مسرح دمى بين خيام النازحين في غزة: كل ضحكة تمحو وجع الحرب

فريق "خيوط الماريونيت" يصنع الجمال وسط الخراب

Al Majalla
Al Majalla

مسرح دمى بين خيام النازحين في غزة: كل ضحكة تمحو وجع الحرب

قصص كثيرة عن الموت والحياة وما بينهما تشهدها خيام النزوح المنتشرة في غزة، حيث تعيش العائلات على وقع الألم والتشرد والأمل بالمستقبل. في ذلك الحيز الضيق، دور للفن أيضا، حيث تروي الدمى الحكايات، وتبعث في الأرواح المتعبة بارقة أمل مؤقتة. فريق "خيوط الماريونيت"، الذي وُلد في عمق الحرب، أصبح جزءا من مقاومة صامتة لا تُرى بالعين المجردة. هي مقاومة بالخيال والإبداع، لا بالعنف، ويجسد محاولة لردم حفر الموت، بالحياة.

يقول الفنان مهدي كريرة، مؤسس الفريق لـ"المجلة": "خلال الحرب، مثلما كانت الشظايا تتناثر من حولي، كان هناك شظايا في الداخل تدفعني للإكمال. إنه الشغف بالحياة والقوة الداخلية التي تُلزمك بالمضي قدما رغم كل شيء".

مع بداية الحرب، وجد كريرة نفسه غارقا في رعب القذائف وهدير الطائرات. كان ملاذه الوحيد صنع الدمى، "كنت أهرب من ذلك التوتر إلى مساحة أخلق فيها جمالا، ولو من مخلفات الخراب. عائلتي المكونة من سبعة أفراد كانوا جمهوري الأول خلال تلك اللحظات. ثم اتسعت الدائرة وصارت عروضنا تستهدف الأطفال في المخيمات بعد انهيار منظومة التعليم بالكامل".

يتحدث كريرة عن التجربة بفرح مشوب بالتعب: "صنعنا من خراطيم المياه الممزقة والملابس القديمة والمعلبات دمى تحكي الحكايات. كل قطعة قمامة جمعتها من بين الحطام أصبحت جزءا من حلم أكبر".

جمال يولد من القبح

يسهب كريرة في وصف التحديات: "العمل بالمعلبات قاسٍ جدا، ومرهق جسديا، إذ نصاب بالكثير من الجروح، لكن فرحة الأطفال وهم يرون تلك الدمى وهي تتحرك كانت كافية لتنسيني كل الألم. كانت كل ضحكة طفل تمحو شيئا من وجع الحرب".

صنعنا من خراطيم المياه الممزقة والملابس القديمة والمعلبات دمى تحكي الحكايات. كل قطعة قمامة جمعتها من بين الحطام أصبحت جزءا من حلم أكبر

مهدي كريرة

الفنانة رزان البورنو، مشاركة في الفريق، تحرّك الدمى، وتصنعها بشغف، وقد عايشت التحديات ذاتها، لكنها ركزت على أثر العمل في التشافي من رعب الحرب: "كان لا بد من خلق مساحة تُذكّر الناس بالحياة. أردنا أن نعيد تشكيل الحكايات التي نسجتها الحرب في أذهانهم. نحن نصنع الدمى، لكنها في الحقيقة هي التي تعيد صياغتنا".

رغم العروض المبهجة التي قدمها الفريق، كان البقاء بلا مكان لإعداد تلك العروض من أصعب التحديات التي واجهوها. تقول البورنو: "اضطررنا إلى تنظيم ورشات مكثفة لصناعة الدمى واختيار القصص، وكنا نصنع الشخصيات ونحدد صوت كل منها لتعكس المشاعر التي نرغب في إيصالها".

Omar AL-QATTAA / AFP
أطفال فلسطينيون نازحون يتفاعلون مع عروض ترفيهية في حديقة بلدية غزة خلال فعالية خاصة نظمها فنانون محليون

الفنانة روان إخزيق، مشاركة أخرى في تحريك الدمى، وصناعتها، وتلوينها، تقول: "تحدينا كل مصاعب الحرب، وحاولنا الوصول بأطفالنا الى بر الأمان، كنا نبحث عن خيال جديد للعائلة، يمسح واقع الحرب السيء". مشاعر غير مسبوقة شعر بها أعضاء الفريق، حينما نجحت التجربة "كان التحدي كبيرا، لكن النجاح جاء بطعم حلو، لم نتوقعه"، تقول إخزيق.

أقوى من الحرب

يتحدث مهدي كريرة عن الدمى كأنها أصدقاء يتكلمون بدلا منه: "كل دمية تحمل صوتا داخليا، شيئا ما يجعلها تتواصل مع الجمهور. كنا نرى الطريق المضيء في عيون الأطفال الحالمة، ونعرف أن عملنا ليس عبثيا".

أصبحت تلك الدمى، المصنوعة من الألم والخراب، رسالة مقاومة ناعمة كما يقول كريرة: "نغرس التفاؤل والضحكات في النفوس، ونثبت أن للحياة وجها آخر حتى في حضرة الموت. ما نفعله ليس فقط مسرحا، إنه تعبير عن تمسكنا بالبقاء والكرامة".

AFP
الفلسطيني مهدي كريرة يعمل على دمية مصنوعة من علب الصفيح في ورشته بدير البلح وسط قطاع غزة

مشاعر الماريونيت

كان كريرة يصنع الدمية ويضع لها صوتا يجسد مشاعرها، التي تحاكي مشاعره، ويجسده من خلال الكلمات أيضا. يقول: "حاولت أن أصنع دمية من القطن وعلب البازلاء وخراطيم المياه، وعبّرت من خلالها عن اشتياقي إلى أمي في شمال غزة، والأمل في لقاء وجه غزة من جديد، كان على وجهها ملامح القلق من الحرب".

وترى روان إخزيق أن الفن هو مهنة الوجوه في المقام الأول، ومنها تُستلهم المشاعر. وجمال مسرح الدمى اهتمامه بهذه الجزئية، والتواصل مع الطفل عبر الملامح والحركات. تضيف: "قبل الحرب كنت أتأمل وجوه الناس بشغف، وأنقل مشاعرهم على اللوحات، وفي الحرب مثلت الدمى مشاعر الناس مع النزوح والمعاناة".

من خلال الدمى يخبرنا طفل عن تحطم ألعابه، وأمنيته باقتناء دمية، ونجد طفلا آخر يقترب من أذن الدمية، ويخبرها سرا

رزان البورنو

كان لكل دمية في عروض "خيوط الماريونيت" صوتها الخاص، يعكس مشاعر الأطفال الذين يحضرون العروض وقصصهم. تعلق روان إخزيق على ذلك: "كانت الدمى تتحدث بلغتهم، تحكي عن آلامهم وآمالهم. كنا نرى الضحكات ترتسم على وجوههم، ونعرف أن هذا الصوت البسيط أقوى من ضجيج الحرب".

وتضيف رزان: "اخترنا قصصا قريبة من حياتهم، قصصا تقول إن النهوض ممكن حتى بعد السقوط. أردنا أن تكون الدمى مرآة لما يمكن أن يكونوا عليه، وليس لما فرضته الحرب عليهم".

AFP
مهدي كريرة يعرض إحدى دماه المصنوعة من علب الصفيح في ورشته بدير البلح

تجارب

نسي الأطفال في غزة، مع الدمى، كيف تنهشهم الحرب، وكيف تؤلمهم معداتهم بفعل طعام المعلبات. التفتوا مع دمى "خيوط" إلى جمال العالم والخيال من جديد، ودارت عجلة الفن في داخلهم.

"كان رد فعل أطفال النزوح مبهرا بالنسبة إلي، كانوا يراقبون كيف تتحرك الدمية، وضحكوا معها، غنوا كثيرا وصفقوا"، يقول كريرة. للأطفال لغة سهلة، عصية على الكسر مهما تزايد الرصاص، "طلب أحدهم مني أن أصنع له دمية خاصة، وآخر طلب أن أعطيه إياها لتنام بجانبه في الخيمة، وكثيرون تحدثوا عن ألعابهم المكسرة داخل بيوتهم المقصوفة، شمال غزة".

أما البورنو فتحدثنا عن قيمة مسرح الدمى خلال الحرب، وبين خيام النازحين: "فمن خلال الدمى يخبرنا طفل عن تحطم ألعابه، وأمنيته باقتناء دمية، ونجد طفلا آخر يقترب من أذن الدمية، ويخبرها سرا، ترى ماذا أخبرها عن الحرب؟".

Eyad BABA / AFP
أطفال يسيرون بجوار أنقاض مبنى منهار في مخيم للنازحين في البريج وسط قطاع غزة

تؤكد: "لقد كان عملنا مؤثرا قبل الحرب، لكن خلال الحرب ازدادت أهميته، وأتحدث عن وقت رأى فيه النازحون كل أشكال العذاب، فمهمة الفن في الظروف القاسية عظيمة".

في حين تخبرنا روان إخزيق أنه بواسطة الخيال والفن، يستطيع الإنسان إعادة بناء كل ما تهدم.

القصة الفلسطينية والدمى

تكمن في الدمى خصوصية الوصول والمحاكاة، وإعادة تشغيل الحالة الثقافية الفلسطينية. يخبرنا كريرة: "نحن نؤمن بأن لفن الماريونيت دورا ساحرا في الحفاظ على الموروث الثقافي الفلسطيني، لا يقل أهمية عن دور المنهاج التعليمي، وقد يتفوق عليه أحيانا، للفن طريقة مدهشة في التواصل مع الإنسان".

تعلق إخزيق على ذلك: "حتى لو لم يتكلم الطفل، نحن نبحث عن طريقة لصنع حوار داخلي، يعيد تطبيب آلامه الناجمة من الحرب، لدمى الماريونيت مقدرة عظيمة على محاكاة الطفل وسحبه لخياله".

وتخبرنا البورنو: "الغناء والقصة والحركات في مسرح الدمى، قادرة على جذب الطفل، ومهمتنا من خلال ذلك إطلاع الأطفال على رؤى تصنع هوية ثقافية قادرة على الإكمال".

نبحث عن طريقة لصنع حوار داخلي، يعيد تطبيب آلام الطفل الناجمة من الحرب، لدمى الماريونيت مقدرة عظيمة على محاكاة الطفل وسحبه لخياله

روان إخزيق

رغم التحديات التي مر بها فريق "خيوط الماريونيت"، يخطط أعضاؤه للاستمرار. بعد الحرب، ينوي الفريق أن يوسع عروضه لتشمل المزيد من الأطفال، ليس فقط في المخيمات، بل في أرجاء غزة كافة. والأكثر أن إدارة الفريق تطمح لنقل التجربة إلى الخارج.

يفيدنا كريرة: "سنواصل العمل حتى نستعيد ذاكرتنا الثقافية والفنية. هذه الدمى الصغيرة تعني أننا ما زلنا هنا، نغني ونروي الحكايات ونحلم بغدٍ أفضل"، يقول بلهجة ملأى بالإصرار.

AFP
الفلسطيني مهدي كريرة يعمل على دمية مصنوعة من علب الصفيح في ورشته بدير البلح وسط قطاع غزة

وتتعزز رؤية الفريق نحو المزيد من العمل مع الأطفال، مستقبلا. تقول البورنو: "نبحث عن أثر يدوم في قلوب الناس المجروحة بفعل الحرب، لا أشك للحظة في قدرة الفن على معالجة الجمهور".

"أرى انعكاس دمية الماريونيت في عيون أطفال المخيمات". هكذا تقول روان إخزيق، وهكذا شعرت بأهمية الحفاظ على هذا المزج من الحلم بالمستقبل.

ربما لا تحمل الدمى سلاحا وليست هي التي أوقفت إطلاق النار، لكنها تساهم في ترميم المكسور واستعادة الجمال المدفون تحت الركام. إنها رواية مقاومة، إنما بصوت مختلف، هو صوت الحياة.

font change

مقالات ذات صلة