"ديب سيك آر-1" صفعة صينية مبكرة لأحلام ترمب

آثارها المالية والتكنولوجية والصناعية الحقيقية لن تنتهي قريبا في انتظار كلمة المستثمرين

أ.ف.ب
أ.ف.ب

"ديب سيك آر-1" صفعة صينية مبكرة لأحلام ترمب

من موقع الهجوم إلى موقع الدفاع. هذا ما فعلته شركة أبحاث الذكاء الاصطناعي الصينية الناشئة "ديب سيك" بعيد إطلاقها روبوت المحادثة "ديب سيك آر-1" بـمنصة "تشات جي. بي. تي." التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في السنتين الأخيرتين. تمكنت "ديب سيك" عن قصد أو غير قصد وفي مدة قصيرة من اجتذاب ملايين المستخدمين والتفوق على "تشات جي. بي. تي." في متجر تطبيقات "أبل"، وفي ساعات قليلة أطاحت كلفة التكنولوجيا المستخدمة فيها بصاروخ "إنفيديا" المستمر في الصعود منذ العام المنصرم، وحجّمت شركة "أوبن إيه. آي." وطموحاتها، وكذلك "جيمناي" وأخواتها.

فجأة، وجدت نفسها كبرى شركات التكنولوجيا، الأميركية خصوصا، في وجه منعطف بدد أكثر من 600 مليار دولار من قيمتها السوقية، وأمام تساؤلات أسواق المال، والمستثمرين خصوصا، عن جدوى أعمالها أمام الصدمة الصينية التي سرعان ما بددت وعود الرئيس الأميركي دونالد ترمب وشعاراته "لنجعل أميركا عظيمة من جديد"، وطرحت أسئلة عن خلفياتها ومآربها المالية طبعا.

اثارت "ديب سيك" عاصفة في العمق التكنولوجي الأميركي، خصوصا في "وادي السيليكون"، مع إطلاق ترمب ومعه سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لـ"أوبن إيه. آي."، الشركة المطورة لـ"تشات جي. بي. تي."، ولاري إليسون، كبير مسؤولي التكنولوجيا في "أوراكل"، وماسايوشي سون، المؤسس والرئيس التنفيذي لـ"سوفت بنك" الياباني، مشروع "ستارغيت" (Stargate) الذي يستهدف استثمارات بـ500 مليار دولار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، من مراكز للبيانات، وهي أموال قال عنها ترمب إنها ستصرف في الولايات المتحدة، في إيحاء بـ"شرعيتها" وأحقيتها في جذب أموال المستثمرين الواقعين تحت سحر الكلمات المنمقة للرئيس المنتخب والمسؤولين الثلاثة.

فرضت مفاجأة "ديب سيك آر-1" صدمة رباعية في منتهى الخطورة المالية، يرجح أن تتوسع الى أبعاد أخرى، منها التفوق في الاداء ونوعية الرقائق والكلفة

تتركز حاليا مفاجأة "ديب سيك آر-1" في صدمة رباعية في منتهى الخطورة المالية، يرجح أن تتوسع الى أبعاد أخرى:

- أولا: مضاهاته للجيل الأول من "تشات جي. بي. تي." وتفوقه على روبوتات المحادثة التابعة لـ"غوغل" و"أنثروبيك".

- ثانيا: التكلفة "البسيطة" لأنموذج الذكاء الاصطناعي الصيني الذي قدر بستة ملايين دولار إلى 12 مليون دولار لإطلاق الروبوت وتدريبه، في مقابل مئات ملايين الدولارات، بل مليارات أنفقتها الشركات الأميركية للهدف نفسه، من بينها "أوبن إيه. آي." التي أنفقت 5 مليارات دولار العام المنصرم وحده. وكانت "ميتا" أعلنت الأسبوع الماضي أنها ستنفق ما يزيد على 65 مليار دولار في 2025 لتطوير الذكاء الاصطناعي.

- ثالثا: إتاحة روبوت المحادثة الجديد للجميع من دون استثناء وجعله مفتوح المصدر، وهو ما ليس متوفرا لدى الشركات الأميركية.

أ.ف.ب

- رابعا: استناد "ديب سيك" إلى رقائق "إنفيديا" H800 القديمة نسبيا، التي يعود تاريخها إلى 2021، في حين تحلق "إنفيديا" في سماء شركات التكنولوجيا باعتبارها الوحيدة التي تملك التكنولوجيا المتطورة القادرة على إنتاج رقائق حديثة لاستيعاب التطور الهائل المنتظر للذكاء الاصطناعي. فكيف تمكنت الشركة الصينية الناشئة من إحداث هذا الاختراق بما توفر لديها، وكيف حصلت على الرقائق في المقام الأول؟

ملاحظات كثيرة لا يمكن تخطيها عند قراءة المشهد من زوايا عدة. فعلى الرغم من استعادة "إنفيديا" بعضا من عافيتها في أسواق المال، يتوقف المتابع حركة هذه الأسواق عند ما يمكن وصفه بـ"الهشاشة" المتمثلة بالتقلبات السريعة لأمزجة المستثمرين وفقدانهم السريع للثقة بشكل عام عند بوادر الأزمات، إن وقعت أو لم تقع. فما هي الأسباب الكامنة وراء عدم تماسك هذه الأسواق؟ وهل نحن على طريق فقاعة تكنولوجية كالتي حصلت عام 2000؟ 

من الواضح أن ترمب وسام ألتمان، الذي غاب عن التعليق طوال يوم الإثنين الماضي، ومن يعنيهم الأمر، عمدوا إلى احتواء الصدمة من خلال الإقرار بالوقائع الجديدة والدعوة إلى المراجعة الذاتية، و"الترحيب بالمنافسة"، ومنهم من اعتبر رد فعل المستثمرين بأنه مبالغ به وأرجعه إلى إمكان بحث المستثمرين عن عذر لبيع أسهمهم بعد تضخمها بشكل كبير مع عودة ترمب إلى البيت الأبيض، ومنهم من نمت تعليقاته عن استهزاء بما أنتجته الصين، بكونه منتجا واحدا لا يرقى إلى الخطط العظمى للولايات المتحدة في هذا الإطار.

 لكن ما الذي يمنع الصين، التي تهيمن على المعادن الرئيسة النادرة وتمتلك المواهب التقنية الفذة، من البناء على هذا الإنجاز الاستثنائي الذي تسبب في اضطراب "وادي السيليكون" و"وول ستريت" على حد سواء، ودعمه إلى أقصى الحدود واللحاق بركب الولايات المتحدة بأقل التكاليف وبمرونة اقتصادية عالمية أوسع؟

كذلك، من الواضح أن الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة على تصدير التكنولوجيا الأميركية إلى الصين، لم يشكل سدا منيعا أمام المد الصيني، وربما يكون ما حدث قد بعث برسالة إلى ترمب أن الحرب التجارية قد لا تلقى ثمارها في عصر الذكاء الاصطناعي اللامحدود، بمعنى تطوره وكذلك طبيعته في أن يصبح في متناول الجميع ومستقلا في الوقت عينه، حيث لا يمتثل إلى أوامر أي جهة كانت.

لا شك أن الصدمة الرباعية لإطلاق "ديب سيك آر-1" فرضت الكثير من الغموض الذي بات يكتنف أنظمة الذكاء الاصطناعي ككل، وما إذا كان ما أعلنته الشركة وراء روبوت المحادثة الجديد صادقا في أرقامه وتقييمه للتكلفة الحقيقية أم أن هناك من يقف وراء دعمها وتمكينها، محليا أو دوليا، من إنشاء منافس جدي وقوي يناقض الادعاءات الأميركية، ويوجه صفعة لتمرد ترمب اللا متناهي وقراراته الاقتصادية التي تكاد تتسم بـ"الديكتاتورية".

المذهل أن نموذج "ديب سيك" المجاني، كلّف تطويره أقل من ستة ملايين دولار، مقارنة بمليارات الدولارات التي أنفقها رواد صناعة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي

لا بد في الفترة الفاصلة، من تقييم مالي وتكنولوجي لما حصل فعلا، ودرس النتائج النهائية المترتبة عنه، فالتقنيات المتقدمة تلعب دورا متعاظما في اقتصاديات الدول وتقدمها، ولن يكون إطلاق تطبيق "تشات جي. بي. تي." آخرها، الذي حوّل شركة "إنفيديا" إلى إحدى شركات العالم الأعلى قيمة.

ستة ملايين دولار "جننت" المستثمرين والشركات

وكان لينغ وينفينغ، خريج هندسة المعلومات والإلكترونيات البالغ من العمر 40 عاما، وهو شريك مؤسس لصندوق التحوط "هاي فلاير"، أسس شركة "ديب سيك" عام 2023 في مدينة هانغتشو جنوب شرق الصين، ويتكون فريق عملها بشكل أساسي من شباب مبدعين تخرجوا في أفضل الجامعات الصينية.

وفي 20 كانون الثاني/يناير 2025، تزامنا مع إطلاق النموذج "ديب سيك-آر1"، شارك ليانغ في ندوة مغلقة مع رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ. واعتبرت هذه المشاركة إشارة ضمنية الى أهمية التطبيق في تحقيق أهداف الحكومة الصينية، خصوصا في ما يتعلق بمواجهة القيود الأميركية على تصدير التكنولوجيا.

المذهل أن نموذج "ديب سيك" المجاني، كلّف تطويره أقل من ستة ملايين دولار، مقارنة بمليارات الدولارات التي أنفقها رواد صناعة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. لكن محللين في "شركة بيرنشتاين" أبدوا شكوكا حول هذه التصريحات، مشيرين إلى أن التكلفة الحقيقية قد تكون أعلى بكثير، وكذلك شكك رجل الأعمال إيلون ماسك بهذا الرقم وبقدرات التطبيق.

وكانت الولايات المتحدة قد حظرت بيع تقنيات الرقائق المتقدمة المستخدمة في تطوير الذكاء الاصطناعي للصين، مما دفع المطورين الصينيين إلى مشاركة أعمالهم في ما بينهم، وتجربة أساليب جديدة للتكنولوجيا تتطلب قدرات حوسبة أقل كثيرا من ذي قبل.

ورغم حداثة نشأتها، أصدرت الشركة حتى الآن ستة نماذج موسعة بداية من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وتحتاج شركات الذكاء الاصطناعي إلى حواسيب فائقة تحوي ما يصل إلى 16 ألف رقاقة بينما اعتمد مهندسو "ديب سيك" على ألفي رقاقة فقط!

ماذا حصل في "الاثنين الأسود" في الأسواق المالية؟

خسر أغنى 500 شخص بقطاع التكنولوجيا في بورصة "وول ستريت"، بقيادة جينسن هوانج، المؤسس المشارك لشركة "إنفيديا"، عملاق الرقائق الأميركية، ما مجموعه 108 مليارات دولار في نهاية تعاملات الإثنين الماضي، وفق "مؤشر بلومبيرغ للمليارديرات"، حيث أدت عمليات البيع التي تسبب بها صاروخ "ديب سيك" إلى انخفاض المؤشرات الرئيسة.

تسبب اطلاق التطبيق الصيني بتدهور أبرز المؤشرات وأسعار أسهم شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى مثل "إنفيديا" التي تراجعت أسهمها بنسبة 17 في المئة، وأسهم "مايكروسوفت"، و"ميتا"

وشهدت شركات التكنولوجيا العملاقة تبخر المليارات من قيمتها السوقية وما يقرب من 85% من إجمالي انخفاض مؤشر "بلومبيرغ"، وهبط مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" بنسبة 1.5%، وتراجع مؤشر "ناسداك" الى أدنى مستوى له في يوم واحد منذ 18 ديسمبر/كانون الأول 2024 ، وهوى مؤشر رقائق أشباه الموصلات في الولايات المتحدة 9.2% إلى أدنى مستوى يومي له منذ مارس/آذار 2020.

وقد تسبب إطلاق التطبيق بانخفاض أسعار أسهم شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى مثل "إنفيديا" صانعة الرقائق الإلكترونية المستخدمة في تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تراجعت أسهمها بنسبة 17 في المئة الاثنين الماضي، وأسهم "مايكروسوفت"، و"ميتا".

أ.ف.ب
شرائح أشباه الموصلات أثناء عملية المعالجة في مصنع في بينزهو، في مقاطعة شاندونغ بشرق الصين، 15 يناير 2025

وكذلك تراجعت أسهم شركة "ايه إس إم إل" الهولندية لصناعة الرقائق الإلكترونية، وأسهم شركة "سيمنز إنرجي"الألمانية، وأسهم شركتي الرقائق اليابانيتين "كيسكو كورب" بنسبة 2.9 في المائة، و"أدفانتست" لصناعة معدات اختبار الرقائق الموردة لـ"إنفيديا" بنسبة 11 في المئة، وانخفض سهم شركة طوكيو إلكترون لصناعة معدات تصنيع الرقائق 5.94 في المئة، في حين هبطت أسهم الشركة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات (إس إم آي سي)، الرائدة في صناعة الرقائق في الصين، بنسبة 2.5 في في المئة.

وفي هونغ كونغ، ارتفع مؤشر "هانغ سنغ" بنسبة 1.1 في المئة، بقيادة شركات التكنولوجيا الصينية المدرجة في المنطقة، بما في ذلك "تينسنت" و"علي بابا". كما ارتفعت أسهم شركة الذكاء الاصطناعي الصينية "آي فلايتيك" بنسبة 2.4 في المئة.

وفي طوكيو، أفاد المتعاملون بأن عمليات البيع تركزت بشكل كبير على أسهم شركات مثل «طوكيو إلكترون» و«فوجيكورا»، التي شهدت ارتفاعات في الأشهر الأخيرة بفضل استثمارها العالي في الذكاء الاصطناعي.

وشهدت شركة «فوروكاوا إلكتريك»، التي تُصنّع كابلات الأسلاك لمراكز البيانات، مكاسب حادة بشكل خاص منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لكن أسهمها انخفضت بأكثر من 9 في المائة مما جعلها أكبر خاسر في مؤشر «نيكي 225» القياسي.

تطورات مقلقة للاقتصاد الأميركي

الأهم أن هذه الهزة في الأسواق تأتي هذه التطورات بعد وعود ترمب وتهديداته "الهوليدية" في خطاب تنصيبه عن "حقبة النجاح الوطني المثيرة" التي ستحظى بها الولايات المتحدة، والتي يُتوقع أن يُسهم الذكاء الاصطناعي في تحقيق مكاسب إنتاجية كبيرة وتعزيز النمو الاقتصادي.

وتأتي أيضاً على خلفية مساعي الحكومة الأميركية لحظر تطبيق "تيك توك" الصيني في الولايات المتحدة أو إجبار الشركة المطورة له على بيعه، وكان ترمب لفت إلى أن "مايكروسوفت" تجري فعلاً مفاوضات لشرائه. في وقت أعلنت شركة "مايكروسوفت" أنها تخطط لاستثمار 80 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي هذا العام، كما أعلنت "ميتا" عن استثمارات بقيمة 60 مليار دولار.

ويتجه انتباه المستثمرين نحو أرباح الشركات المستحقة هذا الأسبوع. وستقدم مجموعة من "العمالقة السبع" تقاريرها في الأيام المقبلة، مع "ميتا" و"مايكروسوفت" و"تيسلا" و"أبل".

نأمل أن يكون إطلاق "ديب سيك" للذكاء الاصطناعي من شركة صينية بمثابة جرس إنذار لحاجة صناعاتنا إلى التركيز الحاد على المنافسة للفوز

الرئيس الأميركي دونالد ترمب

وتابع بنك الاحتياطي الفيديرالي التطورات خلال اجتماعه ليومين، ووفقا لأداة «فيد وتش» التابعة لمجموعة «سي أم إي»، فإن العقود الآجلة لصناديق الاحتياطي الفيديرالي تتوقع بقاء أسعار الفائدة دون تغيير بنسبة تزيد على 99في المئة. وستمنح بيانات التضخم الصادرة يوم الجمعة المستثمرين مزيدا من الرؤى حول صحة الاقتصاد الأميركي.

ضربة لواشنطن... وجرس إنذار

وجه التقدم الذي حققته "ديب سيك" الصينية الناشئة ضربة للولايات المتحدة وأولويتها المتمثلة في الحفاظ على التفوق في مجال التكنولوجيا، وأعاد رسم خريطة الذكاء الاصطناعى العالمى، وأثار تساؤلات حول حجم الاستثمارات الذي تخطط له الشركات الأميركية.

وأثار نجاح "ديب سيك" حالة من الذعر في "وادي السيليكون"، ومخاوف من أن يهدد بفقدان أميركا هيمنتها على قطاع الذكاء الاصطناعي، واعتبر ترمب في حديث له أن نموذج الذكاء الاصطناعي الصيني المنخفض التكلفة بمثابة "جرس إنذار" للشركات الأميركية.

وقال خلال مؤتمر للحزب الجمهوري في ميامي: نأمل أن يكون إطلاق "ديب سيك" للذكاء الاصطناعي من شركة صينية بمثابة جرس إنذار لحاجة صناعاتنا إلى التركيز الحاد على المنافسة للفوز.

أ.ف.ب

وأضاف: من الجيد أن تتوصل الشركات في الصين إلى طريقة أرخص وأسرع للذكاء الاصطناعي. أرى ذلك إيجابيا، لأننا سنفعل ذلك أيضا، لذلك لن ننفق الكثير، وسنحصل على النتيجة نفسها، نأمل ذلك.

السؤال الأكبر الآن، هل سيتمدد تأثير إطلاق "ديب سييك" أكثر إلى شركات الصناعة التكنولوجية وملحقاتها، كما أسهمها، وتاليا وربما المصارف "المتورطة" في الأسواق المالية الأميركية والعالمية. وفي أوج الصراع السياسي، والحرب الاقتصادية التي تشنها الولايات المتحدة على الصين بتوجيه من الرئيس ترمب، كيف سيكون رد الفعل الأميركي، وهل ستتمكن الشركات الأميركية من استعادة المبادرة والإمساك بزمام صناعة الذكاء الاصطناعي؟

font change

مقالات ذات صلة