قد نلاحظ أن ثمة فرقا بين الاثنين، ربما إذا تذكرنا أن المثقف في الغالب يميل إلى حمل مشروع اجتماعي أو سياسي فهو قائد الجماهير ذو الشعبية العارمة والشهرة، بينما يقبع الفيلسوف في صومعته لا يعرفه أحد. ويمكن أن نصف ثقافة المثقف بأنها عامة تمنحه القدرة على الحديث في شريحة أوسع من القضايا المختلفة لأنه يسير بشكل أفقي لا عمودي. بينما يعيش الفيلسوف في دائرة أضيق يحاول أن يقول شيئاً أصيلاً حقاً دون انشغال بالمشاريع، سوى انشغاله بالحقيقة التي لا يكاد يصل إليها حتى يفقدها من جديد.
هذا ما دار في ذهني عند مراجعة مجلد "عصر فولتير" من "قصة الحضارة" وعسى أن نصف الفرق بين المثقف والفيلسوف من خلال هذه الالتفاتة إلى شخصيته.
كان ويل ديورانت، مؤلف "قصة الحضارة"، معجباً بتاريخ فولتير لدرجة تخصيص مجلد كامل من موسوعته المذهلة لهذا، بل إنه استمر في مديحه وتسليط الضوء على آثاره بعد هذا المجلد. في تلك الأزمنة كانت الأشياء مختلطة، العلم والثقافة والفلسفة، ولذلك عُدّ فرانسوا ماري آرويه فولتير من فلاسفة التنوير، لكن الفرق اليوم يبدو أوضح، فالتنوير لم يكن صناعة فلسفية محضة، بل شارك فيها المثقفون والتربويون بشكل كبير.
وعندما ننظر في ما يسمى بفلسفة فولتير فإننا لا نجد مقولة أصيلة واحدة، بل كل ما يتبناه هو التجريبية الإنكليزية، وأفكار جون لوك وإسحق نيوتن، أي إنه من أولئك الفرنسيين الذين ساروا وراء الإنكليز. وكان مفتوناً بشخصية نيوتن لدرجة أنه هو شخصياً المسؤول عن أسطورة التفاحة التي اتضح فيما بعد أنها كذبة. في مقابل هذا نجد فولتير يسخر من الفيلسوف حقاً جان جاك روسو بمقولته الشهيرة "أنا لا أفقه شيئاً مما تقول، ويبدو أنك تريدنا أن نتحول إلى حيوانات، لكني سأدافع عن حقك في التعبير".
روسو هو صاحب "العقد الاجتماعي" في الفلسفة السياسية و"إميل" في فلسفة التربية، ولا يملك فولتير إنجازاً فلسفياً كهذين. وما كان الخلاف بين الرجلين إلا نموذجاً لخلاف الفيلسوف مع المثقف. لا شك أن فولتير كان كاتباً وناقداً ومؤرخاً اشتهر بذكائه وانتقاده للتعصب المسيحي والعبودية، لكنه ليس نداً لروسو. إنه داعية من دعاة حرية التعبير وحرية الدين وفصل الكنيسة عن الدولة ومن هنا أتت أهميته.
في نصوص فولتير انشغال كبير بالتاريخ كحال الحركة الثقافية في زمانه ومن ضمن ذلك رفضه للتحيز السياسي من جانب المؤرخين
لا خلاف على أنه كاتب متعدد المواهب أنتج أعمالاً في كل شكل أدبي تقريباً. وفي كتاباته تقدم كمدافع صريح عن الحريات المدنية ولطالما تعرض لخطر دائم من قوانين الرقابة الصارمة للملكية الفرنسية الكاثوليكية وقد سخّر جدالاته ضد العقائد الدينية المتعصبة والمؤسسات الفرنسية في عصره. وقد اكتسب شهرة مستحقة لأنه مثقف كبير وناشط اجتماعي وسياسي وفوق ذلك كان شاعراً هجّاءً دخل سجن الباستيل بسبب بعض شعره وحياته الاجتماعية المفتوحة التي جعلته ينتقل من مضيف أو مضيفة، إلى آخر. لم يخطئ ديورانت في احتفائه بفولتير فقد كان شخصية ضخمة حقاً، ورسائله الساخرة من اللاهوتيين كانت تسري في المجتمع الباريسي بسرعة النار في الهشيم، وفيها يصف رجال اللاهوت بأنهم جهلة لا يملكون علماً سوى علمهم بسذاجة الناس. مع أن فولتير نفسه كان من تجار الحرب وكان يُقرض الناس المال لقاء فائدة ربوية.
في نصوص فولتير انشغال كبير بالتاريخ كحال الحركة الثقافية في زمانه ومن ضمن ذلك رفضه للتحيز السياسي من جانب المؤرخين، ولم يكن يفوت الفرص لكشف التعصب والاحتيال من جانب الكنيسة على مر العصور، ولطالما نصح العلماء بأن أي شيء يتناقض مع مسار الطبيعة لا ينبغي تصديقه وكان يؤمن بأن العقل وتوسيع نطاق المعرفة من شأنهما أن يؤديا إلى التقدم.
على الصعيد الفكري لم يأت بجديد على الإطلاق، لكن أهميته كمثقف هي أنه رفع راية أفكار الفلاسفة هذه وتبناها وقاتل دونها بكل شجاعة، ولعل هذا يفسر شيئاً من علاقة المثقف بالفيلسوف إذ يبدو أن الأول هو من يضغط على زر التفعيل لأفكار الثاني. ويحدث أحياناً أن الفيلسوف لا ينتظر أحداً ليفعّل أفكاره فيقوم هو بدور المثقف الذي يسعى للانتشار. هذا ما فعله جان بول سارتر عندما حوّل الوجودية إلى قصص ومسرحيات لكي يضمن انتشارها في المجتمع.