المافيا الجنوب أفريقيةhttps://www.majalla.com/node/324088/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%A3%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9
ليس من المبالغة في شيء القول إن إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، بات مؤخرا يثير الكثير من الجدل حول تصرفاته. فاستفزازاته المستمرة أثارت غضب الكثيرين، من بينهم المستشار الألماني أولاف شولتز، المعروف برزانته وحذره في تصريحاته والذي خرج عن اتزانه المعتاد ونصح علنا بعدم "تغذية المتصيد في الماء العكر"- وهو تعبير شائع في ثقافة الإنترنت يحذر من التفاعل مع المستفزين الذين يسعون لجذب الانتباه فقط.
وبالحكمة نفسها، اختار السير كير ستارمر رئيس الوزراء البريطاني وهو هدف آخر لاستفزازات ماسك، أن يلتزم الصمت تماما، حارما "المتصيد" من أي فرصة لتغذية استفزازاته.
ولكن استفزازات ماسك، كما يبدو، لا تعرف حدودا. وقد وصفه الصحافي دانييل بوفاي من صحيفة "الغارديان" بأنه "أغنى ممل في الحانات في العالم"، على الرغم من أن ماسك، بطبيعته، ليس من النوع الذي يرتاد الحانات؛ فهي مكان مزدحم بأصوات متنافسة وتحرمه من جذب الانتباه.
كيف يمكن إسكات رجل مستفز بلا هوادة يبدو وكأنه لا ينام أبدا؟ ربما يكون الملل البحت هو السبيل الوحيد لإنقاذ العالم من هوسه المرضي بتصريحات ماسك المليئة بالشتائم، التي يلقيها في المجال العام بشكل شبه يومي. إنه التجسيد الأمثل للممل. ولعل المفارقة تكمن في تأسيسه لشركة "The Boring Company" (الشركة المملة)، وهو اسم يعكس، عن غير قصد، الإرهاق الذي تثيره تصرفاته.
ولعل أقصى درجات ذكاء ماسك الحقيقي تجلى في استحواذه على منصة التواصل الاجتماعي "تويتر". من خلال هذا الاستحواذ وإعادة تصميم خوارزميات المنصة لزيادة ظهور تغريداته، أصبح ماسك الصوت الأعلى على وجه البسيطة. في الأساطير الإغريقية، كان "ستينتور"، منادي طروادة، يمتلك صوتا أقوى من خمسين رجلا. أما ماسك، مع 211 مليون متابع على منصة "X"، فقد تجاوز تلك الأسطورة، مستفيدا من قوة التكنولوجيا الحديثة والدعاية.
من النادر أن تجد العنصريين البيض في موضع الضحية للعنصرية، وهي مفارقة تثير الحيرة
يعرف ماسك كيف يلتقط الانتباه في عالم بات فيه الانتباه يعادل الثروة. لقد حول شغفه بإثارة الجدل إلى وسيلة لجني المال. حتى تعليقاته المتكررة على السياسة البريطانية، كما أشار الكاتب ويل دان في مجلة "نيو ستيتسمان"، ليست عشوائية؛ بل استراتيجية مدروسة لاستغلال الانتشار العالمي لـ"بي بي سي".
"على مدار العام الماضي، نشر موقع (BBC News) الإلكتروني 179 مقالا عن ماسك، مقابل 33 مقالا عن شي جينبينغ، زعيم ثاني أكبر دولة من حيث عدد السكان في العالم، و14 مقالا عن مارك زوكربيرغ. أما بنغلاديش، التي تضم 175 مليون نسمة، فلم تحظ سوى بنصف حجم التغطية التي حصل عليها ماسك."
وليس من المستغرب أن يصبح الالتزام بالآداب سلوكا نادرا على منصة "X"، التي باتت أقرب في طابعها إلى فوضى شغب في سجن ما منها إلى ساحة للحوار الراقي. في عصرنا الحالي، الصوت الأعلى هو الذي يسود، وكأننا أمام نسخة مختلفة من الداروينية حيث البقاء للأكثر ضجيجا.
وسط هذا الصخب المستمر والمبالغات المتزايدة، تغدو جرعة من التواضع كنسمة هواء منعشة. لذلك، يمكن القول ببساطة إن إيلون ماسك لا يعدَم المنتقدين. أحدث المنضمين إلى هذه القائمة الطويلة هو– ويا للغرابة– ستيف بانون، الذي برز في الأيام الأولى لحملة "اجعل أميركا عظيمة من جديد" وسيطر على المشهد السياسي خلال الولاية الأولى لدونالد ترمب. بانون، المعروف بشغفه بالمبالغة، يبدو أنه يسعى للتفوق على ماسك في هذا المضمار. وقد نقل عنه قوله بلهجة غاضبة: "لقد جعلت الإطاحة بهذا الرجل هدفا شخصيا. في السابق، كنت مستعدا لتقبله بسبب استثماراته– لكنني لم أعد قادرا على ذلك بعد الآن."
وقد تولى بانون إقناع من لا يزالون يشككون في وجود صلة بين أصول ماسك الجنوب أفريقية وميله المزعوم للتفوق الأبيض، متبنيا مهمة الربط بينهما. ففي مقابلة مع صحيفة "كوريري ديلا سيرا" الإيطالية، وصف بانون، أحد أعمدة اليمين البديل، ماسك بأنه "عنصري" و"شخص شرير للغاية."
وكنت أشرت، في مقال سابق بعنوان "ماسك الأبيض"، بحذر إلى احتمال ارتباط التوجهات المحافظة لماسك بجذوره في جنوب أفريقيا، لكنني لم أصل إلى استنتاجات قاطعة لافتقار الأدلة. الصحافي جون إليغون تناول هذه الفرضية أيضا، حيث زار جنوب أفريقيا وأجرى مقابلات مع من عرفوا ماسك في شبابه، ليكتشف رواية مختلفة تماما. والد ماسك كان عضوا في الحزب التقدمي المناهض للفصل العنصري، ويبدو أن الابن تبنى تلك القيم. وحدث مرة أن تعرض زميل له أسود لإهانة عنصرية، فوقف ماسك في وجه المتنمر، ما جعله عرضة للسخرية بدوره. وعندما توفي هذا الزميل لاحقا في حادث سير، كان ماسك من بين قلة قليلة من البيض الذين حضروا جنازته في قريته الريفية. ("نيويورك تايمز"- 5 مايو/أيار 2022).
ولم يكن إليغون وحده الذي انتهت تحقيقاته إلى طريق مسدود. ففي "فايننشيال تايمز"، أشار سايمون كوبر إلى أن التيار الترمبي وفر بيئة خصبة للجنوب أفريقيين المهجرين من ذوي الميول اليمينية. وأوضح أن "إيلون ماسك عاش في جنوب أفريقيا خلال فترة الفصل العنصري حتى بلغ السابعة عشرة. أما ديفيد ساكس، المستثمر المغامر وأحد كبار ممولي حملة ترمب، فغادر جنوب أفريقيا في سن الخامسة ونشأ في ولاية تينيسي. ثم هناك بيتر ثيل، الذي قضى جزءا من طفولته بين جنوب أفريقيا وناميبيا."
وأشار كوبر أيضا إلى أن مبتكر نظرية المؤامرة "كيو أنون" (QAnon)كان مطور برمجيات أصله من جنوب أفريقيا يقيم بالقرب من جوهانسبرغ. وخلص كوبر إلى أن أربعة من أبرز الأصوات في حركة "اجعل أميركا عظيمة مجددا" هم رجال بيض في الخمسينات من العمر، ولديهم تجارب تكوينية في جنوب أفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري. وربما لا يكون هذا محض صدفة."
ولكن لسوء الحظ، كان كوبر حذرا باستخدامه كلمة "ربما" ما يعكس هشاشة هذه النظرية. فبناء استنتاجات على مكان إقامة ديفيد ساكس عندما كان طفلا صغيرا، أو على أصول عائلة بيتر ثيل– خاصة وأن ثيل ولد في ألمانيا– يبدو أمرا غير مقنع.
على أن ستيف بانون، على نقيض إليغون، يبدو وكأن لديه معلومات لا يدركها الآخرون، وإلا فما سرّ استمراره في انتقاد إيلون ماسك بتصريحات تحمل طابعا أشمل وأكثر عمومية؟
"ينبغي أن يعود [ماسك] إلى جنوب أفريقيا. لماذا نسمح للجنوب أفريقيين– الذين يُعتبرون من أكثر الشعوب عنصرية على وجه الأرض، ولا سيما البيض منهم– بالتدخل أو إبداء آرائهم حول ما يجري في الولايات المتحدة؟".
من النادر أن تجد العنصريين البيض في موضع الضحية للعنصرية، وهي مفارقة تثير الحيرة. ومع ذلك، وبصرف النظر عن التنميط القومي الواضح، فإن هذا الخطاب لا يتسق كثيرا مع صورة ستيف بانون التي عرفناها في السابق- ستيف بانون الذي اتهمته الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين بأنه "عنصري أبيض" عقب تصريحاته التي دعت إلى توزيع اللوم على "كلا الجانبين" خلال أحداث العنف التي وقعت في مسيرة "وحدوا اليمين" في شارلوتسفيل.
ما مدى صحة الادعاء بأن الجنوب أفريقيين يسعون للهيمنة على السياسة الأميركية، سواء في الداخل أو الخارج؟ لفهم ذلك، لا بد من العودة إلى جذور شركة "باي بال" (PayPal)
ولم يمرّ وقت طويل حتى نعته دونالد ترمب بلقب "ستيف القذر"، عندما نما إلى علمه أن البعض ينسب إلى بانون الفضل في نجاح رئاسته الأولى وأنه كان العقل المدبر لحملة ترمب. ثم جاء وصف بانون لإيفانكا ترمب بأنها "غبية كالحجر" عاملا إضافيا أدى إلى تدهور مكانته لدى ترمب. وفي نهاية المطاف، انتهت تلك المرحلة بالبكاء– دموع ستيف بانون نفسه- كما يُشاع. ولكن كل ذلك كان قبل ثماني سنوات.
ربما تثبت الاتهامات الموجهة إلى رموز التكنولوجيا المقولة الشهيرة: "إن الطيور على أشكالها تقع". وربما تكون فترة سجن بانون الأخيرة بتهمة ازدراء الكونغرس قد منحته فرصة لمراجعة أفكاره بشكل جذري. ولا أريد أن أبدو متشائما، لكن تلك التصريحات المناهضة للعنصرية قد تكون محاولة لاستعادة نفوذه السياسي مع الرئيس المنتخب. بعد كل شيء، ثماني سنوات تُعد زمنا طويلا في عزلة المشهد السياسي.
ولكن، ما مدى صحة الادعاء بأن الجنوب أفريقيين يسعون للهيمنة على السياسة الأميركية، سواء في الداخل أو الخارج؟ لفهم ذلك، لا بد من العودة إلى جذور شركة "باي بال" (PayPal) وإلى المجموعة اللافتة من الجنوب أفريقيين بين مؤسسيها. هؤلاء المبتكرون، الذين ترعرعوا في وادي السيليكون، تحولوا إلى مليونيرات بعد أن باعوا الشركة الى شركة "إي باي"(eBay) في عام 2002 مقابل مبلغ ضخم بلغ 1.5 مليار دولار– وذلك بعد أربع سنوات فقط من تأسيس الشركة.
في ذلك الوقت، بدا أنهم يتمتعون بروح الدعابة والسخرية الذاتية المتبقية، حيث تمكنت مجلة "فورتشن"، كما يروي أليكسي أورسكوفيتش، من التقاط صورة لهم وهم جالسون في حانة "توسكا" الشهيرة في سان فرانسيسكو. ولا بأس من التذكير بأن مسلسل "سوبرانو" كان يحظى بشعبية جارفة في ذلك الوقت.
تقول المقالة: ظهر موظفو "باي بال" السابقون في ملابس رياضية وسلاسل ذهبية– في تحول مستوحى من هوليوود لمجموعة وصفها ماكس ليفتشين، الشريك المؤسس لـ"باي بال"، بأنهم "مدمنو عمل محبون للرياضيات ولم يكن لديهم الكثير من العلاقات العاطفية". ومع ذلك، خلف هذه الحيلة الدعائية كان هناك نفوذ حقيقي. في مقدمة الصورة يظهر بيتر ثيل، أحد مؤسسي "باي بال"، الذي انطلقت مسيرته كرائد أعمال استثماري بفضل استثمار مبكر في "فيسبوك" الخاص بمارك زوكربيرغ [...] بينما يظهر رويلوف بوتا، الذي يشغل الآن منصب شريك في سيكويا كابيتال، مرتديا نظارة شمسية وقميصا مفتوح الأزرار. (مجلة "فورتشن"- 21 يوليو 2024).
ولربما بدا اسم رويلوف مألوفا إلى حد ما: جده، رويلوف فريدريك "بيك" بوتا، كان سياسيا بارزا في جنوب أفريقيا، وشغل منصبا آخر هو وزير خارجية في حكومة الفصل العنصري، ثم أصبح لاحقا أول وزير للمعادن والطاقة في عهد نيلسون مانديلا.
وكان ديفيد ساكس حاضرا أيضا في تلك الجلسة في الحانة، وقد اختاره الرئيس ترمب لاحقا ليشغل منصب قيصر الذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية، مما يعكس الأهمية المتزايدة للعملات المشفرة مثل البيتكوين، التي كانت قيمتها 700 دولار يوم الانتخابات في عام 2016، وارتفعت الآن لتتجاوز 100 ألف دولار.
أما الغائب الأبرز في ذلك اليوم المصيري فكان إيلون ماسك، الذي أُقصي مؤخرا من"باي بال" بسبب رغبته في تغيير اسم الشركة. ووقع هذا الانقلاب أثناء وجود ماسك في شهر العسل في أستراليا. كانت تلك خطوة قاسية، وربما تشير إلى وجود أوجه تشابه أكثر مما نود الاعتراف به بين المجموعة والمافيا الحقيقية.
وقد لايطول الوقت قبل أن نكتشف المزيد. ففي هذا العام، قام جاك سيلبي، أحد موظفي "باي بال" الأصليين والذي يدير الآن مكتب بيتر ثيل العائلي، وديفيد ساكس، الذي يدير شركة رأس المال الاستثماري "كرافت فنتشور" (Craft Ventures)، بشراء حقوق إنتاج فيلم مقتبس عن أحد الكتب التي توثق تاريخ "باي بال"، وهما حاليا في المراحل الأولى من التخطيط لإنتاج فيلم عن "مافيا" التكنولوجيا هذه. ويمتلك كلا الرجلين خبرة في مجال الإنتاج السينمائي.
بغض النظر عن ادعاءات هيمنة ماسك على كاتب سيرته الذاتية، ذكرا كان أم أنثى، فإن اختيار كاتب من موطنه الأصلي لتوثيق حياته المبكرة له دلالات واضحة
مع وجود هذه الشخصيات وراء المشروع، من غير المرجح أن يقدم الفيلم نقدا لاذعا، وهذا منطقي، فقد تعرض أعضاء مافيا "باي بال" لسيل من الانتقادات التي يبدو أنها ستتفاقم مع انكشاف نفوذهم السياسي المتزايد. ومع ذلك، يبقى إيلون ماسك، بوصفه الشخصية الأبرز في هذه المجموعة، هدفا رئيسا لأشد الانتقادات، معظمها موجه إلى أسلوب حياته، مع تلميحات متكررة بأن نجاحه قد يكون مرتبطا بالمكان والزمان اللذين وُجد فيهما.
يوجد مثلا بودكاست بعنوان "خلف الأوغاد" يجد متعة خاصة باستهداف إيلون ماسك. فكرته بسيطة: يقدم روبرت إيفانز، الذي يصف نفسه بأنه "باحث في التطرف"، نتائج تحقيقاته حول مختلف "الأوغاد"، بمن في ذلك شخصيات بارزة في عالم التكنولوجيا وحلفاؤهم. ومن بين هؤلاء كورتيس يارفين، الذي أوصلته شهرته المتزايدة مؤخرا إلى صفحات صحيفة "الغارديان" الليبرالية المرموقة، على الرغم من أنه كان قد أعرب عن إعجابه بإيان سميث، رئيس الوزراء الراحل لروديسيا العنصرية، الذي كان مثيرا للجدل وأبعد ما يكون عن الكاريزما. بالنسبة ليارفين، وهو منظّر لفكرة "التنوير المظلم"، كان سميث بطلا مأساويا خسر معركته ضد الديمقراطية.
قد يكون الأمر غير مقصود، لكن مستوى الخطاب في "خلف الأوغاد"يشبه كثيرا الأسلوب الذي يتبناه ملياردير تقني معين. ولحسن الحظ، لست بحاجة إلى أن تكون ثريا لتكون مبتذلا. الأسلوب البذيء، الساخر، والمبالغ فيه هو ذاته الذي يمكن ملاحظته في خطابات إيلون ماسك وكم هائل من الأشخاص الذين ينشطون على منصات التواصل الاجتماعي. هذا الصوت العديم الفكاهة، الذي كان يوما مقتصرا على المهووسين، أصبح الآن الصوت الطاغي لهذا العصر.
ومن اللافت أن يصرح إيفانز بعدم اهتمامه بمافيا "باي بال". ألا يثير ذلك العجب، ولا سيما أن هذه المافيا هي التي كانت الأساس الذي بُني عليه العالم الذي يزعم احتقاره. ومع ذلك، فليس هذا سوى مثال آخر على افتقار إيفانز إلى إدراك أهمية بعض الحقائق. فعلى الرغم من اعتماده الكامل على عملهم، فهو يتجاهل كاتب سيرة ماسك، آشلي فانس. في أحد المقاطع، يروي إيفانز لقاء بين فانس وماسك، حيث وقف الأخير بشكل درامي وسأل: "هل تعتقد أنني مجنون؟".
في تلك اللحظة، يُقال إن النساء المشاركات في البودكاست ارتعشن من الرعب بسبب غرابة السؤال، معتبرات ذلك إساءة استخدام واضحة للسلطة الذكورية. عندها يلقي إيفانز محاضرة حول كيف يجب على الشخصيات المعروفة (مثله، على ما يبدو) أن تمتنع عن استغلال مكانتها لترهيب النساء.
على الرغم من اعتماده الكبير على سيرة آشلي فانس الذاتية في انتقاداته، فإن إيفانز يتناقض مع نفسه بتقليله من شأن الكاتب واعتباره غير مميز. هذا التناقض يبرز بشكل خاص، حيث إن عمل فانس يُعد مصدرا أساسيا لمعظم تعليقات إيفانز على ماسك. وبدلا من معالجة السياق الأوسع والرؤى التفصيلية التي يقدمها الكتاب، يركز إيفانز بشكل مفرط على لحظة درامية واحدة، حيث يروي مطولا حادثة سؤال ماسك: "هل تعتقد أنني مجنون؟".
وأغفل إيفانز حقيقة مثيرة أخرى: آشلي فانس نفسه ينحدر في الأصل من جنوب أفريقيا. وبغض النظر عن ادعاءات هيمنة ماسك على كاتب سيرته الذاتية، ذكرا كان أم أنثى، فإن اختيار كاتب من موطنه الأصلي لتوثيق حياته المبكرة له دلالات واضحة. فكاتب من جنوب أفريقيا سيكون لديه فهم أعمق للفروق الدقيقة في حياة ماسك في بلده الأم. وبفضل هذا الكاتب المتحمس، يروي إيفانز معاناة ماسك كشاب– من التنمر في المدرسة، إلى الاستهداف من قبل والده، إلى مواجهة التحديات التي يمر بها الأطفال الموهوبون حول العالم.
في جوهر الأمر، يعجز إيفانز للأسف عن تقديم نقد مترابط، وهو أمر مؤسف، بسبب مقدرة ماسك الهائلة على إثارة الجدل. وبالفعل يمكن وصفه مجازا بأنه "كائن فضائي،"فهولا يبارى في مقدرته العبقرية على خلق المشاحنات وإظهار العدائية وإبعاد الآخرين. وهو في ذلك أشدّ شبها بالزعيم الجديد لحزب المحافظين البريطاني، الذي يمكنه بسهولة إشعال خلاف حتى في غرفة فارغة، وهذا عيب أساسي في شخصيته، ولا سيما عندما يخوض معارك على وسائل التواصل الاجتماعي.
يرى ثيل في قبول الموت كحتمية كونية افتراضا شريرا. فهو يرى أن السعي لإطالة حياة الإنسان إلى أجل غير مسمى كان على الدوام هدفا مقدسا انتقل من المسيحية إلى العلم
والنتيجة كما رأينا: قائمة متزايدة من الأعداء، وغالبا ما تشمل هؤلاء الذين كانوا أصدقاءه قبل قليل. خذ على سبيل المثال نايجل فاراج، الذي عرض عليه ماسك مبالغ مالية ضخمة، قبل أن يقرر فجأة أن "فاراج ليس الرجل المناسب" لإدارة حزبه السياسي "إصلاح المملكة المتحدة". والحق أن ماسك لا يتحمل وجود منافسة حتى من زملائه "مملّي الحانة" الآخرين. وعلى الأرجح، خسر فاراج دعم ماسك بسبب فشله في الدفاع عن تومي روبنسون، بطل اليمين المتطرف المسجون في بريطانيا.
تومي روبنسون شخص"غير مستساغ،"إذا أردنا أن نكون مهذبين في وصفه، بل يكاد هذا الوصف أن يكون إطراء له. ولئن كان أمرا معتادا أن يدعم ملياردير بعيد جغرافياً قضية شخصية مثيرة للجدل في بلد آخر، فإن فاراج، كعضو في البرلمان عن منطقة كلاكتون، يلعب لعبة مختلفة. أسلوبه المفضل هو أن يوجه خطابه لجمهوره وتجنب الجدل المباشر. أما ماسك، فهو يفضل أسلوب الزعيق الصاخب والمباشر الذي لا يمكن تجاهله.
ويناقض أسلوب ماسك الصارخ أسلوب صديقه السابق في"باي بال"، بيتر ثيل، المعروف بـ"الدون"، فالأخير ليس من محبي الصراخ. وبدلا من لقاء رؤساء مستقبليين أو قادة أحزاب يمينية في ألمانيا، يفضل ثيل لقاء المفكرين. في حوار أجراه مؤخرا مع جون غراي، ظهر ثيل كشخص مفكر، رغم أن اهتماماته تبدو محدودة إلى حد ما. أما ماكس تشافكين، مؤلف كتاب "المتناقض"، فوصفه بأنه "يحتفظ بالكثافة الفكرية لطالب جامعي مهووس،" وهي صفة جعلته موضوع فضول وإعجاب وسخرية على حد سواء".
في تسعينات القرن العشرين، شارك بيتر ثيل وديفيد ساكس في تأليف كتاب "أسطورة التنوع"، وهو نقد يستهدف الصواب السياسي في جامعة ستانفورد. وزعما أن الجامعة تمارس التمييز ضد المحافظين- وهي فكرة تبناها فيما بعد جي دي فانس الذي استلهم من ثيل. في عام 2022، قال فانس لمجلة "فانيتي فير": نحن بحاجة إلى ما يشبه برنامج اجتثاث البعث- برنامج اجتثاث الاستيقاظ"، مؤكدا كذلك: "لا توجد طريقة للمحافظين لتحقيق رؤيتنا للمجتمع ما لم نضرب قلب الوحش. وهذا الوحش هو الجامعات".
ولعل هذا أن يفسر سبب انجذاب ثيل نحو كورتيس يارفين، ولكن ثمة أيضا اهتمامات أخرى أكثر غرابة. فزعيم المافيا مهووس بفكرة التغلب على الموت. في حواره مع جون غراي، ينتقد ثيل مقطعا من شكسبير حيث تلوم والدة هاملت ابنها على استغراقه في الحداد على والده المتوفى، قائلة: "أنت تعلم أن هذا أمر مألوف؛ فكل من يعيش يجب أن يموت". لكن ثيل يرفض هذا التسليم القدري، قائلا:"السؤال الذي ينبغي أن يطرحه المرء هو: هل هذا بالفعل قانون طبيعي؟ أم إنه مجرد تبرير للفساد الذي يسود الدنمارك؟ وفي الواقع، كان المفهوم السائد في بدايات العصر الحديث هو تجاوز هذا المصير، سواء من خلال الإيمان المسيحي أو من خلال التقدم العلمي".
يرى ثيل في قبول الموت كحتمية كونية افتراضا شريرا. فهو يرى أن السعي لإطالة حياة الإنسان إلى أجل غير مسمى كان على الدوام هدفا مقدسا انتقل من المسيحية إلى العلم. ويمكن تشبيه ذلك بالطموحات الخيميائية في البحث عن "حجر الفلاسفة". ويرى ثيل أن تخلي العلماء عن هذا السعي كان خطأ لا يغتفر. ومن المثير أن يأتي هذا الطرح من رجل صنع ثروته في وادي السيليكون؛ وأغرب من ذلك أن ينتقد ثيل التكنولوجيا الحديثة باعتبارها مجرد تشتيت عن الأهداف الكبرى، ويدين "التقدم التكنولوجي الضيق والمحدود الذي شهدناه في العقود الخمسة الماضية"، والذي جعل البشرية، حسب وصفه، "غافلة" عن المعنى الأعمق للحياة والتاريخ.
أما بالنسبة لإيلون ماسك، فإن تطلعاته تأخذ منحى مختلفا تماما. يشير كوين سلوبوديان، مؤلف كتاب "راديكاليّو السوق وحلم عالم بلا ديمقراطية"، إلى أن ماسك يرى نفسه بمثابة هاري سيلدون في العصر الحديث، وهي شخصية محورية في سلسلة (Foundation) لإسحاق أسيموف. في الرواية، يستخدم سيلدون الرياضيات للتنبؤ بمستقبل البشرية والتدخل لإنقاذ الحضارة. يرى سلوبوديان أن غرور ماسك يدفعه للبحث عن هذا النوع من التحقق المطلق، متجاوزا الإنجازات البشرية التقليدية. بالنسبة له، فإن السيطرة على دولة ليست إلا خطوة أولى نحو تأسيس كيان سياسي جديد، سواء على الأرض من خلال مشروعه "ستاربايس" في تكساس، أو في المستقبل على سطح المريخ.
ربما ينبغي أن ننظر إلى فكرة أن استيلاء ماسك على الدولة ليس غاية في حد ذاته، بل تمهيد لإنشاء نظام سياسي جديد– سواء على الأرض (كما جرّبه من خلال مشروع "ستاربايس" في تكساس) أو على سطح المريخ
هذا المنظور يجعل الجدل حول جذور ماسك الجنوب أفريقية يبدو عديم الأهمية. محاولة ربط توجه شركات التكنولوجيا الكبرى نحو اليمين بالحنين إلى الفصل العنصري تفتقر إلى أساس منطقي. هذا التحول يُعزى بصورة أوضح إلى مخاوف هذه الشركات من التنظيمات الحكومية تحت إدارة بايدن، وإلى خطط فرض ضرائب على الثروة. حتى أولئك الذين عاشوا في ظل نظام الفصل العنصري، مثل ماسك، فإن ذكرياتهم على الأرجح تتعلق أكثر بالتعامل مع البيروقراطية، التي يرمز إليها شارع ريسيك في جوهانسبرغ، مقر دائرة الإيرادات بجنوب أفريقيا، بدلا من أي ارتباط متبقٍ بفكرة تفوق البيض.
في سياق هذا المدّ "اللاهوتي السيبراني"، تبدو تصريحات ستيف بانون الغاضبة وكأنها تافهة وتفتقر إلى العمق. كما أن الانتقادات الموجهة في البودكاست تبدو سطحية ومشحونة بالاستياء. ثيل، على عكس هؤلاء، لا يحتاج إلى المبالغة أو الصراخ. وهو، بطبيعة الحال، لم يولد في جنوب أفريقيا. ولو أراد، لكان بإمكانه ببساطة أن يلوّح بشهادة ميلاده قائلا لبانون: "بهذا أُفحِمك"! فالنفوذ الحقيقي لا يحتاج إلى جعجعة.
أما بالنسبة لماسك، فيرسم لنا كوين سلوبوديان، مؤلف كتاب "تحطيم الرأسمالية: راديكاليو السوق وحلم عالم بلا ديمقراطية" صورة عنه، إذ يقول إن "طموحه يتمثل في أن يكون شبيها بشخصية هاري سيلدون من سلسلة "فاونديشن" لإسحاق أسيموف، والتي يعتبرها ماسك من بين أعظم ما قرأ من روايات على الإطلاق. في قصة أسيموف، يتنبأ عالم الرياضيات سيلدون بمستقبل البشرية ويتدخل كشخصية مستنيرة لإنقاذ الحضارة ذاتها. وربما يكون هذا النوع من التحقق الذاتي الوحيدَ القادر على إرضاء غرور ماسك بعد أن حقق جميع الأهداف الأخرى التي من صنع الإنسان. ربما ينبغي أن ننظر إلى فكرة أن استيلاء ماسك على الدولة ليس غاية في حد ذاته، بل تمهيد لإنشاء نظام سياسي جديد– سواء على الأرض (كما جرّبه من خلال مشروع "ستاربايس" في تكساس) أو على سطح المريخ. (صحيفة الغارديان- 15 يناير 2025).
هذا كله يجعل الجدل حول أصول ماسك الأفريقية مسألة هامشية. فهل يمكن أن يكون الحنين إلى عهد الفصل العنصري دافعا لدعم شركات التكنولوجيا الكبرى لأجندة ترمب؟ الإجابة بالتأكيد لا. والحق أن السبب الحقيقي في تحول ماسك نحو اليمين هو تهديد الديمقراطيين بفرض لوائح تنظيمية صارمة وخطط بايدن لفرض ضريبة على الثروة. وحتى أولئك الذين عاشوا، مثل ماسك، في ظل نظام الفصل العنصري، من الأرجح أن تربطهم ذكريات إدارية عن شارع "ريسيك ستريت" أكثر من أي حنين لحقبة تفوق البيض. ولمن لا يعرف، فإن شارع ريسيك في جوهانسبرغ يضم دائرة الإيرادات في جنوب أفريقيا– وهو بعيد كل البعد عن ساحات المعارك الأيديولوجية لنظام الفصل العنصري.