ما الذي تبقى من بغداد لتكون لي؟

في رحيل الروائي العراقي أحمد خلف

Eduardo Ramon Trejo_AlMajalla
Eduardo Ramon Trejo_AlMajalla

ما الذي تبقى من بغداد لتكون لي؟

"الرقم الذي تتصل به لم يعد متاحا".

لم أعد في حاجة إلى رؤية لافتة سوداء وقراءة الاسم الذي يتوسطها. هم ميتون وأنتم ميتون ونحن ميتون. تذهب الموسيقى الجنائزية إلى عظامي. هناك عصافير كثيرة فرت من أشجار اليوكالبتوس التي تقف مثل جنود تُركوا في هيئة الاستعداد على الرصيف الأيمن من شارع أبو نؤاس.

هناك مشيت مع الموتى. غنينا وصرخنا وتأوهنا وبكينا في استرسال مع طواويس خفية كنا نظنها تمشي وراءنا لتحصي خطواتنا التي لم تعد تترك أثرا بعد أن انتقلنا من الحالة الصلبة إلى الحالة الغازية. أما وقد أحاطنا الصمت بذراعيه فكان علينا أن نجرد الخوف من ثيابه. استسلم العالم لعريه وصار الهواء يضرب أبواب الحانات برشقات متلاحقة من عوائه الذي التصق بأسناننا.

تلك بلاد من تمر. رأينا نمورها هي تقفز من خرائطها المهملة على طاولة التشريح وطاردتنا عيون غزلانها بأسئلة المزاج البغدادي الذي تدمع عيناه حين تخطئ السكين طريقها إلى قلب بصلة. كنا معا سلالة قادمة من اليوم الذي فقد اوتونابشتم السيطرة على ركاب سفينته التي بناها من الكافور والمسك والزعفران والعنبر.

"لا تزال رائحة العنبر تنبعث من خطوط العمر في يدي"، يضحك رعد عبد القادر: "لقد عشت طويلا بعدي يا صديقي"، لن أخبره أن صديقنا الشاعر صاحب الشاهر كان سبقه إلى الموت بثلاثين سنة. أما كمال سبتي فلا أتذكر منه سوى ذلك المشهد الصباحي الذي وجدته فيه رافعا عينيه إلى السماء وهو يقول "لماذا الورد وليس الباذنجان؟". كم كان العنف بغيضا وهو يخلي الطريق من موسيقى خيالها ليسلمها إلى الجنون.

الخراب الجميل ودانتيلا الكتابة

إنهم ميتون الآن. ليس لي في بغداد سوى الموتى. هل أطلب من فيصل جاسم أن يرافقني إلى زيارة قبورهم؟ تلك فكرة لا تستقيم مع اشتياقي لرؤية فيصل الذي صار يكتب قصائد عن أصدقائه كأنهم ما زالوا يمشون معه في شارع النهر. منتصف ثمانينات القرن العشرين نشر أحمد خلف روايته "الخراب الجميل". عرف خلف يومها أن أي توضيح منه لمغزى عنوان روايته سيدمر خيالها. سيكون الخراب جميلا إذن. سيبقى كذلك إلى صيحة الديك الأخيرة على أسوار بغداد التي سيهدمها الغزاة.

كانت دانتيلا الكتابة هي شغفه في حياة قاوم نقاط ضعفها. بسبب العزلة العراقية حُرمت الثقافة العربية من اكتشاف فتوحات أحمد خلف

سيعيش أحمد خلف بعدها أربعين سنة وهو يكتب روايات عبارة عن منمنمات مستلهمة من جمال ذلك الخراب. كانت دانتيلا الكتابة هي شغفه في حياة قاوم نقاط ضعفها. بسبب العزلة العراقية حُرمت الثقافة العربية من اكتشاف فتوحات أحمد خلف ويصح ذلك على جليل القيسي وجمعة اللامي وعبد الملك نوري وموسى كريدي وأدمون صبري وسامي مهدي وحسب الشيخ جعفر ويوسف الصايغ. أما مَن نجوا من تلك اللعنة فقد أنقذتهم المنافي كما كان حال سعدي يوسف وسركون بولص وعلي جعفر العلاق وفاضل العزاوي.

غلاف رواية "الخراب الجميل"

يموت العراقي وترافقه أوراقه إلى قبره باعتبارها مصوغاته الشخصية. يموت أدبه معه. فالنسيان في العراق هو واحد من تجليات القسوة. ولا مكان لـ"تذكروا محاسن موتاكم". الميت يريح ولكن محاسنه تنسى. ما من خطأ في تلك المعادلة التي تمت صياغتها منذ زمن طويل كأنها كانت اللوح المقابل لمسلة حمورابي. ذلك لا يعني أن العراقيين لا يمجدون ما يفعلونه. نعم يفعلون ذلك لكن بدوافع ليست الرفعة واحدة منها.

العودة إلى مدينة ميتة

أصدقائي على الأقل ميتون. ما الذي سأفعله إن ذهبت إلى بغداد؟ تلك فكرة خاوية من أي معنى. لن أعرف أحدا وقد لا يعرفني أحد. قدر استثنائي في بؤسه. أسوأ ما يمكن أن أفعله أن أذهب إلى بغداد سائحا. المدينة التي ولدت في أحد الأحياء الملاصقة لمركزها في ساحة الطيران، هناك حيث لا تزال جدارية فائق حسن، ليست مجرد أزقة وأسواق ودكاكين ومطاعم ومكتبات وكنائس ومساجد ومقاه وحانات ومدارس وحدائق وساحات. وهي أيضا ليست شارع المتنبي ولا سوق السراي ولا نصب الحرية ولا ساحة التحرير. عشت هناك جزءا من حياتي. الجزء الأكبر من تلك الحياة صنعها الشعر والرسم. حياة معجونة بالشعر والرسم.

Shutterstock
صورة جوية لمدينة بغداد، العراق

مات الشعراء والرسامون. كان سالم الدباغ آخر مَن بقي في بغداد من الرسامين الذين أعرفهم، غير أنه ذهب إلى أميركا ليموت هناك. لا يسألني علاء بشير ابن محلة الفضل البغدادية وهو رسام رائع ويقيم مثلي في لندن "متى تذهب إلى بغداد؟" لأنه مثلي لا يملك سببا واحدا للذهاب إلى مدينة سيصدمه غيابها. سُمح لي ذات يوم بزيارة صديق كان في حالة الموت السريري فتمنيت بعدها لو أنني لم أقم بتلك الزيارة. بغداد في حالة موت سريري مؤكد. أحب بغداد. مئة في المئة. ما من أحد عاش فيها إلا وأحبها. ولكن حبها شيء والعودة إليها وهي ميتة شيء آخر.

AHMAD AL-RUBAYE / AFP
بائع يبيع البالونات في حديقة أبو نواس المجددة على نهر دجلة في بغداد

فضاء الحرية الوهمي

ماتوا كلهم. في بلاد الرافدين يموت الناس كأنهم لم يعيشوا. هناك فكرة مضللة عن العيش كما أن الموت لا يُنظر إليه إلا بطريقة انتقائية. حين مات يوسف الصايغ وهو شاعر استثنائي في دمشق رفض اتحاد الأدباء أن يضع لافتة سوداء على واجهته، أما حين مات سعدي يوسف فإن الاتحاد نفسه ألغى ندوة كانت مخططة لاستعادته. لا أفهم لمَ يتواطأ العراقيون مع قسوتهم على الرغم من أنهم يدركون جيدا أنهم جميعا يعانون من عقدة الضحية.

إذا ما كانت تلك الدولة البوليسية ذهبت إلى حتفها، فإن ذلك لا يعني أن عصر القسوة العراقية انتهى

في سبعينات القرن الماضي، كنا صغارا في السن وكان البلد يعيش حالة من الترف المقنن الذي أنهى الفقر والبطالة والعوز، غير أننا في نهايات الليل كنا نبكي من أجل حرية نبتت أعشابها في أشعارنا ونعرف أن الدولة البوليسية هيأت عربات دخانها من أجل أن تمحو فضاء تلك الحرية الوهمي.

وإذا ما كانت تلك الدولة البوليسية ذهبت إلى حتفها، فإن ذلك لا يعني أن عصر القسوة العراقية انتهى. لا تزال بغداد مقيمة في ظلامها. ذلك ظلام يمنعني شخصيا من الرؤية. لطالما قلت لنفسي "بغداد لي" أعود لأضحك بعدها "ما الذي تبقى من بغداد لتكون لي؟".

font change