ترمب... يُطفئ نارا أم يُشعل العالم نارا؟

لم يعد العالم يحتمل مزيدا من النيران، ويحتاج إلى إطفاء ما يتيسر منها

ترمب... يُطفئ نارا أم يُشعل العالم نارا؟

يُسأل قيس في إحدى المسرحيات المستوحاة من قصة "قيس وليلى" التاريخية: "أجئت تطلب نارا.. أم ترى جئت تشعل البيت نارا؟ وإذ تشخص أبصار العالم الآن إلى القادم الجديد- القديم إلى البيت الأبيض دونالد ترمب، يبدو كما لو أن كُثُرا يسألون هل جاء ليطفئ نارا مُشتعلة في عالمنا أم إنه قد يزيدها اشتعالا.

وللسؤال جوابان، أو قُل إنه جواب من شقين. فهو قد يُطفئ نيران حرب أوكرانيا التى يعطيها أولوية واضحة، وربما يكمل عملية إنهاء النار التي أشعلتها حرب غزة، ومحتملُ أيضا أن يشرع في إطفاء نيران أخرى مشتعلة بين دول في العالم وأكثر منها في داخل دول أخرى. ولكنه قد يشعل في الوقت نفسه نيرانا جديدة، ويصب زيتا على أخرى مشتعلة. ولذا فمن الطبيعي أن تتباين تقديرات المراقبين والخبراء بشأن السياسات التي سيتبعها ترمب خلال فترة إدارته الثانية.

إذا اتجهت زاوية النظر نحو ما يدعم سيناريو أن يكون إطفاء النيران أو ما سماها في خطاب التنصيب "صناعة السلام" سمة أساسية لولاية ترمب الثانية، سيكون التركيز على موقفه تجاه حرب غزة. فقد بدأ بطلب إنهاء هذه الحرب، أو الشروع في وضع لها، قبل أن يدخل البيت الأبيض. وأعقب ذلك إنذاره المشهور بأن عدم الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين الموجودين في قطاع غزة سيجعل المنطقة جحيما. إنذارُ كان له وقعه، وليس صداه فقط. فُهم أولا بوصفه إنذارا لحركة "حماس" وغيرها من الفصائل التي تحتجز أسرى. ولكن تبين أن للإنذار جانبا آخر يتعلق بحكومة نتنياهو. وهذا ما يستقيم مع منطوق الإنذار الذي قال فيه إنه سيجعل المنطقة، وليس قطاع غزة فقط، جحيما. وهذا منطقي أيضا، لأن الإفراج عن الأسرى يرتبط باتفاق بين طرفين، وليس بطرف واحد. ويجوز لأي من الطرفين، أو كليهما، أن يعوق التوصل إليه.

استوعبت حركة "حماس" الإنذار بسرعة. فما يُعرف عن حزم ترمب وحسمه لا يترك مجالا للتباطؤ. وأبدت تجاوبا سريعا مع ما يطرحه الوسطاء، وصارت أكثر مرونة من أي وقت مضى. ولما تباطأت حكومة نتنياهو، ربما اعتقادا بأن الإنذار أحادي، جاءها الخبر اليقين من مبعوث ترمب الخاص ستيف ويتكوف: الأمر جاد ولا يحتمل غيره. وبغض النظر عن مدى صحة ما سُرِب عن أن ويتكوف كان حازما خلال اجتماعه مع نتنياهو في 10 يناير/كانون الثاني، فالقدر المتيقن أن موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي تغير بشكل واضح بفعل ما سمعه منه أيا يكن. فما إن خرج من الاجتماع حتى أمر رئيسي جهازي الموساد والشاباك بالتوجه إلى قطر لإكمال المفاوضات التي قادت خلال أربعة أيام فقط إلى اتفاق ظل متعثرا منذ أن قدم الرئيس السابق جو بايدن مشروعا أول له في مايو/أيار الماضي.

لم يخل حديث ترمب عن جزيرة غرينلاند الدنماركية من وعيد بشكل غير مباشر. فقد جدد طلبا كان قد تحدث عنه قرب نهاية ولايته السابقة لشراء الجزيرة التي تتمتع بحكم ذاتي واسع

وإذ سلمت "حماس" منذ أن جاءها نبأ الإنذار بأن لا مجال أمامها إلا المضي قدما، فقد لحق بها نتنياهو عندما أدرك أن المناورة غير ممكنة هذه المرة، وأن المناورات التي اعتمد عليها في تعامله مع إدارة بايدن لا تفيده مع من يبدو أنه يريد الانتهاء من "صداع" حرب غزة لأن لديه ما هو أهم وأكبر سواء في المنطقة أو في العالم. وتبدو سياسة ترمب تجاه هذه الحرب، إذن، مُلهمة لمن يتوقون إلى إطفاء النيران التي رفعت درجة حرارة العلاقات الدولية إلى مستوى يقترب من الغليان, وخاصة إذا واصل الضغوط لإكمال الاتفاق بعد انتهاء مرحلته الأولى في 6 مارس/آذار.

ورغم أن الأسلوب الذي اتبعه ترمب في غزة لا يصلح في التعامل مع حرب أوكرانيا، يظل إحراز تقدم باتجاه وضع حد لها أملا يراود من يراهنون على سياسته، ويتوقع بعضهم أنه سيتبع الطريقة المناسبة في مقاربتها، والتي قد يجمع فيها بين "الجزرة والعصا"، أي يمارس ضغوطا بالتوازي مع تقديم حوافز.

أما إذا اتجهت زاوية النظر نحو ما يدعم مخاوف البعض من أن يشعل ترمب نارا جديدة في العالم، فسيكون التركيز على بعض ما قاله خلال فترة الانتقال بين الانتخابات ودخوله البيت الأبيض. وقد استخدم لغة عنيفة عندما تحدث عن ضرورة خفض رسوم مرور السفن الأميركية في قناة بنما، وهدد باستعادتها إذا لم يحدث ذلك وبوضع حد لما اعتبرها سيطرة صينية على هذه القناة. وقصد بذلك وضع الميناءين البحريين اللذين يوجدان عند طرفي القناة تحت إدارة شركة  "سي كيه هاتشيسون" (CK Hutchison Holdings) التي يوجد مقرها الرئيس في هونغ كونغ. ويبدو أنه يستند في تهديده هذا إلى أن الولايات المتحدة هي التي نفذت المرحلة الأخيرة في حفر القناة أوائل القرن العشرين، وأنها لم تصبح تحت سيطرة بنما الكاملة إلا في عام 1999. ولهذا قال في خطاب التنصيب إن أميركا أهدت القناة إلى بنما بطريقة حمقاء.

كما لم يخل حديثه عن جزيرة غرينلاند الدنماركية من وعيد بشكل غير مباشر. فقد جدد طلبا كان قد تحدث عنه قرب نهاية ولايته السابقة لشراء الجزيرة التي تتمتع بحكم ذاتي واسع. ولكنه لم يكتف بالطلب، إذ لم يستبعد إمكان اللجوء إلى ما سماه الإكراه العسكري أو الاقتصادي للاستحواذ عليها. ولكن الأرجح أنه قد يعتمد على "الجزرة" بدرجة أكبر عن طريق إغراء سكان الجزيرة بما ينتظرهم من فرص اقتصادية في حالة ضمها إلى الولايات المتحدة. وهذا هو ما اتبعه في حديثه عن ضم كندا لتصبح الولاية الأميركية رقم 51. فقد سعى إلى إغراء سكانها بالتحسن الذي سيحدث في حياتهم عندما تُلغى الرسوم الجمركية على الصادرات الأميركية إليهم، وتُخفض الضرائب التي يدفعونها، فضلا عن أن الانضمام إلى الولايات المتحدة يجعلهم أكثر أمنا مما يعتبره تهديدا صينياً وروسياً قد تتعرض كندا له. ولكن لأن بنما وكندا والدنمارك تقع كلها في طرف العالم الشمالي، فالأرجح أن طموحات ترمب المتعلقة بها لن تؤثر كثيرا  في العالم بافتراض أنها قد تُشعل نارا بشكل ما.

لم يعد العالم يحتمل مزيدا من النيران، ويحتاج إلى إطفاء ما يتيسر منها. ولعل ترمب يدرك أنه كلما استعرت النار في "البيت العالمي" ازداد احتمال أن يطول لهيبها الجميع بما في ذلك الولايات المتحدة

ولذا، ربما تكون الحرب التجارية التي شرع ترمب فور تنصيبه في توسيع نطاقها أكثر تأثيرا، ولكن بشكل مختلف. فنارُ هذه الحرب أبرد مما تشعله الصراعات الجيوسياسية. ولكن آثارها الفعلية قد تفوق بعض هذه الصراعات وخاصة أن سياسة ترمب الحمائية في ولايته الثانية لن تقتصر على الصين، التي بدأ في محاربتها تجاريا عام 2018 في فترة إدارته الأولى، بل ستكون أوسع نطاقا، وستشمل دولا أخرى يعتبر بعضها حليفا للولايات المتحدة.

عندما نتأمل ما بدا حتى الآن من اتجاهات إدارة ترمب وسياساتها في أيامها الأولى ربما نجد أنها قد تطفئ نيرانا أكثر مما تشعل. وهذا هو ما ينتظره كثير من البشر في العالم ويتوقون إليه. فقد ارتفعت درجة حرارة العالم السياسية-العسكرية، وبلغت مبلغ الخطر مع اقترابها من حالة الغليان، ولم يعد الحديث عن حرب عالمية عابرا أو نادرا، بل صار غالبا في الخطاب السياسي للدول الكبرى، وخاصة بعد تعديل روسيا عقيدتها النووية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي لتخفيف القيود على استخدام الأسلحة غير التقليدية.

لم يعد العالم يحتمل مزيدا من النيران، ويحتاج إلى إطفاء ما يتيسر منها. ولعل ترمب يدرك أنه كلما استعرت النار في "البيت العالمي" ازداد احتمال أن يطول لهيبها الجميع بما في ذلك الولايات المتحدة. فقد بنى قسماً مهماً من حملته الانتخابية على اتهام إدارة بايدن-هاريس بالعجز عن وضع حد لحربي أوكرانيا وغزة، وكرر قوله إنهما ما كانتا تنشبان لو أنه استمر في البيت الأبيض بعد انتخابات 2020. ولذا ربما لا يكون توقع أن تشهد ولايته إطفاء نيران مشتعلة أكثر من إشعال أخرى جديدة مجرد نوع من التفاؤل أو ضرب من الخيال. وأيا يكن الأمر فالقدر المتيقن أن الأعوام الأربعة المقبلة ستكون مختلفة عن السنوات الأربع السابقة.

font change