إصلاح مصرف سوريا المركزي... تغيير القيادة لا يكفي

يمكن أن تُمهد التدابير المؤقتة الطريق أمام رفع العقوبات المستهدفة

إصلاح مصرف سوريا المركزي... تغيير القيادة لا يكفي

سجلت الإدارة التي كلفتها "هيئة تحرير الشام" حدثا تاريخيا في الثلاثين من ديسمبر/كانون الأول، حين عينت الدكتورة ميساء صابرين كأول امرأة تتولى منصب حاكم مصرف سوريا المركزي. وقد أحيت مؤهلاتها وخبرتها المهنية المثيرة للإعجاب الأملَ في نفوس الكثير من السوريين، مع الأخذ بعين الاعتبار الأهمية الرمزية لتعيينها في مؤسسة لطالما سيطر عليها الرجال.

وفي حين يتسم تعيين الدكتورة صابرين بأهمية رمزية، فإنه لا يستطيع بحد ذاته معالجة القضايا البنيوية الراسخة في البنك المركزي. فعلى مدى عقود من الزمان، كان المصرف مؤسسة تستخدم كأداة للتلاعب السياسي والمالي في ظل حكم نظام بشار الأسد. وقد ساهم هذا الاستخدام السيئ في الانهيار الاقتصادي للبلاد وجعل المصرف هدفا للعقوبات الدولية. وقد فُرضت هذه العقوبات في المقام الأول بسبب دور البنك في تمويل قمع الأسد، وأدت إلى شلل النظام المالي السوري، وتقييد المعاملات الدولية، وتكثيف المصاعب التي يواجهها السوريون العاديون.

وتتطلب معالجة هذا الإرث الثقيل أكثر من مجرد تغيير رمزي على مستوى القيادة. فلا بد من إبعاد البنك المركزي عن السياسة ومنحه استقلالية كاملة وصلاحيات كاملة لا بد منها لاستعادة الثقة وتبديد المخاوف المتعلقة بقيادة "هيئة تحرير الشام" الانتقالية وتخفيف العقوبات وإعادة تدفق الأموال إلى سوريا.

أداة للاستغلال

لقد أصبح البنك المركزي في ظل حكم الأسد أداة للسيطرة الحكومية بدلا من كونه حارسا للاستقرار النقدي. كما استُغل البنك لتمويل المحسوبية في النظام ودعم اقتصاد الحرب بدلا من الوفاء بولايته لضمان الاستقرار الاقتصادي.

وقد استُنفد الاحتياطي الأجنبي بهدف تمويل الحملات العسكرية للنظام وحسابات الأسد الشخصية في الخارج، في حين أدت المخططات المالية المشبوهة والتلاعب بالعملة إلى إثراء الموالين والمحسوبين، وهي ممارسات دمرت السكان على نطاق أوسع.

يتطلب إرساء الاستقلالية الكاملة للبنك المركزي في نهاية المطاف اتخاذَ قرارات تتجاوز نطاق القيادة الانتقالية الحالية. ومع ذلك، يمكن وينبغي اتخاذ خطوات فورية

وكانت العواقب كبيرة الأثر، إذ فرضت الحكومات الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوباتٍ على البنك المركزي بسبب تسهيله الفساد ودعمه الجهود العسكرية للأسد وتمكينه الشبكات المرتبطة بالقمع. كما أدت هذه العقوبات إلى حظر المعاملات المالية الشخصية إلى سوريا، وهو الأمر الذي حال دون تمكن الكثير من المغتربين من إرسال التحويلات المالية إلى أسرهم؛ وهي بمنزلة شريان حياة اقتصادي لعدد لا يحصى من الأسر.

الحاجة الملحة إلى الاستقلال

ليس وجود مصرف مركزي يتمتع بالاستقلالية ترفا زائدا، بل هو ضرورة لاقتصاد يعمل على نحو سليم. إن المصارف المركزية المستقلة تكون في موقع أفضل لإعطاء الأولوية للاستقرار الاقتصادي طويل الأجل على المكاسب السياسية قصيرة الأجل. إذ يمكنها مقاومة السياسات النقدية المتهورة، والحفاظ على الانضباط، وبناء الثقة العامة في النظام المالي.

ويكتسب تأمين استقلالية مصرف سوريا المركزي في السياق الانتقالي الجاري في سوريا أهمية خاصة بالنظر إلى الدور البارز الذي تلعبه "هيئة تحرير الشام" في الحكومة المؤقتة. وكان تصنيف الكثير من الجهات الفاعلة الدولية "هيئةَ تحرير الشام" كمنظمة إرهابية قد أثار قلقا لدى الحكومات الأجنبية ولدى المستثمرين، ما تسبب في تعقيد الجهود الرامية إلى تخفيف العقوبات أو جذب الاستثمارات.

لهذا تُعتبر حماية البنك المركزي من نفوذ "هيئة تحرير الشام" أمرا ضروريا. كما أن ضمان عمل المؤسسة على نحوٍ مستقل وشفاف من شأنه أن يساعد في تخفيف المخاوف من أن يتم استغلالها من قبل قيادة ذات تاريخ مثير للجدل. وسوف يتطلب تحقيق هذه الغاية آليات داخلية قوية لعزل البنك عن أي مجموعة سياسية أو عسكرية، إلى جانب هياكل الرقابة التي تلهم الثقة بين السوريين والمجتمع الدولي.

كما أن ترسيخ الاستقلالية من شأنه أن يُسرع عملية رفع العقوبات. ويُمكن لمصرف سوريا المركزي من خلال قطع الروابط مع أي سلطات سياسية أو عسكرية- سابقة كانت أو حالية- أن يثبت التزامه بالإصلاح وخدمة الشعب السوري. ومن شأن السياسات الشفافة، والتقارير العامة، وآليات المساءلة أن ترسل رسالة قوية إلى الجهات الفاعلة الدولية مفادها أن المؤسسة يجري إعادة بنائها كقوة من أجل العدالة الاقتصادية والاستقرار.

خطوات مؤقتة نحو حل طويل الأمد

وقد يتطلب إرساء الاستقلالية الكاملة للبنك المركزي في نهاية المطاف اتخاذَ قرارات تتجاوز نطاق القيادة الانتقالية الحالية. ومع ذلك، يمكن وينبغي اتخاذ خطوات فورية. ويمكن للهيئة المؤقتة إصدار توجيهات لضمان عمل البنك على نحو مستقل وشفاف خلال هذه المرحلة الانتقالية، تمهيدا لإصلاحات أكثر استدامة في ظل السلطات المستقبلية.

إرساء استقلالية البنك المركزي ليس مجرد ضرورة اقتصادية بالنسبة إلى سوريا، بل هو ضرورة أخلاقية. فهو يوفر فرصة للانفصال عن إرث الفساد وسوء الاستخدام، وإعادة بناء الثقة العامة، وإنشاء نظام مالي يخدم جميع السوريين

ويمكن أن تُمهد هذه التدابير المؤقتة الطريق أمام رفع العقوبات المستهدفة، وهو الأمر الذي يسمح للبنك المركزي بإعادة الاتصال بالنظام المالي العالمي. ومن شأن مثل هذه التغييرات أن تسهل تدفق التحويلات المالية، وتفتح الباب للوصول إلى الأموال الإنسانية، وجذب الاستثمارات الضرورية لإعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي.
ويمكن أن يساعد مصرف سوريا المستقل في استقرار العملة، وتعزيز الاستثمار. ويمكنه أيضا تعزيز العدالة الاقتصادية من خلال إيلاء الأولوية لحاجات السوريين العاديين على حساب مصالح النخب المتجذرة.
إن الشفافية مهمة بالقدر نفسه. ويجب على البنك المركزي نشر تحديثات منتظمة حول السياسات النقدية، وإصدار تقارير مالية مفصلة، وإنشاء آليات للمساءلة العامة. ومثل هذه التدابير حيوية لإعادة بناء الثقة في مؤسسة طالما كانت عرضة للتلاعب. ويمكن لسوريا ضمان أن تصبح هذه الإصلاحات أساسية لحكم البلاد في المستقبل من خلال إيلاء الأولوية لهذه الإصلاحات حاليا، حتى في ظل السلطات الانتقالية.
كما أن إرساء استقلالية البنك المركزي ليس مجرد ضرورة اقتصادية بالنسبة إلى سوريا، بل هو ضرورة أخلاقية. فهو يوفر فرصة للانفصال عن إرث الفساد وسوء الاستخدام، وإعادة بناء الثقة العامة، وإنشاء نظام مالي يخدم جميع السوريين.
وتتوافر لقيادة الدكتورة صابرين القدرة على لعب دور في هذا التحول، ولكن التقدم الحقيقي سيتطلب إصلاحات جريئة والتزاما ثابتا من جميع قطاعات المجتمع السوري. وعندها فقط يمكن للبنك المركزي تحقيق إمكاناته كحجر أساس للاستقرار والازدهار لمستقبل سوريا.

font change