأحزابا، فباتت "ضمير" من يمتلكها في الصراعات؛ وتوسّعت أنماطها عندما اخترع الراديو (وكان هتلر) أوّل من كشف دوره الإعلامي وأطلقت النازية في حروبها نظرية "الكذب" (اكذب ثم اكذب حتى تصبح الكذبة حقيقة بتكرارها وإذاعتها)، ثم جاء التلفزيون ولقي منذ بداياته مثل ما سبقه لكن بتأثيرات أقوى بالصورة والصوت، حتى وصلنا اليوم إلى ما هو أشدّ تأثيرا في النفوس، لكن التكنولوجيا في تطوراتها حضنت الإنترنت والذكاء الاصطناعي و"فيسبوك" والهواتف المحمولة التي غزت العالم كلّه مجتمعات وأفرادا، وبات عندنا "رأي عام عالمي"، يشارك فيه كل فرد وفي شتى الأمور، مما جعل الجمهور الواسع والشاشة خاضعين لهذه الابتكارات، والوسائل إلى درجة لا يستطيع متابعتها سوى قلّة لا تذكر.

لقد غيّرت هذه الآلات مركزية الإعلام إلى حدٍّ كبير مما أدى إلى تفاقم الفوضى، وانتشار الأفكار المتداولة الجاهزة أحيانا كثيرة، لأنها كسابقاتها من الآلات الإعلامية وقعت في أيدي مجموعات وشركات وأنظمة تلقنها نظرية المؤامرة، لكن نظرية المؤامرة تختلف عن "الأفكار الجاهزة" لأنها تأتي في مجملها من تكذيب الحقيقة، باعتبار أن الكذبة تكتشف بسرعة والمسألة أكثر تعقيدا من "نظرية المؤامرة" التي ترتبط أحيانا بالعقلانية (أهي أيديولوجية؟)، ربما لا. فهي تقدّم كممارسة للحقيقة والديمقراطية. ولعلّ هذه الممارسة "ذات قيمة لمن يقومون بها، وبذلك يجعلون العالم أكثر منطقية"، وهذا يعني أن الهدف عند بعض أصحابها هو تقديم عالم "موثوق" (ديمقراطي ومتنوع)، فهل نعتبر "المتآمرين" أو كثير منهم يحاولون رسم نوع من الأيديولوجيا المغلقة وهو ما يناقض الديمقراطية، والعالم اليوم مليء بأشكال الغيبيات والخضوع وفقدان الشكّ، والمنطق، والنوازع النقدية..

وما يضيف إلى هذه "النظرية" امتدادا هي الشعبوية. فهي على علاقة وثيقة؛ حيث باتت من مرجعيات هذه النظرية، ولا ننسى أن للعولمة أثرها المشجّع والمدافع عن كل هذه الوسائل التي تنضح بالأكاذيب وخصوصا لعنة " فكرة التآمر".

font change