لبنان يستعيد مارون بغدادي بعرض أفلامه على امتداد مساحة البلاد

عاشق بيروت الذي فرد ذراعيه خريطة تتسع للجميع

AlMajalla
AlMajalla

لبنان يستعيد مارون بغدادي بعرض أفلامه على امتداد مساحة البلاد

تمتد سجادة حمراء يتجاوز طوالها 60 مترا على أرضية متسعة بين مباني وسط مدينة بيروت، حيث أصوات الحشود التي اصطفت على الجانبين، سيطرت على زقزقات العصافير التي عششت شهورا طويلة في مباني وأزقة الوسط التجاري، لمنطقة عرفت بكونها منطقة أشباح منذ الانهيارات الاقتصادية والأمنية في لبنان، على امتداد السنوات الست الأخيرة.

في صناديق مزججة، عرضت ملصقات أفلام ذائعة الصيت بتوقيع مخرج واحد، امتدت على مدى حقبات طويلة، منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وحتى العام المنصرم، ظهرت عليها سجلات من أسماء ممثلين ومشتغلي سينما من لبنان والعالم العربي وأوروبا وهوليوود وصولا الى اليابان. في وسعنا أيضا أن نلمح أسماء كوبولا وسكورسيزي وشارون ستون وروبرت دينيرو وزياد رحباني وأحمد قعبور وثريا خوري وغيرهم.

في موازة السجادة، تقترب ببطء سيارة رياضية، مكشوفة وحمراء، تتهادى بين الجموع، كما تفعل السيارات التي تحمل القادة والملهمين حين يُحتفى بهم في الأماكن العامة. يتحضر للاقتراب منها، كل من روائي ومفكر ومصور وإعلامي، ومن خلفهم مجموعة تضم عشرة مخرجين سينمائيين من جيل أصغر، وقبل الجميع أطفال يحملون العلم اللبناني وعبارة "كلنا للوطن". فيما تهبط من السيارة سيدة لم ينجح التقدم في العمر في تبديد ملامحها وطاقتها الساحرة. تمد يدها الى حبيبها الفارع الطول، بحنان شديد، وبدلا من أن يلتقطها، يقفز من السيارة، بلا عون، كأنه في العشرين من عمره، رغم أنه قارب منتصف السبعين.

تفاجئ هذه الحركة الزوجة الحنونة، كما الجمهور المتعطش، لكن ذلك المخرج، اعتاد دوما على العيش، غارقا في لذة المفاجآت.

هكذا هو مارون بغدادي.

وهكذا قد يكون السيناريو المتخيل، لإحدى عوداته إلى بيروت، آتيا من باريس أو أي عاصمة عالمية أخرى لطبخ مزيد من المشاريع التي لا تتوقف، لو أمد الله بعمره، ولم يسقط من أعلى سلم المبنى الذي تقطن فيه أمه، وهو لم يتجاوز 43 عاما في ذلك اليوم المأسوي في تاريخ لبنان السينمائي، في العام 1993.

بوفاته المأسوية المفاجئة، رحلت شخصية محبة للسينما والناس، وفرصة لم تتكرر، لنتاجات غزيرة أخرى ذائعة الصيت، من سينمائي نشيط وحذق. كما لم يكتب لنواياه بصناعة أفلام يمثل فيها نجوم عالميون أمثال دينيرو وستون أن تتمخض عن واقع ملموس.

بوفاته المأسوية المفاجئة، رحلت شخصية محبة للسينما والناس، وفرصة لم تتكرر، لنتاجات غزيرة من سينمائي نشيط وحذق

قبل أن ينقل جسده الجريح، على عجل، بعد اكتشاف سقوطه من قبل أصحابه، وعبر شاحنة، بصحبة رجلين كانا على مقربة من المكان، الى المستشفى القريب، كما في مشهد مستعاد من أفلامه التي لم تخل من العبث واللعب مع الموت. وقبل أن يلفظ أنفاسه، كان هذا المخرج الطموح أنجز 20 فيلما روائيا ووثائقيا طويلا وقصيرا، بلغات مختلفة، صورت في لبنان وفرنسا واليونان وإيطاليا ودول أخرى، ورسّخ دعائم منجز وخزين سينمائي، بالفكر والعاطفة والوثيقة واللغة التقنية، لن تتوقف المؤسسات الثقافية والسينمائية ولا الأفراد من صناع الأفلام والنقاد والمؤرخين والباحثين عن النهل منه إلى يومنا هذا.

"وعاد مارون إلى بيروت"

كان بغدادي ليكره ذاك السيناريو التخيلي الافتتاحي، المشار إليه أعلاه، فهو لطالما كان منحازا الى سينما الواقع، الأقل إبهارا، رغم حبه "السري"، لكل مظاهر التكريم والجوائز، التي سعى إليها، بقدر ما سعت إليه، من دون تكلف ولكن مع تخطيط واضح: نال مناصفة جائزة لجنة التحكيم في "كان" عام 1991 عن فيلمه "خارج الحياة"، ونافس على جائزة "الأسد الذهبي" في "البندقية السينمائي" عام 1987 مع فيلمه "الرجل المحجب"، لكن إرثه الأكبر، الذي لم يتوقف عن الإلهام والتأثير بعد رحيله بثلاثين عاما ونيف، يتضح في 3 مكونات رئيسة، تجعل عودته الى بيروت التي عشقها أكثر من أي مدينة وربما إنسان، عودة حية ومتجددة في كل حين. أحدث العودات: فيلم وثائقي عن أعماله وحياته، و15 عرضا بتوقيت واحد لأحد أفلامه في مختلف أرجاء لبنان، ومواصلة لا تنقطع لترميم نسخ أفلامه والبحث عما فقد منها.

المكون الأول: المثالية والعبث

على مدى الشهور الخمسة الماضية، شاهد عشاق السينما مخرجة أفلام شابة، تجول في سيارة حمراء مكشوفة، شبيهة بتلك التي اقتناها بغدادي واستخدمها خلال حياته، في مناطق وأحياء في بيروت، شكلت عالم المخرج الراحل منذ ولادته حتى رحيله. أحياء: الجميزة، السوديكو، الصنائع، المنارة، الحمرا... أرادت المخرجة فيروز سرحال، التي صورت في أفلام سابقة لها مدينة بيروت، وإن عبر مستويات أعلى، من فوق سطوحها، أن تنزل هذه المرة إلى الأرض، في فيلم احتفى بعلاقة بغدادي بالمدينة، وشخوصها وهمومها وطبقاتها، من النوع الوثائقي الطويل حمل اسم "وعاد مارون إلى بيروت"، عرض في كبرى المهرجانات العالمية وصالات المراكز الثقافية، ويتحضر لدورة عروضه قريبا على المنصات والشاشات الأخرى.

GERARD JULIEN/AFP
مارون بغدادي في مهرجان كان السينمائي

في المقهى التاريخي الذي حمل اسم "هورس شو"، في شارع الحمرا في بيروت، حيث كان بغدادي يلتقي أحبته، ويلقي عليهم "تعاويذ" ساحرة مستمدة من الكاريزما الهائلة والشغف الكبير اللذين ميّزا شخصيته، تفسر سرحال في حديث خاص مع "المجلة" الأسباب التي دفعت بها إلى تلك الرحلة الممتعة والمرهقة، لاستقصاء وتفحص كل أعمال بغدادي، والإنصات إلى 16 شخصية ظهرت في فيلمها تحدثت عن ذكرياتها معه أو تأثيره عليها.

تقول سرحال: "أردت أن أختبر مغامرة يخوضها مخرج عن مخرج آخر. نحن الاثنان نتشارك في حب بيروت، وإن كان لكل واحد منا لغة سينمائية مختلفة في التعبير عن هذا الحب. كما أن الهواجس التي واجهته حول البحث عن وطن آمن ومزدهر، كذلك تأثير السياسة على الصناعة السينمائية، لا تزال جلها كما هي، ممتدة من جيل السبعينات إلى جيل الألفية، رغم اختلاف التقنيات السينمائية وتطورها. فبيروت لا تزال نجمتنا المضاءة على الشاشات، ولها بريق خاص، لمجرد ظهور مشاهدها، لكنه البريق الذي سرعان ما يبهت، مائلا إلى صورة رمادية، كلما تمعنا حفرا في أعماقها، وما خلف الصورة، حيث التحديات والمشاكل الدفينة والراسخة".

عبر لغة توثيقية لم تخل من سحر بيروت ولا سحر السينما، استعادت سرحال نوستالجيا صادقة ونابضة، بثها المقربون من مارون، من أصدقائه وعائلته والمقربين منه، كتحية حب عابرة للزمن، تسعى إلى تخليد روحه: الروائي حسن داوود، المصور حسن نعماني، المؤرخ فواز طرابلسي، الإعلامي فؤاد نعيم، الزوجة الفنانة ثريا خوري بغدادي، المخرج إيلي أضباشي والمخرجة جوانا حاجي توما. يضاف إليهم ظهور خاص لتسعة من صنّاع السينما من الأجيال الجديدة في الجزء الأخير من الفيلم من بينهم إليان راهب وميشال كمون ورنا عيد وهادي زكاك.

فيلم وثائقي عن أعماله وحياته، و15 عرضا بتوقيت واحد لأحد أفلامه في مختلف أرجاء لبنان، ومواصلة لا تنقطع لترميم نسخ أفلامه والبحث عما فقد منها

اتفق الجميع على حب مارون العارم للسينما، وعلى سحره الشخصي والمهني، وتعبيره عن جيل الحرب الأهلية اللبنانية الذي عانى أزمة هوية وكان فريسة تلك الحرب في أفلام حاكت من جهة عنف تلك المأساة وصخبها، وانتصرت من جهة أخرى للأمل وضرورة المصارحة للوصول إلى المصالحة. اتفقوا أيضا على كونه "مستعجلا"، يركض وتركض شخصيات أفلامه معه. واختلف بعضهم، ما إذا كان هذا الركض حلّق به أو "أسقطه" في نهاية متعجلة: "أراد أن يتجرع كل شيء بسرعة. يخيل إليّ أنه ينطبق عليه التوصيف الشعبي الشائع: ابن موت"، يتخيّل داوود.

Neilson Barnard/Getty Images for DIFF
فيروز سرحال

يخلّف فيلم سرحال أيضا دهشة لدى المشاهد، إزاء تيقنه من عدم تقدم الزمن البيروتي كثيرا، وإن مرت السنين، إذ أن الحروب الأهلية في "بيروت يا بيروت" (1974) و"همسات" (1980) و"حروب صغيرة" (1981) و"حرب على الحرب" (1984)  استبدلت بعد موت بغدادي بحروب أخرى كثيرة، كما أن الجنوب لا يزال يصرخ، كما في أفلامه "أجمل الأمهات" (1978) و"حكاية قرية وحرب" (1978) و"كلنا للوطن" (1979) و"عاشوراء" (1981). ناهيك أن المخرجين اللبنانيين، إلى يومنا هذا، لا يزالون يبحثون عن أماكن بديلة يواجهون عبرها سلطات التمويل والرقابة والحجب وأثر الافتقاد إلى البيئة المستقرة، الأمر الذي يعرقل تصوير أفلامهم، تماما كما استبدل مارون، ذات يوم، لأسباب عدة، بيروت باليونان في "لبنان بلد العسل والبخور" (1987) وبصقلية الإيطالية في "خارج الحياة" (1991).

"عشق مارون بيروت عشقا كاملا جعله يرغب دوما أن تكون مدينة مثالية. لذلك، في طور دمارها الأشرس خلال سني الحرب الأهلية (1975-1990) كان يلهث لنقل كل عناصر ذلك الخراب إلى الشاشة، كالذي يوجه نداء استغاثة، حين يفقد معشوقته"، تضيف سرحال، مستعيدة اقتباسا لبغدادي ورد في فيلمها. يقول: "من المستحيل مغادرة بيروت ببراءة. من المستحيل قضاء فترة من الزمن في بيروت دون دفع الجزية. من المستحيل الذهاب إلى بيروت بغرض مداواة الناس فقط. هناك حرب. حين تسافر إليها عليك أن تكون مشاركا فيها. الحرب موجودة وهي مثل الأحداث الدائرية تطال كل الناس".

ANWAR AMRO / AFP
علب الأفلام الأصلية للمخرج الراحل مارون بغدادي خلال فعالية في بيروت

الدوائر تشبه، لفداحة القدر، تلك السلالم الدائرية في المبنى القديم، التي سقط منها مارون، لكنها، بالمعنى المجازي تشبه عملا دؤوبا ما انفكت تقوم به منظمة سينمائية وثقافية، مقرها بيروت، على مدى ربع قرن، ساهم في الحفاظ على إرث بغدادي ونشره على مستوى العالم، بل أدى الى اكتشاف نسخ ضائعة من أفلامه وترميمها وتوزيعها: جمعية "نادي لكل الناس".

المكون الثاني: الوثيقة التاريخية

في شارع سارولا في حي الحمرا الذي كان أحد معالم النهضة الفنية والترفيهية لبيروت قبل الحرب، لا يزال مبنى صحيفة "السفير" يشهد حيوية زوار وأفكار، رغم توقف الصحيفة نفسها عن الصدور قبل ثماني سنوات.

بدءا من منتصف سبعينات القرن الماضي، وعلى مدى نحو أربعة عقود، شكلت هذه الصحيفة منبرا عروبيا ويساريا انتصر لقضايا القومية وفلسطين والعدالة للمهمشين، وشاركت في أعمالها نخب ثقافية عربية، كما عدت مدرسة إعلامية، خرّجت صحافيين تدربوا وعملوا فيها على مدى أجيال، لتنهي مسيرتها التي حملت شعار "صوت الذين لا صوت لهم"، بأزمة تمويل.

ANWAR AMRO / AFP
معرض مخصص لذكرى مارون بغدادي في بيروت

في الطابق الثاني من المبنى الذي أصبح اليوم يضم مقهى وفضاء ثقافيا في مستواه الأرضي، ينهمك السينمائي والناشط نجا أشقر، في المكاتب الجديدة التي انتقل اليها "نادي لكل الناس" حديثا، في التحضير لسلسلة من الأنشطة الثقافية والاجتماعية، محاطا بأفلام مارون بغدادي بنسخ "دي في دي"، قرب زاوية ثبتت فيها منصة مشاهدة لكل أفلامه بحسب الطلب والحجز، وكتب وأرشيف عن طليعيي الحركة الفنية والسينمائية في لبنان.

اتفق الجميع على حب مارون العارم للسينما، وعلى سحره الشخصي والمهني، وتعبيره عن جيل الحرب الأهلية اللبنانية الذي عانى أزمة هوية

يشرح أشقر عن عمل المنظمة التي شارك في تأسيسها ويديرها على مدى نحو ثلاثة عقود، منذ الاجتماعات التأسيسية الأولى في "كافيتيريا" تابعة لإذاعة يسارية شهيرة في لبنان اسمها "صوت الشعب". يقول في حديث خاص لـ"المجلة": "نعمل على برمجة ورقمنة وترميم ونشر وتوزيع وترجمة مجموعة من الأفلام التراثية المحلية والعربية، المصاحبة للإنتاجات البديلة أو المهمشة أو المهددة". فضلا عن أعمال بغدادي، تضم اللائحة كثرا، من أمثال هيني سرور وجان شمعون وبرهان علوية وكريستيان غازي وجورج نصر، ليصل عدد الأفلام التي جمعها أو عمل عليها النادي 250 فيلما لبنانيا وعربيا.

ANWAR AMRO / AFP
نجا الأشقر أمام صور المخرج الراحل مارون بغدادي

يقول أشقر: "تمكنّا من إنقاذ عدد من أفلام مارون من التلف أو الفقدان. استعدنا من أماكن في بيروت وفرنسا أفلاما ونسخا لم تكن متاحة، وواصلنا، مع شركائنا، جهودا في الحفظ والترميم على أعلى مستويات تقنية. الأمر الذي مكننا من إعادة إطلاق عروض استعادية لها في صلب تظاهرات سينمائية دولية وعربية ومحلية، وأمّن مشاهدتها على منصات مشاهدة عالمية كما حصل مع نتفليكس في تعاقد دام لثلاث سنوات". يضيف أشقر، متحدثا بشغف وحماسة لافتين، عن هذا التوثيق، الذي يربطه بدلالات وطنية وحضارية: "لا نتوقف عن استعادة أفلام بغدادي، لأنها تشكل وثيقة شاهدة على تاريخ لبنان. صوّر هذا المخرج بلده خلال ثلاث مراحل رئيسة: عشية الحرب وأثناءها وبعدها. حين نتجول بسينماه في مسارح المدارس والجامعات يندهش الطلاب لتجسيده أفكارهم وأحلامهم ومشاعرهم الوطنية الحالية، من قبل حتى أن يولدوا. لا يرغبون في التوقف عن اكتشافه. كان سابقا لعصره. كل مشهد من مشاهد أفلامه يجسد قصيدة أو مقالة أو خطبة سياسية أو رؤية. لا أنسى عيون الأطفال في فيلم كلنا للوطن وهم يؤدون النشيد كل على هواه. بينما يرتفع علم واحد. ألا يجسد هذا مشهدية لبنان الى يومنا هذا؟".

ANWAR AMRO / AFP
ملصقات تحمل صور المخرج الراحل مارون بغدادي

ذلك الشغف التوثيقي تؤكده شهادة حاجي توما في فيلم سرحال، باقتباسها من المخرج الفرنسي الشهير جان لوك غودار، أحد مؤسسي "الموجة الجديدة" للسينما الفرنسية: "كل فيلم هو وثيقة عن الزمن وعن طريقة السينما أيضا، وحين أشاهد أعمال بغدادي أتعلم منها السينما والتاريخ". وتضيف المخرجة التي فازت أفلامها، بالتعاون مع شريكها خليل جريج، بجوائز دولية ورشح أحدها للأوسكار: "لقد أثرت سينماه فيّ وفي أجيال كثيرة، جاءت لتكمل ما بدأه من السردية اللبنانية". بينما يكشف فواز طرابلسي، خلال لقائه سرحال، عن الارتباط بين الشغف التوثيقي والحس النضالي المبكر لبغدادي الذي كان قريبا من الأجواء اليسارية والداعمة للعمل الفدائي الفلسطيني، رغم انفتاحه على كافة الأطراف.

لم تجفل كاميرا بغدادي عند جبهة على حساب جبهة أخرى أثناء الحرب. لم يخفت حسه النضالي الفني على تخوم منطقة في مواجهة منطقة أخرى، ورغم تحيزه الواضح لقيم وأفكار شخصية، تشاركها مع توجهات القوى اليسارية، مقابل موقف نقدي واضح تجاه "الأجواء اليمينية المتطرفة"، الا أنه "آمن بشدة بأنه يجب على اللبنانيين أن ينسوا، وليس بالضرورة أن يغفروا، ما حدث في تاريخهم من مآس"، كما يحلل طرابلسي.

الهواجس التي واجهته حول البحث عن وطن آمن ومزدهر، كذلك تأثير السياسة على الصناعة السينمائية، لا تزال كما هي من جيل السبعينات إلى جيل الألفية

فيروز سرحال

كانت ذراعاه ممتدتين على اتساع الخريطة الوطنية، وهذا ما يجعل سينماه، الى اليوم، تقفز على الفور إلى الواجهة مع تجدد الأمل بمستقبل أفضل لدى اللبنانيين، كالحاصل أخيرا، بعد انتخابات رئاستي الجمهورية والوزراء، التي تلت تبدلات جيوسياسية مفاجئة ومؤثرة في المنطقة.

ANWAR AMRO / AFP
صورة للمخرج الراحل مارون بغدادي

في هذا السياق، تعتبر الاستعادة الحالية، في 28 يناير/ كانون الثاني الجاري، لأحد أفلام بغدادي، وإطلاق عرضه في 15 مركزا ثقافيا في لبنان في التوقيت ذاته، من بعلبك إلى صيدا، مرورا بالبقاع والشوف وجبل لبنان وبيروت، ومناطق أخرى، مع نقاش جماعي بعد الفيلم، يربط كل المناطق، حدثا غير مسبوق في الجو السينمائي اللبناني. يحدث ذلك ضمن فعاليات النسخة العاشرة من "مهرجان بيروت للسينما الفنية" الممتد على مدى ستة شهور بين يناير/كانون الثاني ويونيو/ حزيران 2025، رافعا شعار: "معا في التراث".

تقول أليس مغبغب، المديرة الفنية للمهرجان، في حديث خاص مع "المجلة": "أجزم أن اللبنانيين يتفقون على مارون بغدادي في السينما، تماما كما يجمعون على فيروز في الغناء. كان عابرا للطوائف والمناطقية والتقوقع. وساهم في كتابة تاريخنا حين لم يكن هناك كتاب تاريخ موحد".

ملصق فيلم "همسات"

المكون 3: الخيط الرفيع بين المادية والروحانية

في المرحلة الثانية من حياته القصيرة، سعى بغدادي إلى تطوير أدواته السينمائية، ومالت أفلامه الأخيرة إلى "اللغة الأميركية في السينما"، كما يفيد أضباشي الذي عمل مساعد مخرج في عدد من أفلامه.

لكنه، بحسب زوجته ثريا، التي كانت أيضا بطلة عدد من أفلامه، ظل محافظا على رغبته بأداء غير صاخب للممثل: "يريدنا أن نتحدث بنبرة صوت، تقف عند الحدود الدنيا للانفعال، حتى لو كان السياق يفرض ذلك. لم يكن يسمح لنا بأن نختبر الحد الأعلى من المشاعر أولا، كي نقوم بضبطه لاحقا كما يرغب. شكل هذا الأمر لي ولعدد من الممثلين معضلة تقنية ولم يكن يرضى بغير ذلك".

حين نتجول بسينماه في مسارح المدارس والجامعات يندهش الطلاب لتجسيده أفكارهم وأحلامهم ومشاعرهم الوطنية الحالية

نجا أشقر

كان أيضا في التكنيك السينمائي يجرب الحكايات أولا في أفلام وثائقية قصيرة، ثم ينسخ الشخصيات الحقيقية كما هي من تلك الأفلام، إلى أفلامه الروائية الأطول، بحسب سرحال في حديثها لـ"المجلة".

وسط ذلك كله، مما يبدو من صخب، تميز شخصية فريدة في موقع التصوير، تتواصل مع كل الممثلين والعمال من دون استثناء، "فيشعر كل واحد منهم بأنه مميز"، لم يفقد بغدادي خطا جوانيا، قد تصح تسميته بالصوفية الروحانية.

افتتن بالشعر والفلسفة ووجد فيهما طاقة شافية له، في مواجهة مآزق الفنان الوجودية المعتادة، هو القائل: "أفلامي تساؤلات حول يقين الموت. سحر الموت. الشيء الوحيد الذي نحن أكيدون منه ولا نعرف عنه شيئا".

عن الحياة وما قبلها والموت وما بعده، تصدت كاميرا بغدادي لطرح الأسئلة الشائكة على ثلاث شخصيات فكرية وثقافية تعتبر من القامات في الإرث اللبناني الحديث: الفيلسوف والكاتب ميخائيل نعيمة (1889-1989)، والسياسي والمفكر كمال جنبلاط (1917-1977)، والشاعرة ناديا تويني (1935-1983).

Pool BENAINOUS/REGLAIN/Gamma-Rapho via Getty Images
مارون بغدادي في مهرجان كان السينمائي

ترك بغدادي ثلاثة بورتريهات سينمائية، شغلت بسينما، لم يخل بعضها من الصخب ومشاهد الميلودراما والدمار، لكنه عرف كيف يغلفها بإطار "صوفي وشاعري ساحر يخلف لدى مشاهدتها اليوم، شعورا رائعا بالاسترخاء والراحة، لدى اللبنانيين الذين أنهكتهم الحروب"، كما يشير مدير "نادي لكل الناس".

في المشهد الأخير من فيلم فيروز سرحال "وعاد مارون إلى بيروت"، تعبر السيارة الحمراء الشوارع المنتشية بأطياف الغروب الساحرة. يسطع نجم بيروت مرة جديدة. تلجأ المخرجة في محطتها الأخيرة إلى صالة سينما تاريخية في شارع الحمرا، حيث اجتمع صنّاع سينما، من أجيال وسيطة وشابة، حول شاشة سينما، أطل عبرها مارون، متحدثا عن السينما والحب وبيروت.

ينصتون اليه. يتناقشون بتأمل وصخب. بإحباط وأمل. بعزيمة وصمت. تماما كما هي أفلامه.

كأنه، وهو يناظرهم، عبر شاشة عابرة للزمن، يخيّل لنا أنه راض ومبتسم. هو القائل: "تساؤلاتي كثيرة ولكن أجوبتي قليلة. في أفلامي أملك تساؤلات واندهاشات أكثر مما أملك أجوبة. ألاحظ وأتساءل ولا أجاوب. أبدي شيئا من الشك دون أن أصل إلى يقين أو يقين مضاد".

font change