أزمة زيت الزيتون في تونس... تونسية أم إسبانية؟

"الذهب السائب" يصارع انخفاض الأسعار والاستغلال بسبب نموذج التصدير وخسارة صفة المنشأ

Shutterstock
Shutterstock

أزمة زيت الزيتون في تونس... تونسية أم إسبانية؟

أدى تهاوي أسعار زيت الزيتون في تونس الى نحو ثلث سعره السابق مقارنة بعام 2023 (من 9 دولارات إلى 3,5 دولارات لليتر الواحد) إلى أزمة تكاد تعصف بالموسم لا سيما مع تواصل حالة عدم اليقين الناجمة عن صدمة الأسعار. وتصف مجموعة واسعة من خبراء القطاع هذه الأزمة بأنها مدبرة ومفتعلة، وتهدف إلى إرباك السوق المحلية بعد حملة توقيفات شملت المصدرين الكبار ومصرفيين ومسؤولين حكوميين. والثابت أن الأحداث الأخيرة بينت تكلفة النموذج الاسباني للزراعات المكثفة للزياتين في تونس والتي تساهم صادراتها بـ10 في المئة من الامدادات الاقليمية.

تأتي هذه الأزمة في سياق أداء استثنائي لزيت الزيتون خلال السنوات الأخيرة، تجلت في تسجيل طفرة مهمة في الانتاج (340 ألف طن، أي بزيادة 55 في المئة مقارنة بالموسم السابق) مرفقة بقفزة في حجم إيرادات التصدير التي تجاوزت 1,76 مليار دولار (5,16 مليارات دينار) خلال 2023، في مقابل 1,19 مليار دولار (3,8 مليارات دينار) سنة 2023، و780 مليون دولار (2,5 مليار دينار) عام 2022 وبمعدل ملياري دينار من 2018 حتى 2022.

فقد استفادت تونس من الارتفاع الجنوني لأسعار "الذهب السائب" في الأسواق العالمية، وهو ارتفاع يعود إلى عوامل عدة، أهمها شح العرض بعد التراجع الحاد في الانتاج في حقول الزيتون داخل الاتحاد الأوروبي، خصوصا إسبانيا، بسبب الجفاف.

الوفرة الإنتاجية المهمة لم يوازها المردود المالي المتوقع مع صدمة المزارعين والمنتجين بالمنحى التنازلي المباغت للأسعار منذ الأسبوعين الأولين من بدء جني المحصول

قد يصعب تصديق المنحى التصاعدي لأسعار زيت الزيتون خلال السنوات الخمس الأخيرة. يقدر تقرير لمجلة "ذي إيكونوميست" أن أسعار هذا المنتوج الزراعي بلغت في عام 2023 أعلى مستوى لها منذ بدء التسجيل. ويضيف التقرير أن زيت الزيتون أغلى 17 مرة من النفط الخام وأن سعره ارتفع 7 مرات منذ عام 2019. كما ارتفعت الاسعار حسب تقديرات صندوق النقد الدولي بنسبة 117 في المئة على أساس سنوي.

.أ.ف.ب

حجبت هذه الانتعاشة التحديات والرهانات التي يواجهها القطاع محليا وإقليميا من حيث القدرة التنافسية وخريطة توزيع الانتاج الإقليمية، تضاف إليهما العوامل الجيوسياسية أو ما سماه تقرير "فيتش سوليوشنز" برياح معاكسة قال إنها ستضرب صادرات زيت الزيتون التونسي عام 2025، وذكر من بينها الإمكانات الكبيرة غير المستغلة لزيت الزيتون، باعتبار أن 90 في المئة من كميات زيت الزيتون تصدر سائبة أي بلا قيمة مضافة.

الزيتون عالق في الأشجار

"العام صابة.. ميسرة"... عبارات تونسية يُستهل بها الموسم الزراعي الواعد بالوفرة وتستقبل بمظاهر احتفالية استعدادا لملء جيوب المزارعين الثقلى بالديون جراء الارتفاع الكبير للتكلفة والارتدادات الحادة للتغيرات المناخية.

بهذه البشائر انطلق الموسم الحالي لجني محاصيل ثالث أضخم إنتاج من الزيتون في تاريخ تونس (الإنتاج الأهم عام 2019 بـ360 ألف طن)، إلا أن الوفرة الإنتاجية المهمة لم يوازها المردود المالي المتوقع مع صدمة المزارعين والمنتجين بالمنحى التنازلي المباغت للأسعار منذ الأسبوعين الأولين من بدء جني المحصول.

مع حالة الركود وغضب المزارعين واحتجاجاتهم توالت الدعوات الموجهة الى رئيس الجمهورية للتدخل العاجل ووضع الإمكانات المالية لإنقاذ الموسم

كان الرد على تدني الأسعار توقفا مفاجئا أيضا لعمليات الجني التي انطلقت على غير العادة مبكرا هذا الموسم بسبب التغيرات المناخية. وحاولت وزارة الزراعة التدخل سريعا عبر تحديد التسعيرة التقديرية لتداول زيت الزيتون. فقد اكدت بتاريخ 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 أن أسعاره ستتراوح بين 5,6 دولارات (18 دينارا) و6,2 دولارات (20 دينارا).

.أ.ف.ب
تفريغ كمية كبيرة من الزيتون في معصرة في بلدة سبالة بن عمار، بالقرب من مدينة أريانة التونسية، 18 نوفمبر 2024

فشلت وزارة الزراعة في إحداث صدمة إيجابية في الأسواق. وتواصل توقف جني المحاصيل بشكل مقلق لتأثيره المباشر على جودة المنتوج. ومع حالة الركود وغضب المزارعين واحتجاجاتهم توالت الدعوات الموجهة الى رئيس الجمهورية للتدخل العاجل ووضع الإمكانات المالية لإنقاذ الموسم. وقد عقدت مئات الاجتماعات بين القصر الرئاسي وقصر الحكومة ووزارات الزراعة والتجارة والصناعة والهياكل والمؤسسات الحكومية المعنية ومجموعة من المصارف، وكان جليا حال الارتباك مع تفاقم الأزمة وسوء إدارة وفرة الإنتاج وغياب سياسات حمائية.

أين بورصة زيت الزيتون التونسي؟

تزامنا مع ذلك، أطلق عدد من المنتجين حملات تدعو إلى التأني في جمع المحاصيل كشكل احتجاجي نتج منه عدم تجاوز نسبة جني محاصيل الزيتون الـ20 في المئة حتى الأسبوعين الأولين من شهر ديسمبر/كانون الأول المنصرم، على الرغم من إقرار مجموعة من الإجراءات الحكومية، أبرزها تكليف "ديوان الزيت" وهو مؤسسة حكومية شراء كميات من زيت الزيتون والتخزين وتمويل عمليات التخزين لدى المنتجين. 

ولم تقدم أية جهة رسمية تفاصيل دقيقة في خصوص الكميات التي سيتكفل ديوان الزيت شراءها او قيمة الأسعار ولا حتى الكميات الممكن تخزينها من الزيت، خصوصا أن القدرة التخزينية المتوفرة لدى الديوان لا تتجاوز الـ80 ألف طن.

فشلت تونس في التحول إلى لاعب أساسي في السوق العالمية، ولم تتمكن من الاستفادة من تراجع الانتاج إلى النصف في إسبانيا خلال الموسم الماضي

صحيفة الـ"إيكونوميستا" الاسبانية

وتبدو هذه المسائل التفصيلية مهمة لفهم أسباب تواصل الأزمة مع تأكيد نقابة المزارعين على لسان رئيسها رفضها المطلق للبيع بسعر يقل عن 15 دينارا لليتر الواحد الذي اعتبره الحد الأدنى لتغطية تكلفة الإنتاج.

سوق بلا مصدّرين... وفساد وموقوفون

ويشكو المزارعون والمنتجون من ارتفاع تكلفة الإنتاج، لكن مع ذلك لا أحد يقدم بيانات دقيقة كافية وشافية تبين تكلفة الإنتاج التي تختلف بالتأكيد باختلاف أنواع الزيت من بكر درجة أولى إلى البكر الممتاز إلى زيت الزيتون المكرر.  

قدرت منظمة "ألارت"، وهي منظمة محلية غير حكومية، تكلفة إنتاج الليتر الواحد بين 4 و6 دنانير، وطالب عدد من أعضائها في حلقة نقاش تمحورت حول الموسم الحالي لزيت الزيتون، بضرورة إحداث بورصة زيت زيتون على غرار البورصات الموجودة في الدول الثلاث الأخرى المهيمنة على صناعة زيت الزيتون وهي إسبانيا وإيطاليا واليونان.

مع احتدام أزمة زيت الزيتون في تونس، نشرت صحيفة الـ"إيكونوميستا" الاسبانية المتخصصة في الاقتصاد والمال والأعمال في تاريخ 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، تقريرا عن واقع منظومة زيت الزيتون التونسي تحت عنوان "فرصة تونس المهدورة: ازدهار إنتاج زيت الزيتون في إسبانيا يقودها إلى الهاوية المالية"، خلص إلى فشل تونس في التحول إلى لاعب أساسي في السوق العالمية، وعدم تمكنها من الاستفادة من تراجع الانتاج إلى النصف في إسبانيا خلال الموسم الماضي.

تخسر تونس سنويا 50% من قيمة صادراتها من زيت الزيتون. وذلك بسبب خسارة القيمة المضافة بسبب تصدير الزيت سائبا إلى إسبانيا وإيطاليا، حيث تتم التعبئة في زجاجات تحمل علامات محلية ويباع بأضعاف الأسعار كمنتج إيطالي أو إسباني

تقرير "فيتش"

وينظر في تونس إلى مثل هذه التقارير بحساسية بالغة وتُصنّف بالمسمومة وبغير البريئة على الرغم من صدقية الأرقام المقدمة والمراجع المختصة المعتمدة. تعود هذه الحساسية ربما إلى حملات شعواء سابقة استهدفت زيت الزيتون التونسي من قبل جهات إيطالية متهمة بمحاولات ضرب المنتوج التونسي الثمين والمس بسمعته في الأسواق العالمية.

في سياق هذه الأزمة، تُشنّ في مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصا منصة "تيك توك"، حملات مساندة لعدد من مصدري زيت الزيتون الموقوفين لشبهات تبييض أموال وفساد، تتضمن اتهامات لمنافسين إيطاليين وإسبانيين بضرب المنتوج التونسي وعرقلة كل خطوات تثمينه ومنع بروز علامات تونسية رائدة لزيت الزيتون.

إيطاليا وإسبانيا تستغلان صفة "المنشأ التونسي"!

من المهم هنا التذكير بأن تونس تخسر سنويا 50 في المئة من قيمة صادراتها من زيت الزيتون بحسب تقرير "فيتش". وهي خسارة عزاها التقرير إلى خسارة القيمة المضافة بسبب تصدير الزيت سائبا إلى إسبانيا وإيطاليا حيث تتم عمليات التعبئة في زجاجات تحمل علامات محلية وتُفقد بذلك زيت الزيتون المصدر صفة المنشأ التونسي. كما يباع الزيت بأضعاف الأسعار كمنتج إيطالي أو إسباني.

Shutterstock

لذلك، تنتشر سرديات "الأزمة المفتعلة"، خصوصا بعد تبنيها من قبل طيف واسع من الفاعلين في القطاع، ونواب في البرلمان ممن يصرون على أن توقيف أبرز مصدري الزيت وتجاره عشية بدء موسم جمع المحاصيل تسبب في مشهد أشبه بسوق بلا مصدرين، أو مثلما وصفها مزارع من محافظة سوسة الساحلية، بسوق مليئة بالسلع لكنها بلا أربابها.

لن يكون هذا الرهان، مثلما يقدم في النقاشات العامة منذ فترة، ممكنا إلا بتغيير الأسلوب الحالي لتصدير زيت الزيتون والقائم على "الريع"، وقد يكون التوجه نحو "تأميم" القطاع بما يمكن الدولة من بسط نفوذها بشكل كامل عليه

يعتبر قطاع زيت الزيتون ركيزة أساسية في الاقتصاد التونسي والمساهمة في تحقيق توازن ميزان المدفوعات. وهو تاليا في قلب سياسات "التعويل على الذات" التي أعلنها رئيس الجمهورية قيس سعيد منذ القطيعة مع صندوق النقد الدولي نهاية عام 2023.

الزيت التونسي يغني عن قرض صندوق النقد الدولي

وأصبحت مواعيد نشر مؤشرات تصدير زيت الزيتون لا تكاد تمر من دون المقارنة أو الربط بين قيمة هذه المداخيل والقرض محل المفاوضات المتعثرة مع صندوق النقد الدولي (1,9 مليار دولار)، وذلك بهدف تقديم زيت الزيتون كبديل من الاقتراض من هذه المؤسسة المالية الدولية مع ما تفرضه من شروط و"إملاءات تهدد السلم الاجتماعي".

لن يكون هذا الرهان، مثلما يقدم في النقاشات العامة منذ فترة، ممكنا إلا بتغيير الأسلوب الحالي لتصدير زيت الزيتون والقائم على "الريع"، وقد يكون التوجه نحو "تأميم" القطاع بما يمكن الدولة من بسط نفوذها بشكل كامل عليه، مثلما أشارت صراحة بعض التقارير الإعلامية المحلية.

 وأيضا بالتلميح في بعض التصريحات لنواب داعمين للسلطة على غرار النائب بدر الدين القمودي الذي اتهم في تصريح إذاعي منذ أيام أطرافا بالعمل على إحداث اضطرابات على أداء أسعار زيت الزيتون، وخص بالذكر المعاصر وصغار المصدرين الذين نعتهم بالمرتزقة لدى الايطاليين والاسبانيين.

يعد هذا القطاع واحدا من أسوأ مظاهر اقتصاد الريع بأسلوب التصدير الذي رعته الدولة خلال العقود الثلاثة الأخيرة وأوصدت فيه، من خلال وضع شروط تعجيزية، باب المنافسة، خدمة للمستثمرين الكبار والشركات الدولية المستثمرة

وتتوزع الأدوار في قطاع زيت الزيتون بين الانتاج وجني الزيتون والتحويل والتخزين والتصدير، على أربعة فاعلين أساسيين هم على التوالي المزارعون وأصحاب المعاصر والمصدرون وديوان الزيت، وهو هيكل تدخّل تابع للدولة ومكمّل لدور الخواص في شراء وتصدير زيت الزيتون، وأساسا لتعديل الأسعار.

Shutterstock

هذا الهيكل العام العريق، يشكو من عجز مالي متفاقم عاما بعد عام وفقد صدقيته لدى المصارف العامة والخاصة التي صارت تمتنع، بحسب تقرير لوزارة المالية صادر هذا العام، عن إقراضه لتمويل وارداته من الزيوت النباتية، ومع ذلك تضعه السلطات كرأس حربة لإدارة أزمة زيت الزيتون الحالية.

النموذج الإسباني: أرباح للمستثمرين وكارثة للقطاع

يعاني قطاع زيت الزيتون التونسي من أزمة هيكلية كحال مختلف منظومات الانتاج. ويعد هذا القطاع واحدا من أسوأ مظاهر اقتصاد الريع بأسلوب التصدير الذي رعته الدولة خلال العقود الثلاثة الأخيرة وأوصدت فيه، من خلال وضع شروط تعجيزية، باب المنافسة، خدمة للمستثمرين الكبار والشركات الدولية المستثمرة.

ووضعت الأزمة الحالية على طاولة النقاش، وجوب إصلاح القطاع لمنحه صلابة أكبر في مواجهة التحديات والأخطار وتعزيز ما أنجز على مستوى إنتاج الزيتون. وهو نجاح ترافقه تحديات اقتصادية واجتماعية ومناخية ومائية، وأيضا أخلاقية دقيقة جدا.

انطلقت الصين في صناعة زيت الزيتون بزراعة 56 مليون شجرة، وبأن مناخها القريب من مناخ دول حوض المتوسط، وتشير الدرسات الى أن هذا قد يؤهلها لأن تصبح منتجا مرجعيا في العالم

فقد أظهر تقرير صادر عن شبكة "أمواج"، وهي منظمة إسبانية غير حكومية مقرها مدريد، أخطار الاعتماد المتزايد في تونس على النموذج الاسباني في زراعات زيت الزيتون.

ويقول التقرير، ان مستويات إنتاج زيت الزيتون في تونس ارتفعت في السنوات الاخيرة، بسبب الزراعة المكثفة للغاية باستخدام الأصناف والأساليب الاسبانية. ولفت إلى أن هذا النموذج مربح للمستثمرين الكبار لكنه كارثي بالنسبة للقطاع، إذ يتسبب في انخفاض الأسعار بسبب فائض العرض في الانتاج والتكاليف الإضافية مثل الأسمدة، علاوة على استنفاد الأصناف الأجنبية للماء والتعويل بالكامل على الآلات في حصد المحاصيل بما يهدد قوت آلاف العاملين.

.أ.ف.ب

يثير هذا التوجه نحو النموذج الاسباني تساؤلات عن أسباب اعتماده، لا سيما أن الأصناف الاسبانية مثل الأربيكانا وايروسانا صعبة التكيّف مع بيئة تونس ومناخها. ويقول التقرير إن "الاصناف الاسبانية ذات إنتاج وفير وأرباح عالية وهذا هو الهدف الأسمى لأي مزارع أو مستثمر إلا أنها لا تضمن الديمومة والاستمرارية والاستقرار".

عموما، يحتاج القطاع إلى تحول عميق يراعي التغيرات المناخية والقدرة على مواجهة التحديات، منها إعادة تشكل خريطة إنتاج الزيتون مع استثمارات ضخمة للاعبين جدد على غرار الصين التي تقول دراسة أوروبية إنها انطلقت في صناعة زيت الزيتون بزراعة 56 مليون شجرة، وبأن مناخها القريب من مناخ دول حوض المتوسط يؤهلها لأن تصبح منتجا مرجعيا في العالم.

font change