الصراع على أفريقيا... بين النفوذ الاقتصادي الصيني والمنافسة الأميركية

القارة بحاجة إلى 402 مليار دولار سنويًا حتى 2030 لمواكبة الدول النامية

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
وزير القوات المسلحة التشادي خلال وصوله إلى مطار أبيشي قبيل مغادرة القوات الفرنسية القاعدة، 10 يناير 2025

الصراع على أفريقيا... بين النفوذ الاقتصادي الصيني والمنافسة الأميركية

تعاني الدول الأفريقية كثيرا مع كل التغيرات الإقليمية أو العالمية، لكنها تظل، بشكل عام، الصيد الثمين الذي تتطلع إليه العديد من دول العالم، وخصوصا الولايات المتحدة والصين. يعود ذلك إلى مكانة القارة وغناها بمواردها الطبيعية ومقوماتها الاقتصادية وثرواتها المتنوعة ومعادنها النفيسة. وعلى الرغم من اختلاف أدوات كل منهما لتحقيق مصالحه، يثير النفوذ الصيني المتصاعد في القارة السمراء وعلاقته الوثيقة بالدول الأفريقية مخاوف أميركية كبيرة.

وتسعى الولايات المتحدة، بكل ما أوتيت من قوة، إلى مواجهة هذا التحدي الصيني، وللاستحواذ على أكبر قدر ممكن من خيرات القارة، ولإزاحة بكين عن عرشها الذي حافظت عليه لأكثر من 15 عاما. في المقابل، لا تقف الصين مكتوفة الأيدي أمام التحركات الأميركية الهادفة إلى الهيمنة.

وفي ظل هذا الصراع، تسعى أفريقيا إلى النجاة بنفسها من خلال تعزيز التعاون الإقليمي والدولي، والتعلم من التجارب الناجحة التي أثبتت فاعليتها في تحسين أوضاع الشعوب. يتمثل ذلك في تعزيز الاستثمارات وتطوير البنية التحتية التي تساهم في الحد من الفقر وتحقيق التنمية الاقتصادية، مما يتيح للقارة أن تحقق مستقبلا أكثر استقرارا واستدامة. بعيدا من هذا الصراع، يعقد الأفارقة آمالا كبيرة على الصين، التي لا تملك تاريخا استعماريا مثل القوى الغربية.

تضع هذه السياسات أفريقيا في مأزق الضغوط الاقتصادية، وخصوصا مع أخطار القروض والاستثمارات الصينية. وتواجه القارة تحديات كبرى، أبرزها التحول من بيع المواد الخام إلى تصدير المنتجات المصنعة

لكن السؤال المطروح حاليا هو، هل ستتخذ الصين خطوات جدية للرد على تهديدات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب بفرض رسوم جمركية تصل إلى 60 في المئة على البضائع الصينية؟

على الرغم من الإشارات المتواترة الى استعداد بكين للرد بفرض رسوم مضادة، من الصعب التنبؤ بما سيحدث بين القطبين المتنافسين في القرن الأفريقي. وربما تكون القارة السمراء الأكثر تأثرا بالأحداث والتغيرات العالمية المتسارعة، سواء كانت جيوسياسية أو اقتصادية، مما يحافظ على موقعها كأفقر قارات العالم.

استغلال ثروات أفريقيا في مقابل التنمية

في ظل هذه الأوضاع، يحتدم الصراع بين توجهين: الأول يسعى إلى استغلال ثروات أفريقيا لصالحه، وخصوصا في ظل أزمات الطاقة والغذاء والمياه. أما الثاني، فيركز على تطوير القارة وتنميتها، سواء على مستوى النمو الاقتصادي في الدول المتقدمة أو التنمية المستدامة في الدول النامية. ومع ازدياد حدة هذا الصراع، باتت الدول الأفريقية أكثر وعيا وقدرة على تحقيق معادلة تضمن مصالح متوازنة بين الجانبين، وخصوصا في ما يتصل بالعلاقات بين الدول الأفريقية.

.أ.ف.ب
الرئيس الصيني شي جينغ بينغ، في الوسط، مع قادة دول أفريقية خلال منتدى التعاون الصيني الأفريقي في قاعة الشعب الكبرى في بكين، 5 سبتمبر 2024

تعد الولايات المتحدة الصين خصمها الأول في القارة السمراء، نظرا إلى قدرة الأخيرة على النفاذ إلى أسواق القارة. على مدى فترة طويلة، عملت الصين بقوة داخل أفريقيا واقتنصت العديد من الفرص المتاحة، مما دفع الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات تجارية عليها. وفي ظل الأطماع الدولية الحالية، تسعى بعض القوى الكبرى إلى التأثير في إدارة الأنهار الدولية لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية، مما يعقد العلاقات بين الدول الأفريقية.

وفي الوقت الراهن، يثار جدال واسع في القارة السمراء حول السياسات التي قد ينتهجها الرئيس الأميركي الجديد خلال ولايته، سواء في مجال مكافحة الإرهاب، أو التجارة، أو المساعدات الإنسانية، أو تغير المناخ، ولا سيما قضايا حقوق الإنسان. قد تضع هذه السياسات أفريقيا في مأزق الضغوط الاقتصادية، وخصوصا مع أخطار القروض والاستثمارات الصينية. وتواجه القارة تحديات كبرى، أبرزها التحول من بيع المواد الخام إلى تصدير المنتجات المصنعة. هذا التحول يتطلب رؤوس أموال كبيرة لتشييد المصانع وتحقيق طفرات صناعية، وهو أمر تعجز العديد من دول القارة عن تحقيقه بمفردها.

تواجه القارة فجوة تمويل سنوية بنحو 402 مليار دولار حتى عام 2030، وفق البنك الأفريقي للتنمية، وهي مبالغ ضرورية لتسريع التحول الهيكلي واللحاق بالدول النامية ذات الأداء العالي في مناطق أخرى من العالم

مع ذلك، يمكن أفريقيا أن تستفيد من التعاون مع شركاء استراتيجيين مثل روسيا والصين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر. يهدف هذا التعاون إلى تأسيس قاعدة صناعية تساهم في التحول إلى تصدير المنتجات ذات القيمة المضافة، بدلا من الاكتفاء بتصدير المواد الخام أو الحاصلات الزراعية في صورتها الأولية.

ويثير هذا التوجه حفيظة الولايات المتحدة، التي ترى تراجع فرصها في القارة، وخصوصاً عقب معارضة ترمب لاتفاقات التجارة الدولية، التي يعتبر أنها تضر بسوق العمل الأميركي وتتسبب في ارتفاع معدلات البطالة. هذه المواقف قد تؤدي إلى عقبات أمام التسهيلات التجارية التي تحظى بها الدول الأفريقية.

فجوة التمويل الأفريقية لتحقيق التنمية

تواجه القارة فجوة تمويل سنوية تُقدَّر بنحو 402 مليار دولار حتى عام 2030، وفق البنك الأفريقي للتنمية، وهي مبالغ ضرورية لتسريع التحول الهيكلي واللحاق بالدول النامية ذات الأداء العالي في مناطق أخرى من العالم. في هذا السياق، طلبت جنوب أفريقيا أخيراً من الولايات المتحدة النظر في تمديد مبكر لقانون النمو والفرص في أفريقيا (أغوا)، الذي ينتهي سريانه عام 2025. أُقر القانون عام 2000 لتعزيز التجارة في المنطقة وتعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري بين الدول الأفريقية والولايات المتحدة، ويتيح أحد أحكامه الرئيسة وصول بضائع الدول المستفيدة إلى السوق الأميركية من دون رسوم جمركية.

.أ.ف.ب
سفينة حاويات ضخمة في ميناء دكار، في 23 يناير 2025

وعلى الرغم من الثروات والموارد المتنوعة التي تتمتع بها القارة، والتي تجعلها مؤهلة لأن تكون ضمن الاقتصادات العالمية الأسرع نمواً، إلا أن سكانها لا يزالون يعانون من الفقر، ما يشكل تناقضاً واضحاً، على الرغم من الأهمية الجيوسياسية للقارة، التي تسعى العديد من القوى الدولية والإقليمية إلى بسط نفوذها على تركيبتها السكانية الشابة. يُذكَر أن تعداد سكان أفريقيا بلغ 1,5 مليار نسمة عام 2024، وفق إحصائية أممية.

ديون الصين على الدول الأفريقية يتجاوز 120 مليار دولار، وتُعتبر الصين أكبر مورد للسلع والبضائع وشريكا تجاريا رئيسا لدول القارة

االدكتور خالد الشافعي، خبير اقتصادي ومتخصص في الشأن الأفريقي

وتراهن بكين على احتمال تراجع ترمب عن تعهداته بفرض رسوم جمركية على الصين، وخصوصا مع التأثير المتوقع للسياسات الحمائية التي قد تدفع بعضا من أقدم حلفاء الولايات المتحدة وشركائها التجاريين إلى الاقتراب من الصين.

مشروع طريق القاهرة-كيب تاون

تتميز القارة السمراء بموقع جغرافي استراتيجي، يعزز أهميتها في المشاريع الكبرى المزمع إقامتها، مثل مشروع طريق القاهرة-كيب تاون، وخطوط السكك الحديد، ومبادرة الحزام والطريق. هذه المبادرات جعلت أفريقيا منفتحة على العالم، إلا أنها لا تزال تعاني من ضعف قدرتها على الدفاع عن نفسها، في وقت لا تزال الأفكار الاستعمارية حاضرة في سياسات القوى الكبرى. في هذا السياق، تحاول الدول الأفريقية تعزيز التعاون في ما بينها، بينما تؤدي مصر دورا مهما في دعم القارة، من خلال مبادرات التجارة الحرة والإعفاءات الضريبية، وغيرها من مشاريع التكامل الإقليمي.

.أ.ف.ب
أعلام الدول الأعضاء في المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا "إيكواس"، في القصر الجمهوري النيجيري المستضيف للقمة، في العاصمة أبوجا، 24 فبراير 2024

من جانبه، اعتبر الخبير الاقتصادي والمتخصص في الشأن الأفريقي، الدكتور خالد الشافعي، أن الصين تتربع على عرش القارة الأفريقية منذ أكثر من 15 عاما. وقال لـ"المجلة"، "إن حجم ديون الصين على الدول الأفريقية يتجاوز 120 مليار دولار، كذلك تُعتبر الصين أكبر مورد للسلع والبضائع وشريكا تجاريا رئيسا لدول القارة. ووفق تعهدات صينية حديثة، فإن بكين مستعدة لتمويل مشاريع بقيمة 50 مليار دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة".

وأشار الشافعي إلى أن النفوذ الصيني يواصل التغلغل داخل القارة، مستفيدا من الثروات الطبيعية والمناجم والمواد الخام المتوفرة بكثرة. اذ "تعمل الصين على إعادة تدوير هذه المواد وتصديرها مرة أخرى الى الدول الأفريقية بأضعاف قيمتها الأصلية".

حجم التجارة بين الصين وأفريقيا 282 مليار دولار عام 2023

وأضاف أن "الصين تمتلك منهجية واضحة ورؤية محددة للتعاون مع دول القارة، مما يجعلها قادرة على الحفاظ على نفوذها وتعزيزه"، فيما لا تزال الولايات المتحدة بعيدة عن القارة.

ويُقدّر حجم التجارة بين الصين وأفريقيا بـ282,1 مليار دولار عام 2023، بزيادة نسبتها 1,5 في المئة على أساس سنوي. كذلك تُعتبر الصين أكبر شريك تجاري للقارة الأفريقية، إذ تجاوز حجم التجارة الثنائية 166,6 مليار دولار في النصف الأول من عام 2024.

.أ.ف.ب
رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، يلقي كلمة في المنتدى الاقتصادي العالمي دافوس، سويسرا، 21 يناير 2025

وتهيمن الشركات الصينية على سلاسل الإمداد الأفريقية لبعض المعادن الحيوية والمعادن الأرضية النادرة، خصوصا في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تزخر بموارد استراتيجية ضرورية لتصنيع بطاريات المركبات الكهربائية، وصناعة الدفاع الأميركية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وغيرها من التقنيات الناشئة، وفقا لدراسة أعدها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية.

استعمار من نوع جديد؟

وفي هذا السياق، أوضح مساعد وزير الخارجية الأسبق السفير صلاح حليمة، نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الأفريقية، في حديث إلى "المجلة"، "أن الصين تركز في شكل خاص على قطاعات البنية التحتية والإنتاجية، ولا سيما في ما يتعلق باستغلال الثروات التعدينية، وخصوصا النفط والغاز". وأرجع الترحيب الأفريقي بالصين حتى الآن إلى غياب تاريخ استعماري قديم لبكين في القارة، على الرغم من ظهور مخاوف من تزايد الديون الصينية على الدول الأفريقية. وأضاف "أن الصين تتبع أسلوبا خاصا لمعالجة هذه الديون من خلال استثمارها في مشاريع تنموية داخل الدول المدينة".

سعي واشنطن إلى تعزيز دورها في القارة يواجه تحديات وصعوبات واضحة

صلاح حليمة، نائب رئيس المجلس المصري للشؤون الأفريقية

في الجانب الآخر، يشهد النفوذ الغربي، ولا سيما الفرنسي، انحسارا ملحوظا في القارة الأفريقية، وخصوصا في منطقة غرب أفريقيا. وأشار السفير حليمة إلى ما حدث في دول مثل بوركينا فاسو والنيجر ومالي، وامتداد الأمر إلى دول أخرى مثل تشاد والسنغال، مما يعكس تراجع النفوذ الفرنسي والأميركي. وأوضح "أن هذا التراجع تعزز مع إلغاء الاتفاقات المبرمة بين هذه الدول وفرنسا، وانسحاب القوات الفرنسية والأميركية".

ممر "لوبيتو"

وتابع السفير حليمة مشيراً إلى توتر العلاقات بين الولايات المتحدة وأفريقيا، وخصوصا خلال ولاية ترمب الأولى، الذي "اتسمت سياساته بنوع من الازدراء تجاه الدول الأفريقية، مما أثار استياء تلك الدول وغضبها. وأكد "أن سعي واشنطن إلى تعزيز دورها في القارة يواجه تحديات وصعوبات واضحة". في المقابل، تحافظ الصين على علاقات قوية مع البلدان الأفريقية من خلال تنظيم مؤتمرات دولية منتظمة مثل مؤتمر "الصين-أفريقيا" ومنتدى "الصين-العربي"، وهو ما لم تقم به الولايات المتحدة سوى في مؤتمر عام 2022، "الذي جاء ببرنامج طموح لكنه لم يسفر عن نتائج ملموسة".

رويترز
رافعة ضخمة في اكبر منشأة أفريقية لصناعة وتصدير الفحم، في ميناء ريتشاردز باي، في جنوب أفريقيا، 21 يونيو 2018

وربما حاولت الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة تحسين موقفها من خلال زيارات قام بها الرئيس الأميركي جو بايدن لثلاث دول أفريقية، بالإضافة إلى استثمار ثلاثة مليارات دولار لإنشاء ممر "لوبيتو"، الذي يربط بين شرق وغرب أفريقيا ويُشعِل صراعا على النحاس الأفريقي. وبيّن السفير "أن هذا المشروع يسعى إلى تعزيز العلاقات التجارية بين أفريقيا والولايات المتحدة، عبر تطوير البنية التحتية وإقامة مراكز لوجستية تساهم في بناء علاقات اقتصادية وتجارية مستدامة".

font change