"الرقم الذي تتصل به لم يعد متاحا".
لم أعد في حاجة إلى رؤية لافتة سوداء وقراءة الاسم الذي يتوسطها. هم ميتون وأنتم ميتون ونحن ميتون. تذهب الموسيقى الجنائزية إلى عظامي. هناك عصافير كثيرة فرت من أشجار اليوكالبتوس التي تقف مثل جنود تُركوا في هيئة الاستعداد على الرصيف الأيمن من شارع أبو نؤاس.
هناك مشيت مع الموتى. غنينا وصرخنا وتأوهنا وبكينا في استرسال مع طواويس خفية كنا نظنها تمشي وراءنا لتحصي خطواتنا التي لم تعد تترك أثرا بعد أن انتقلنا من الحالة الصلبة إلى الحالة الغازية. أما وقد أحاطنا الصمت بذراعيه فكان علينا أن نجرد الخوف من ثيابه. استسلم العالم لعريه وصار الهواء يضرب أبواب الحانات برشقات متلاحقة من عوائه الذي التصق بأسناننا.
تلك بلاد من تمر. رأينا نمورها هي تقفز من خرائطها المهملة على طاولة التشريح وطاردتنا عيون غزلانها بأسئلة المزاج البغدادي الذي تدمع عيناه حين تخطئ السكين طريقها إلى قلب بصلة. كنا معا سلالة قادمة من اليوم الذي فقد اوتونابشتم السيطرة على ركاب سفينته التي بناها من الكافور والمسك والزعفران والعنبر.
"لا تزال رائحة العنبر تنبعث من خطوط العمر في يدي"، يضحك رعد عبد القادر: "لقد عشت طويلا بعدي يا صديقي"، لن أخبره أن صديقنا الشاعر صاحب الشاهر كان سبقه إلى الموت بثلاثين سنة. أما كمال سبتي فلا أتذكر منه سوى ذلك المشهد الصباحي الذي وجدته فيه رافعا عينيه إلى السماء وهو يقول "لماذا الورد وليس الباذنجان؟". كم كان العنف بغيضا وهو يخلي الطريق من موسيقى خيالها ليسلمها إلى الجنون.
الخراب الجميل ودانتيلا الكتابة
إنهم ميتون الآن. ليس لي في بغداد سوى الموتى. هل أطلب من فيصل جاسم أن يرافقني إلى زيارة قبورهم؟ تلك فكرة لا تستقيم مع اشتياقي لرؤية فيصل الذي صار يكتب قصائد عن أصدقائه كأنهم ما زالوا يمشون معه في شارع النهر. منتصف ثمانينات القرن العشرين نشر أحمد خلف روايته "الخراب الجميل". عرف خلف يومها أن أي توضيح منه لمغزى عنوان روايته سيدمر خيالها. سيكون الخراب جميلا إذن. سيبقى كذلك إلى صيحة الديك الأخيرة على أسوار بغداد التي سيهدمها الغزاة.