عن لبناننا وسوريتنا والأصوات التي ترفض التعلم

هل يصح تبرير الموقف المستفز بأنه رد فعل "مشروع" على ممارسات عنصرية تعرض لها اللاجئون السوريون

أ.ف.ب
أ.ف.ب
سوريون يعودون إلى دمشق عبر معبر المصنع الحدودي في لبنان، في 8 ديسمبر 2024

عن لبناننا وسوريتنا والأصوات التي ترفض التعلم

هو أمر مفهوم تعاطي سلطة الوصاية السورية البائدة مع الوطن اللبناني ككيان ملحق بها، وحتى اعتباره مجرد محافظة من المحافظات السورية، وهو أمر مفسر حين تبدي بعض القوى القومجية وأصحاب المرجعيات الأيديولوجية الشمولية، عدم رضاها، على توسع متصرفية لبنان، لتضم إلى جانب الجبل كلا من بيروت وطرابلس وبعلبك والجنوب، مجاهرة برغبتها في عودة الأمور إلى ما كانت عليه في ظل السلطنة العثمانية وقبل ولادة ما عرف بلبنان الكبير. لكن ما ليس مفهوما أو مفسرا أن تتنطح شخصيات محسوبة على المعارضة السورية الديمقراطية، فترفض وجود وطن لبناني مستقل، وتستسهل هتك حق الشعب اللبناني في إعلان جمهوريته، قبل مئة عام، والادعاء بأن ما يستحقه فقط هو متصرفية جبل لبنان، وذلك من دون أن يعيروا أدنى اهتمام للمبادئ التي يدّعون أنهم يؤمنون بها، وتاليا للحق المشروع لأي جماعة بشرية تقرير مصيرها واختيار ماهية المكون الاجتماعي والسياسي الذي ترغب في الانتماء إليه.

هل يصح تبرير هذا الموقف المستفز لمعارضين سوريين محسوبين على الفكر الديمقراطي وحقوق الإنسان على أنه نكاية أو رد فعل "مشروع" على ممارسات عنصرية تعرض لها اللاجئون السوريون، ولسان حال بعضهم يتساءل: بأي حق يتطاول هؤلاء اللبنانيون على نزوح سوريين إلى أرض هم أصحابها أساسا؟ وهل يمكن تسويغ ذلك على أنه تفريغ لاحتقان اعتمل في نفوس السوريين جراء توغل "حزب الله" اللبناني إبان ثورتهم في دعم النظام البائد واستباحة أرواحهم وعمرانهم؟ ثم لم لا يقيمون اعتبارا لحقيقة أن كثيرا من اللبنانيين لم تكن ترضيهم تلك الشعارات العنصرية البغيضة ضد اللاجئين السوريين، ولا الدور القمعي والتدميري الذي لعبه "حزب الله" في سوريا، لتمكين سلطة حليفه المجرم؟

لا يختلف اثنان على أن ما بين سوريا ولبنان من علاقات وروابط يندر أن تتوفر بين شعبين

لكن يبقى الأسوأ أن يتم الدفاع عن تلك الاندفاعة المستهترة بالوطن اللبناني بذريعة أنه كيان صنعه الاستعمار الفرنسي على حساب الجغرافيا السورية، يحدو ذلك غالبا، اصطفاف جديد يروج لأفضلية عودة السلطنة العثمانية ليعود لبنان إلى متصرفيته، وتعود سوريا إلى اتساعها، وكأن الوجود العثماني كان من عظام الرقبة وليس احتلالا أو استعمارا أيضا، وكأن اقتطاع لواء اسكندرون مثلا والسيطرة العسكرية التركية على عفرين وغرب إدلب ليس انتهاكا للجغرافيا السورية وحقوق السوريين الوطنية.

أ ف ب
دخول القوات السورية الى بيروت في الاول من نوفمبر 1976

لا يختلف اثنان على أن ما بين سوريا ولبنان من علاقات وروابط يندر أن تتوفر بين شعبين، فعداكم عن قوة واتساع التداخل الجغرافي والديموغرافي، ثمة أواصر قربى ومصاهرة كثيرة وتقاليد اجتماعية متشابهة تجذرت عبر الأجيال. لكن ذلك وللأسف، لم ينعكس بتاريخ صحي مشترك، ولم تسر الأمور عموما على ما يرام بين البلدين، بل شهدت عددا من المشكلات تراكمت عبر عقود جراء تباين الأنظمة والخيارات السياسية والاقتصادية بينهما، وزاد الطين بلة وجعل تلك المشكلات مزمنة وعميقة، دخول النظام السوري بقواته العسكرية الى لبنان عام 1976 لفرض سيطرته ووصايته على هذا البلد والتحكم في مقدراته ومصائر أهله، وتحويله إلى ورقة لتعزيز نفوذه الإقليمي، مستقويا بعناوين متنوعة، منها: تحصين سوريا وجبهة الممانعة من مخاطر إمبريالية وصهيونية محتملة قد تأتي من الخاصرة اللبنانية الرخوة، ومنها الادعاء بوحدة المسار والمصير... إلخ. الأمر الذي تجلى في تعاون وتناغم فريدين بين النظام السوري البائد و"حزب الله"، قمعا وإرهابا واغتيالا، لتطويع الشعبين اللبناني والسوري، ووأد الحلم المشترك لرواد الاستقلال في تأسيس دولتين مستقلتين تقيمان أوثق العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بينهما، والأسوأ توافقهما على رهن المجتمعين لمشروع خارجي، تجسده مصالح إيران التوسعية ومأربهم في تحويل الأوطان إلى أوراق قوة يستثمرونها في معارك تعزيز السيطرة الداخلية والتنافس على النفوذ الإقليمي، حتى لو أدى الأمر إلى تفتيت هذه الأوطان طائفيا، وزرع التفرقة والحقد بين أبنائها، ولا يغير هذه الحقيقة بل يؤكدها اعتمادهم على خطاب أيديولوجي يقوم على استثارة العواطف الوطنية وإشعال فتيل الحماسة في مواجهة الأجنبي، وعلى شعارات تحرير فلسطين ومواجهة الصهيونية والتصدي للشيطان الأميركي الأكبر، وهي شعارات فارغة كشف الناس زيفها وعافتها نفوسهم.

هل سيطول الزمن كثيرا حتى نتعلم مما كابدناه أن خير ما يفيدنا، كلبنانيين وكسوريين، هو تعزيز أواصر العلاقات الندية والاحترام المتبادل؟

وربطا بنتائج الحرب الإسرائيلية على لبنان وما خلفته من تحجيم وزن "حزب الله" ودوره المهيمن، وربطا بسقوط نظام الإجرام السوري وحلول سلطة جديدة مؤقتة في إدارة البلاد، لم تعد سوريا ذاتها ولم يعد لبنان نفسه، فقد تحرر البلدان من منظومة الوصاية الإيرانية، ومُنح كل منهما فرصة لتصحيح علاقة السلطة مع المجتمع والاحتكام لدولة القانون والمؤسسات، وهي فرصة ثمينة، من دون استغلالها لا يمكن لأي منهما معالجة الأزمات المستفحلة وحالة الخراب المعممة، الأمر الذي يستدعي من الجارين المبادرة لصياغة علاقة مختلفة بينهما على أسس جديدة تأخذ في الاعتبار نتائج ما حصل، وتقضي باحترام إرادة كل بلد في اختيار حاضره ومستقبله ما يمهد الطريق للانتقال إلى بناء قاعدة من الثقة والتفاعل الخلاق بين الشعبين.

ونسأل، استنادا لما سبق: أليس أعداء الحرية والتنوع، ومدمنو الإلغاء والإقصاء، ومخربو فرص الخلاص للشعبين اللبناني والسوري، هم المستفيدون أساسا من الطعن اليوم بالوطن اللبناني ومن تجاهل التطورات السياسية والتاريخية التي شهدتها المنطقة خلال القرن الماضي، وتاليا تجاهل واقع استقلال لبنان وسيادته المعترف بهما دوليا منذ عام 1943؟ثم أليس من مصلحتنا جميعاتجنب جر العلاقات السورية- اللبنانية إلى مزيد من التصعيد والتوتر، ولنقل إننا في غنى عن تسعير هذا الجو من العداء والتنابذ بين اللبنانيين والسوريين وما قد يرافقه من تداعيات سلبية على حاضرهما ومستقبلهما، في الوقت الذي يعاني فيه الشعبان من ويلات الحروب ومن تربص أعداء كثر بهما؟

هل سيطول الزمن كثيرا حتى نتعلم مما كابدناه أن الاعتراف بالآخر وحقوقه هو المدخل الوحيد والدائم لكسب تعاطفه وصداقته، وأن خير ما يفيدنا، كلبنانيين وكسوريين، هو تعزيز أواصر العلاقات الندية والاحترام المتبادل،وبناء علاقات متحررة من كل قهر وتمييز وتعالٍ،وما عدا ذلك كان وسوف يبقى ضارا ومدمرا؟

وتالياألا يفترض أن نتواضع قليلا ونتعظ مما وصلنا إليه؟ ومن تجارب كثيرة لا تزال مرارتها طازجة، جراء الطعن في حقائق الآخرين وحقوقهم وافتعال العداء معهم استقواء بحسابات أنانية وأوهام تاريخية؟

ثم ألا يستحق أن نأخذ في الحسبان حساسية هذه الاندفاعة المرضية التي تهتك استقلال لبنان في الوعي الجمعي اللبناني، في تغذية التطرف السري، وتأثير ذلك على العلاقات المعقدة والمشوهة التي فرضت عنوة بين البلدين؟ 

فلا يزال بعض المعارضين السوريين يصرون على الاستهتار بالوقائع الملموسة، ويتعمدون نشر الشكوك والأوهام حول الوطن اللبناني وبأنه جزء من سوريا

لم يقرأ التاريخ جيدا من يحمّل الشعبين السوري واللبناني التداعيات السلبية والشروخ الحاصلة بينهما، والتي ما كان لها أن تتعمق لولا سياسات القمع والهيمنة والفساد التي مارسها النظام السوري البائد وحلفاؤه في لبنان، ولم يقرأ التاريخ جيدا من يكرر إثارة الشكوك باللبنانيين ويدعي أن غالبيتهم لا تكنّ ودا لسوريا وللشعب السوري، فالشعب اللبناني رغم معاناته من ارتكابات النظام السوري البائد، أظهر في أهم المحطات والمحن السورية حرصا وعزما لافتين في إسناد الشعب السوري في نكباته.

عام 2006، وقّع ما يقارب الثلاثمئة مثقف وسياسي وناشط سوري ولبناني إعلانا مشتركا طالبوا فيه بتصحيح جذري للعلاقات السورية- اللبنانيةالتي أصابها الخلل نتيجة الوجود العسكري والأمني السوري طيلة عقود.وهو إعلان يبدأ بالاعتراف السوري النهائي باستقلال لبنان وبترسيم الحدود والتبادل الدبلوماسي بين البلدين، ويصل إلى المطالبة بالاحترام المتبادل لأي اختلاف في الأنظمة السياسية والاقتصادية واعتباره مصدر غنى وتنوع يعزز فرص التعاون والتنسيق والتكامل بينهما. وقد جاء رد فعل النظام السوري البائد سريعا حين شن حملة قمعية واضحة ضد الموقعين السوريين على الإعلان، اعتقالا وحصارا وفصل العشرات منهم من أعمالهم أو تسريحهم من وظائفهم.

رويترز
زعيم "ادارة العمليات العسكرية" أحمد الشرع والى يمينه الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط في دمشق في 22 ديسبمر

أما اليوم، وبعد أن جرت مياه كثيرة خلال السنوات المنصرمة، فلا يزال بعض المعارضين السوريين يصرون على الاستهتار بالوقائع الملموسة، ويتعمدون نشر الشكوك والأوهام حول الوطن اللبناني وبأنه جزء من سوريا، وكأنهم يتقصدون نسف جوهر "إعلان بيروت- دمشق، دمشق- بيروت مع أن بعضهم لم يعارضه يومها، بل كان من أشد المتحمسين له، بما يعني التنكر للخيار الصائب الذي رسمه هذا الإعلان في بناء علاقات صحية وعادلة بين سوريا ولبنان، على قاعدة جديدة من احترام الحقوق والمصالح المشتركة واختيار مسار التفاعل والتكامل بين جارين لا غنى لأحدهما عن الآخر، الأمر الذيبات يتطلب اليوم، وبعد ما حصل من متغيرات نوعية، انفتاحا سياسيا جريئا وغير مشروط بين الدولتين وعملا ثقافيا ومدنيا وشعبيا في سوريا ولبنان، في محاولة التخفيف من حالة الاحتقان السائدة، وإعادة نشر صورة صحية لعلاقات بين البلدين على أسس ديمقراطية تضمن المصالح المشتركة والاستقرار المتبادل، ما قد يمهد لتكريس وعي جديد يتمثل جيدا دروس وحقائق ما حدث ويحدث، ولا ينساق في دوامة الفعل ورد الفعل أو خلف تحليلات تآمريه أو وراء أوهام أنانية لا طائل تحتها.

font change