الاتحاد الأوروبي إزاء تحدي "ترمب الثاني"

تبدو القارة العجوز تائهة إلى حد كبير ومنقسمة

أ ف ب
أ ف ب
تظهر هذه الصورة التي نشرتها منظمة حلف شمال الأطلسي في 22 نوفمبر 2024، الرئيس الأميركي دونالد ترمب (يسار) وهو يصافح الأمين العام للحلف مارك روته أثناء لقائهما في بالم بيتش

الاتحاد الأوروبي إزاء تحدي "ترمب الثاني"

"على أعداء أميركا أن يخشوها، لكن على أصدقائها أن يخشوها أكثر". عبارات قالها من دون مواربة الشهير هنري كيسنجر. وتنطبق تماما على الاتحاد الأوروبي أول حليف استراتيجي لواشنطن والذي يخشى بقوة من تداعيات حقبة دونالد ترمب الثانية. بينما يراهن أقصى اليمين الأوروبي على عودة دونالد ترمب كي يعزز مواقعه ويهز التوازنات داخل هيكلية الاتحاد الأوروبي.

حيال العاصفة التي هبت على الجانب الآخر من الأطلسي، تجد أوروبا نفسها في مواجهة مزدوجة مع مستقبلها وقدرتها التنافسية. وتبدو ردود الفعل الأوروبية مشتتة بين فرنسا الحذرة، وألمانيا الحريصة على علاقاتها عبر الأطلسي. أما ردود فعل الدول الأعضاء الأخرى، فتتراوح بين ممالأة سيد البيت الأبيض الجديد أو التردد. لذا هل يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتجاوز المصالح المتضاربة لأعضائه في بعض الأحيان فيقدم استجابة موحدة من "الحرب الاقتصادية" إلى "المسألة الأوكرانية"؟

والأهم من ذلك هل في استطاعة الاتحاد الأوروبي التكيف مع التغيير الأميركي، والتعامل مع مشاكله البنيوية الذاتيةمن أجل التخفيف من الاعتماد الاستراتيجي على الولايات المتحدة، وترسيخ نفسه كقطب جيوسياسي جديد؟

اختبار القوة عبر الأطلسي ومآلاته

تتأكد الخشية من نهج توسعي جديد في عهد "ترمب الثاني"، يبرز من خلال مطالبات مستغربة حول كندا وقناة بنما وجزيرة غرينلاند واسم خليج المكسيك. ويعني ذلك إعادة النظر في الحدود وعدم احترام القانون الدولي. وقد بدأ عهد "ترمب الثاني" في التلويح بحرب الرسوم الجمركية ليس فقط ضد الصين المنافس الأول وغيره، بل كذلك ضد الحلفاء وعلى رأسهم الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت نفسه، انطلقت قبل التنصيب تدخلات "نائب رئيس" الأمر الواقع إيلون ماسك في الشؤون الأوروبية، من خلال الترويج لسياسات بعض أحزاب أقصى اليمين ودعمها وشد عضدها من لندن إلى برلين حيث ستجرى انتخابات تشريعية مبكرة في فبراير/شباط القادم.

لا يأخذ النهج الأميركي الأحادي في الاعتبار مصالح الحلفاء. وهكذا عند كل انتقال إلى البيت الأبيض، يضطر الاتحاد الأوروبي إلى بناء خياراته السياسية الخارجية بحسب اتجاهات واشنطن. والآن، ومع بداية ولايته الرئاسية الجديدة، أخذ دونالد ترمب ينفذ ما قاله عن سياسته الخارجية: تعطيل التجارة الحرة، الأحادية، إدانة المنظمات الدولية والدبلوماسية المتعددة الأطراف (أكد الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ ومن منظمة الصحة العالمية)، الهجوم على الاتحاد الأوروبي، ببساطة لأنه يحقق لصالحه فائضا تجاريا في التبادل مع الولايات المتحدة، واحترام المستبدين الأقوياء، وإهمال مخاطر النفوذ الروسي في أوروبا.

تبدو القارة العجوز تائهة إلى حد كبيرومنقسمة وتحاول التكيف على أمل الحفاظ على التزام واشنطن بحلف شمال الأطلسي والشراكة في الأمن الأوروبي

لا يبرز أي موقف أوروبي موحد حتى اللحظة، وهو في الإجمال أقرب إلى الحذر أو الصمت في مواجهة النشاط الترمبي المفرط الذي يسعى لفرض عولمة لصالح استمرارية الغلبة الاقتصادية الأميركية وتهميش أوروبا التي لم يذكرها ولو بكلمة واحدة في خطاب تنصيبه (تماما كما أوكرانيا أو حلف شمال الأطلسي) لكنه عاد في الأيام التالية ليندد بالاتحاد الأوروبي ويصفه بـ"الصين الصغيرة" لأنه "يستفيد" من القوة الاقتصادية الأميركية الرائدة في العالم" والتي تسجل عجزا تجاريا مع الاتحاد الأوروبي قدره 350 مليار دولار.

مع ترمب الثاني، التعددية موضع شك في واشنطن. ويمكن لنا أن نتساءل عن مستقبل "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" والعواقب التي قد تترتب على تجاوز الحدود الإقليمية الأميركية.

ويطال التساؤل مستقبل الديمقراطية الليبرالية أيضا. ويحتدم الصراع حول منظومات القيم، وسيكون من الصعب على الأوروبيين مقاومة العصر الترمبي– الماسكي. عصر السياسة السريعة على نمط الوجبات السريعة. 

في المواجهة، تبدو القارة العجوز تائهة إلى حد كبير ومنقسمة وتحاول التكيف على أمل الحفاظ على التزام واشنطن بحلف شمال الأطلسي والشراكة في الأمن الأوروبي، وذلك مقابل التزام أوروبي بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى خمسة في المئة من الميزانيات العامة في دول "الناتو". ويبرر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، المآخذ الأميركية باعترافه أن "المشكلة ليست في الولايات المتحدة، بل إن المشكلة هي أوروبا".

لكن ذلك لا يحجب التقصير الأوروبي أو الخلل البنيوي والانقسامات الأوروبية في مقاربة النهج الأميركي. ويهلل أحد أصدقاء الرئيس المجري فيكتور أوربان ويراهن على أن "رئاسة دونالد ترمب للولايات المتحدة ستساعد في إطلاق موجة ثانية من التغيير السياسي اليميني الشامل في أوروبا" وما وصفه بالهجوم "لاحتلال" بروكسل. وعلى المنوال نفسه، تحاول رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني تعزيز موقعها وتنتهز الفرصة لطلب نقل عاصمة الاتحاد الأوروبي من بروكسل إلى روما استنادا إلى تاريخها. بيد أن ذلك لم يمنع رئيس الوزراء الفرنسي، فرنسوا بايرو، من التحذير من خضوع فرنسا وأوروبا للهيمنة والتهميش في حال عدم السعي لاستعادة زمام المبادرة في وجه واشنطن.

وفي السياق نفسه، أتت نصيحة رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي لأوروبا بأن "تتعلم كيفية الاعتناء بنفسها حتى لا يتمكن العالم من الاستمرار في تجاهلها"، أو مطالبة إيمانويل ماكرون بـ"أوروبا موحدة وقوية" متمتعة بـ"الاستقلال الاستراتيجي"، وإن كان ذلك يبدو متعذرا وصعب المنال في المدى المنظور. 

لن يتركز الاختلاف أو التباين مع إدارة ترمب على الهدف النهائي بل على الأساليب وعلى إثبات أوروبا لقدراتها واستعدادها لتطوير استقلالها الاستراتيجي وإنفاقها الدفاعي

وتتمثل جسامة التحدي لأوروبا باختلاف "ترمب الثاني" عن "ترمب الأول" لأنه يمتلك هذه المرة خطة جذرية ومحددة، تقضي "بإعادة تشكيل الغرب" لجعل الولايات المتحدة الدولة ذات السيادة الوحيدة. لكن بين الخطط النظرية والتطبيقات هناك هوة يصعب ردمها. إذ إن مجابهة الولايات المتحدة لخصومها ومنافسيها، ستتناقض مع المغالاة في الإجراءات ضد الاتحاد الأوروبي حليفها الاستراتيجي الأول. ومن جهته، سيسعى تكتل بروكسل للتكيف مع تقلبات العهد الأميركي الجديد، خاصة أن الهموم الاستراتيجية المشتركة توجد الآن على المحك من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط والصلة مع الصين.

المسألة الأوكرانية.. الملف الساخن 

خلال حملته الانتخابية، تعهد ترمب بوقف حرب أوكرانيا وكرر مرارا أنه لو كان في البيت الأبيض في 2022 لم تكن تلك الحرب لتحصل. وتحت عنوان "الصداقة" و"الثقة" مع فلاديمير بوتين، أسدى الرئيس الأميركي العائد، الوعود من دون الاستناد لمعطيات أو لبرنامج محدد. وفي الوقت نفسه لوح ترمب بقطع المساعدات عن أوكرانيا وإجبار كييف على الدخول في محادثات سلام فورية. لكن ما رشح إلى الآن بعد تنصيبه يشير إلى اعتزام إدارته الحفاظ على الإمدادات العسكرية الأميركية لكييف لبعض الوقت، كجزء من مناورة لإرغام موسكو على القبول بتسوية. وفي الإطار نفسه، حض الرئيس الأميركي نظيره الروسي، على التوصل لاتفاق يضع حدا للحرب الطاحنة الدائرة في أوكرانيا "على الفور"، وإلا فستواجه موسكو رسوما جمركية وعقوبات. 

بالرغم من عدم وضوح الرؤية الأميركية في إيجاد حل للمسألة الأوكرانية، تشير التقديرات في العواصم الأوروبية إلى أن عودة ترمب من شأنها زيادة تشدد فلاديمير بوتين. ولهذا يركز الجانب الأوروبي على ترك كييف تحدد بنفسها لحظة مشاركتها في عملية التفاوض والشروط اللازمة لهذه المشاركة، وعلى مواصلة منح أوكرانيا كافة الوسائل اللازمة للدفاع عن نفسها، وذلك لفتح أبواب تسوية عادلة.

أ ب
جنود من اللواء الأول للحرس الوطني الأوكراني يجرون تدريبات قتالية في شمال أوكرانيا، الجمعة 3 نوفمبر 2024

حيال كل السيناريوهات، يجد الأوروبيون أنفسهم عالقين أكثر من أي وقت مضى بين فلاديمير بوتين ودونالد ترمب. الأول يدفع تفوقه نحوشرق أوكرانيا، حيث تتقدم قواته، دون أن يتمكن من اختراقه فعليا. أما الثاني فيعتزم إنهاء الصراع في أسرع وقت ممكن، حتى لو بدا أنه غير قادر على ذلك.

أمام الكثير من العناصر المجهولة، تبدو المخاطر بالغة الأهمية بالنسبة للقارة، بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من الهجوم الروسي على أوكرانيا: إذ تدرك الدول السبع والعشرون وجيرانها، مثل المملكة المتحدة أو النرويج، أن الأمن الأوروبي أصبح أكثر ارتباطا بالأمن في أوكرانيا. من هنا يبدو من الضروري أن يتمتع هذا البلد على الأقل بالاستقرار، وأن يكون حرا وديمقراطيا ومرتبطا بشكل أو بآخر بالاتحاد الأوروبي والحماية الغربية.

لن يتركز الاختلاف أو التباين مع إدارة ترمب على الهدف النهائي بل على الأساليب وعلى إثبات أوروبا لقدراتها واستعدادها لتطوير استقلالها الاستراتيجي وإنفاقها الدفاعي. 

من جهته، لن يكون بمقدور ترمب العازم على ممارسة "رئاسة إمبريالية" في الداخل والخارج تحقيق معجزات، فسوف يصطدم بجدارالحقائق الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية القاسية التي من شأنها أن تؤخر انبلاج العصر الذهبي لبلاده الذي يبشر به. وهكذا سيكون من الصعب على الرجل ذي الشعر الذهبي إطلاق العصر الذهبي وسط عالم الفوضى الاستراتيجية.

font change