أحمد عدوية صوت الهامش المدافع عن الحق في السعادة

كانت أغانيه الشعبية تفسيرا للواقع وقراءة مباشرة له

Mohammad Adawya Facebook
Mohammad Adawya Facebook
أحمد عدوية

أحمد عدوية صوت الهامش المدافع عن الحق في السعادة

يحفل تاريخ الغناء المصري بالتجارب التي انحازت إلى الخفة والبهجة واستلهمت روحها من المزاج الشعبي وتعبيراته وحاجاته ولغته، ولكن اسما واحدا نجح في أن يحتل لقب "واهب السعادة" وفق توصيف الكاتب النوبلي نجيب محفوظ وهو أحمد عدوية (1945-2024). اللافت في تعبير محفوظ أنه أطلقه في لحظة كان يعبر فيها عن سلطة ثقافية عامة ومكرسة، فكان صادما ذلك التماهي والإعجاب بتجربة وُصمت بالابتذال والبذاءة، واجتهد الكتاب والمثقفون من اليمين واليسار على وصمها بالتعبير الأقصى عن الانحطاط وفساد الذوق والرداءة الفنية والتعبيرية.

تنقية الغناء

لم تكن السعادة قبل عدوية مشروعا غنائيا، خلافا للخفة والاحتجاج والخروج على التقاليد، فقد سبق غناء العوالم والغناء الخفيف ظهور عدوية بفترة كبيرة تعود إلى بدايات القرن العشرين، ولكن الحالة التي مثّلها وصار عنوانها ومنحته فرادة لا تتقادم تتمثل في تنقية الغناء من كل ما لا ينتمي إلى هذا المفهوم ويدل عليه.

لم يكن عدوية استكمالا وتطويرا لمشاريع سابقة، بل ظهر مباشرة بوصفه مشروعا متكاملا يتميز بأن ما يقوم به وما يغنيه لم يكن نتيجة تخطيط عميق ومسبق، بل انسياقا لغريزة صائبة وحدس استشرافي وانحيازا إلى مزاج الشارع.

من هنا، كان عدوية بمثابة البدائي الذي ينتقم ويعاود الظهور بكل طاقاته التعبيرية الأصلية التي تضم الممنوع وغير المعترف به والمهمش والسفلي في بنية موحدة تمتلك كل عناصر النجاح، من الصوت الشجي والشخصية العفوية والمباشرة وجو الشلة والقعدة الذي نُقل إلى المسرح والسينما والخطاب والحياة العامة.

ذلك كله ولّد راحة في التلقي وفتح مجالا خصبا للحرية في أداء العازفين الذين كانوا مجموعة من أبرز الموسيقيين في تلك الفترة، مثل عازف الكمان عبدو داغر، وعازف الناي سيد أبو شفة وعازف الأكورديون حسن أبو السعود، والترومبيت سامي البابلي، وحسن أنور عازف الإيقاع.

الحالة التي مثّلها عدوية وصار عنوانها تتمثل في تنقية الغناء من كل ما لا ينتمي إلى هذا المفهوم ويدل عليه

يضاف إلى ذلك إطلاق اللغة السجينة في كلام أغاني عادى الرومانسية وتجنب الرطانة الوطنية والقومية والعاطفية ليكون تعبيرا خاما ومباشرا عن التحتي والغريزي، وبشكل آخر الأصلي الذي لم يكن يوما ثابتا كما يقول الخطاب الرسمي، بل كان دائما مجالا للتعددية والخصب والتجريب.

"السح الدح امبو"

الزلزال الذي أحدثه ظهور أغنية "السح الدح امبو" الشهيرة لعدوية عام 1972، طال سلسلة طويلة من المفاهيم والمسلمات التي سادت عالم الثقافة والغناء. بدت الأغنية التي رافقت الأفراح منذ الخمسينات والتي سبق أن قدمت بصيغ مختلفة من قبل شكوكو مع النسخة المختلفة والجديدة التي قدمها عدوية والتوقيت الذي خرجت فيه إلى النور بصوته، حدثا تأسيسيا وزلزاليا وتأريخيا لمرحلة جديدة تحولت فيها إلى مقياس وبدأت فيه مرحلة تحمل اسم عدوية وملامح تجربته.

تناولت مقالات وأبحاث عديدة قصة خروج الأغنية إلى النور على يد الشاعر مأمون الشناوي والمنتج عاطف منتصر، صاحب شركة الأسطوانات الباحث عن استثمارات جديدة. لكن الروايات تكاد تجمع على لقاء المصادفة بالحدس بالتوقيت، فعدوية الذي كان في تلك الفترة يقدم "نمرة" في "كازينو الأندلس" ويغرق في المجهولية خارج جمهور الصالة والمترددين عليها، حظي بفرصة حين كان الشاعر مأمون الشناوي يزور الكازينو برفقة المنتج عاطف منتصر، مالك شركة "صوت الحب".

التقط الشناوي النبرة الخاصة في غناء عدوية ونجح في إقناع المنتج بتقديم الأغنية التي سمعها منه بعد زيارته لمكتبه والتي كانت تبدأ بـ"عمي يا صاحب الجمال ارحمني دانا ليلي طال"، قبل أن يخترق هذا المجال شبه المألوف بـ"السح الدح امبو" المعاد إنتاجها وتوليفها وكتابتها على نحو يغاير النسخ المعروفة منها.

تلقف حدس مأمون الشناوي الشعري النبرة الطازجة في كلام الأغنية وطريقة غنائها.  واجتمعت المصادفة بالحدس والمغامرة الإنتاجية لخلق تجربة أعادت إنتاج الشعبي ووصله باللحظة، في فوضاها وعبثيتها وعناصرها التأسيسية الطالعة من المناطق التحتية في المجتمع التي مُسح خطابها ولغتها وتعبيراتها.

صورة أرشيفية
عبد الحليم حافظ يغني السح الدح امبو مع عدوية

وكان عاطف منتصر قدم في تلك الفترة هاني شاكر بوصفه صوتا جديدا، لكن شاكر كان امتدادا للموجود وثيماته المكرسة، فكان عمليا صوتا جديدا يتماهى مع السائد ويلتصق به وينتمي إليه، بل أثبتت التجربة لاحقا انحيازه إلى السلطات القمعية، كما تقول تجربته في تولي رئاسة نقابة الفنانين، التي تعامل فيها مع مغني المهرجانات بالطريقة نفسها التي تعاملت فيها سلطات تلك المرحلة مع عدوية.

مثّل عدوية الجديد المطلق والحي وكمنت شعبيته العارمة في تطلعات فئة واسعة من الناس التي لم يكف الشائع عن مخاطبتها وحسب بل ذهب إلى حد معاداتها. إذ أن الإمساك السلطوي بمفاتيح الإذاعة والتلفزيون، فرض رقابة صارمة على أنماط التعبير السياسي والثقافي، فولدت أنماط غنائية متماثلة تتطابق محمولاتها على اختلاف الأنواع والأصوات.

الزلزال الذي أحدثه ظهور أغنية "السح الدح امبو" الشهيرة لعدوية عام 1972 طال سلسلة طويلة من المفاهيم والمسلمات التي سادت عالم الثقافة والغناء

كان ذلك الغناء ينتسب إلى مرجعيات ثابتة ومكرسة، وليس أدل على ذلك من الخلاف الذي لا يزال قائما حتى اليوم حول مؤلفي الأغنية، والتي تضم إضافة إلى الاسم الرسمي للشاعر خليل محمد خليل، الملقب بـ"الريس بيرة"، اسم حسين السيد الذي قيل إنه مؤلف موال "عمي يا صاحب الجمال" الذي يقال في مقدمة الأغنية. كما يبرز اسم عازف الكمان الشهير عبدو داغر إلى جانب اسم الشيخ طه، الذي كتب في الإصدار الرسمي للأغنية بوصفه ملحنها كشريك في التلحين.

أغنية "السح الدح امبو" كما قدمها عدوية، تظهر قدرة التجربة على النهل من مرجعيات قلقة ورجراجة وتوليفها في قالب يستجيب للنزوعات الأشد غورا في تركيبة المصريين، والتي لاقتها بعد ذلك الأمزجة العربية الآتية من ثقافات وتجارب مغايرة. هكذا أصبح عدوية أكثر بكثير من مجرد نجم أغنية شعبية، بل صار صاحبها، محيلا التجارب التي تزامنت مع لحظته وتلك التي ظهرت من بعده إلى ظلال لتجربته، لا تقاربها ولا تخترقها انطلاقا من قيمة عامة لم تتيسر لسواه، تكمن في استدعاء السعادة والدفاع عنها.

أحمد عدوية

الغناء الغريزي

الطاقة التي بثها عدوية في فضاء الغناء، استمدت روحها من غريزة حاذقة تستند إلى الشفوية والارتجال في مقابل الكتابية والضبط المحكم الذي حكم آليات إنتاج الأعمال الغنائية في السبعينات، قياسا على الانضباطية المعممة والمفروضة، التي ساهمت في تحويل التعامل مع الغناء إلى ما يشبه العقد المسبق المتفق عليه بين المغني والجمهور، والذي تعيق شروطه المفاجآت وتستنكر الخروج على النص المحكم والمعد سلفا.

وعليه، بات الارتجال ممتنعا وممنوعا، فمرحلة السبعينات التي شهدت انطلاق عدوية هي مرحلة الغناء المرسوم أوركستراليا بدقة وانضباطية، وحيث يستعيد مشهد الفرقة على المسرح بعلاقاته وأشكال إدارته عبر قائد، والغناء الذي يتبع اللحن المرسوم والمساحة الضيقة المعطاة للعازفين، عناصر الالتزام والصرامة والجدية في مواجهة الخفة واللعب.

لم يظهر عدوية بوصفه صاحب خطاب مواز لهذا الخطاب، ولم يتحاور معه محاولا أن يختطّ لنفسه موقعا تحت ظله، بل كان ظهوره الزلزالي بمثابة انفجار أطاح مركزيته وفككها ووضعها في مواجهة عجزها عن التعبير عن أحوال مستجدة تتسم بالعشوائية والفوضى وانعدام التمركز.

التقط عدوية ذلك كله مباشرة على نحو حدسي وغريزي، فما كان يريد التعبير سبق خروجه إلى النور وظل كامنا في بنيته وتركيبته الشخصية ونشأته وأصوله العائلية الشعبية ومصادر السماع والتلقي التي كونت مزاجه.

اجتماع كل هذه العناصر جعل الأغنية التي قدمها تبدو أليفة مألوفة، على الرغم من أنها مثّلت الجديد الكلي والمناقض للسائد، ذلك لأن كل المشاركين في ظهورها وإنتاجها كانوا ينطلقون من معرفة تامة بما يعبرون عنه من أحوال. فهم خبراء في الفوضى وأبناء التسارع وتقلب المراحل والعشوائية، لذا كانت أغنية عدوية النسيج الضام لتجارب تلك الكتلة من الكتاب والشعراء والموسيقيين الآتين من الموقع نفسه، محاولة تعريف الزمن الذي يعيشون فيه وقراءته ومواجهته وتفكيكه عبر الخفة والدفع الدائم في اتجاه السخرية واللهو والعبث.

هكذا أصبح عدوية أكثر بكثير من مجرد نجم أغنية شعبية، بل صار صاحبها، محيلا التجارب التي تزامنت مع لحظته وتلك التي ظهرت من بعده إلى ظلال لتجربته

بكلمات حسن أبو عثمان و"الريس بيرة" ومأمون الشناوي وألحان هاني شنودة ومحمد عصفور، والذين انضمت إليهم لاحقا مجموعة من المكرسين الذين لحقوا بالتجربة، مثل بليغ حمدي وكمال الطويل وسيد مكاوي، خرجت مجموعة أغنيات لاقت نجاحات استثنائية مثل "يا ليل يا باشا" و"كركشنجي" و"بلاش اللون ده معانا" و"زحمة يا دنيا" و"سلام مربع" و"سيب وأنا سيب" و"بنج بنج". كما ظهرت مجموعة من الأفلام السينمائية الضعيفة المحتوى والإخراج، والتي كان حضور عدوية وأغانيه رافعة نجاحها الشعبي والجماهيري مثل أفلام "السلخانة" و"حسن بيه الغلبان" (1982)، و"مملكة الهلوسة"، و"شاطئ الحظ" (1983)، و"ممنوع للطلبة"، و"كله تمام"، و"يا رب ولد" (1984)، وغيرها.

ما يمكن تسميته بالغناء الغريزي ليس سوى توليف كل هذه النزوعات في تركيبة واحدة وصفت بالتفكك والسخافة والابتذال، ولكنها كانت التعبير الأصدق عن الأحوال. فتلقيها العمومي الذي انفجر في مشهد الطوابير التي تنتظر شراء نسخة من أسطوانة "السح الدح امبو"، وفي مشاهد لاحقة كثيرة مع ثورة الكاسيت ومبيعات عدوية المليونية، كرس عدوية نجما فريدا ارتبط حضوره بالسعادة.

اختراع الشعبي

الغناء الشعبي قديم في مصر ويحتوي على ثيمات متنوعة وغزيرة تخرج على الانتظام العام، ويشهد تاريخه اختراقات عديدة لمناطق الأمان الأخلاقية والأعراف الاجتماعية. ولطالما تم التسامح معه أو أعيد تدويره وتفريغه من طاقته وتسييلها في مجالات أخرى تمثل عملية إعادة إنتاج تسحب منه العناصر المتوترة والحساسة وتدرجها في سياقات أخرى تدعم سرديات سلطوية وسلطات اجتماعية مختلفة.

MOHAMMED AL-SEHITI / AFP
أحمد عدوية في منزله في القاهرة

كان الغناء الشعبي حين ظهر عدوية حاضرا بقوة من خلال نجوم مثل محمد رشدي وشفيق جلال ومحمد عبد المطلب وليلى نظمي. وقد نجح رشدي في تكوين ظاهرة لافتة في أغنيته "عدوية"، التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي ولحنها بليغ حمدي، والتي وصلت مبيعاتها إلى نحو نصف مليون نسخة، مشكلة رقما قياسيا.

جذبت تلك التجربة عبد الحليم حافظ، فسرق فريق عمل رشدي الشعري والتلحيني، وقدم أغنيات تتبع النسق نفسه، فخرجت أغنيات مثل "أنا كل ما أقول التوبة" و"على حسب وداد قلبي". تلك الأغنيات وما كان يقدمه شفيق جلال ومحمد عبد المطلب كانت تتبع نسقا ينسجم مع الكلاسيكية ويتجاوب معها، ويعبر عن عناوين تتصل بتجربة فلاحية ريفية مستحدثة تلقاها اليسار وتبناها واحتفت بها الناصرية كعنوان لفكرة الامتزاج بالجماهير والتعبير عنها.

تاليا، جاءت خيارات الكلام والغناء وأشكال الأداء منسجمة مع البنى الأخلاقية والاجتماعية السائدة، ونمت في ظلالها، لذلك لم تشكل اختلافا فارقا عن الغناء العاطفي والرومانسي والوطني السائد، بل اعتبرت تنويعا عليه ينطوي على بعض عناصر الحيوية والحركة التي لم تكن مفتوحة بل ملجومة بحدود الممكن والمسموح وما يجب التعبير عنه والمتصل بعناوين التحفظ والانضباط.

ما يمكن تسميته بالغناء الغريزي ليس سوى توليف كل هذه النزوعات في تركيبة واحدة وصفت بالتفكك والسخافة والابتذال، ولكنها كانت التعبير الأصدق عن الأحوال

اقتحم عدوية الشعبي بأدوات مختلفة تماما. جاء بالكلام من تجارب مجتمع وليد نشأ نتيجة لسياسات الانفتاح التي تبناها الرئيس أنور السادات، الذي حرص على تصفية آثار الناصرية. وعلى تخوم مرحلة كانت تعيش اللحظات الأخيرة لنجوم الطرب المعروفين مثل أم كلثوم وعبد الحليم وفريد الأطرش، وكان فيها الشعبي المعروف فقد قدرته على مخاطبة العالم الجديد الذي نشأ بعد لحظة العبور عام 1973.

ما بعد تلك اللحظة، أطلق عناصر جديدة في الفضاء العام. فبعد محاولة عبد الناصر احتواء المثقفين وتنظيمهم واعتبارهم جزءا من تكوين النظام وأدوات تشتغل لصالحه، عرف عن السادات عدم حبه للمثقفين، لذا يقال إنه اختار عدوية ليغني في عرس ابنته، ووجه الصحافي أنيس منصور للدفاع عنه ليس انطلاقا من وعي وتقدير له ولما يقدمه، بل نكاية بالمثقفين وحسب.

AFP
أحمد عدوية مع حسن الأسمر وحكيم

نجم الهامش

العشوائية التي أطلقتها سياسات الانفتاح والتفسيرات التي تربط نجاح لونه بمرحلة السادات وسواها، لا تبدو كافية، إذ أنه بقي خارج التكريس الرسمي وممنوعا من الغناء في الإذاعة حتى عام 1980، بعد أن كانت تجربته تبلورت واكتملت، بينما نال مكانة لا تضاهى ولا تقارن في الشارع وفي سوق الكاسيت، الذي ظهر في فترة زمنية وأطلق ديمقراطية الإنتاج والتلقي، وسمح بنشوء وترويج أنواع مختلفة من الموسيقى والغناء من دون الخضوع لسلطات الرقابة والإذاعة.

كان عدوية نجم نجوم الهامش، وبقي كذلك من دون أن يؤثر أي شكل من أشكال الاعتراف والتكريس والتبني على هذا الواقع. ولقد نما هذا الهامش وتوسع وامتد ونجح في فرض حضوره.

صورة أرشيفية
أحمد عدوية يؤدي حركته الشهيرة

ما سمح باستمرار التجربة وانتشارها، يمكن رده إلى عوامل معقدة، أهمها أن التسارع الذي وسم الحياة في فترة السبعينات وما تلاها كان أعقد من أن يمسك أيديولوجيا وتنظيريا، فلم يوجد من يلتقطه مباشرة، فكريا وفلسفيا وحتى سياسيا واجتماعيا وفنيا، مما خلق حالة كبرى من الضيق والضياع والتشتت وغياب الأمان والعشوائية العامة التي وسمت كل شيء.

من هنا، بات التفريج والخروج من هذا الواقع حاجة قصوى. ولطالما وصفت تجربة عدوية ونجاحها بأنها مثلت الاستجابة المناسبة لتلك الحاجات التي باتت بمثابة الضرورات الملحة وغير المعترف بها. لكن هذه القراءات، على رصانتها، لا تعطي جوابا حاسما ومقنعا حول نجاح عدوية في احتلال صدارة المشهد الشعبي واستمراره في ذلك على الرغم من الأزمة التي عصفت به في الثمانينات، حيث دسّت له كمية من المخدرات أدخلته في فترة اعتزال طويلة وكادت تقضي تماما عليه.

من التفريج إلى التفسير

واقع الأمر أن عدوية قدم ما يتجاوز التفريج، إذ أن أغانيه كانت تفسيرا للواقع وقراءة مباشرة له، تناقض ما كان يقدم في تلك الفترة من وطنيات ورومانسيات تقارب الابتذال التعبيري في لغتها ومنطقها. وتفسير عدوية كان واضحا وشفافا، ويستجيب كذلك لكل عناصر التفكك وعدم الانتظام ويتبناها ولا يخفيها ولا يتحايل عليها، الى درجة أن الفهم لم يعد مدخلا للعلاقة مع أغانيه، بل الحدس العام والمشترك المبني على تواطؤ مسبق بينه وبين جمهور بقي يتوسع باستمرار.

كانت لغة أغاني عدوية وأسلوب غنائه وأشكال التعبير الموسيقية التي رافقتها تعيد الناس إلى الحدث وتضعهم في قلبه

تبنى الجمهور عدوية بوصفه نجما أوحد، تعادي تركيبته الشخصية وحركته الشهيرة التي يبدو فيها مستعرضا عضلاته أو مستيقظا للتو من النوم، وجو حفلاته وطريقة تعامله مع صناع أعماله من موسيقيين وشعراء، كل صورة النجم السابقة عليه، وترسم ملامح نجم فهلوي وابن شارع وغير منضبط وغير متوقع ولا محدود في خياراته.

في أغنية "كركشنجي" أي الجزار بالعامية المصرية، كان عدوية ابن تاجر المواشي يعرف عما يتكلم. وقد نالت تلك الأغنية، ذات الكلمات الغريبة والبنية المتشظية، نجاحا ساحقا، حتى مع عدم معرفة قسم كبير من الذين كانوا يسمعونها لمعانيها. لم يكن عدم فهم المعاني عائقا أمام التلقي الصاخب والاحتفالي، إذ أنها، على عكس الكلام العاطفي المنتشر، احتوت على عناصر البهجة وبث السعادة، وانطوت كذلك على تفسيرات حسية آيلة الى الالتقاط المباشر تحاكي الفوضى وترقصها و"تشخلعها"، فتصبح قابلة للتفاهم معها واستيعابها واختراقها.

في أغنية مثل "سلامتها أم حسن"، التي اعتبرت كناية عن حال البلاد بعد العبور عام 1973، لم يركن عدوية وكاتب الأغنية حسن أبو عثمان وملحنها فاروق سلامة إلى طرح صيغة انتصارية، بل عمدوا إلى خلق نموذج مواز لخطاب النصر باحتفالية صاخبة، تخلع عنها كل علامات الوقار والانضباط لتدخل في طقس شعبي يخاطب البلاد خارج التقديس والتعظيم وبمحبة صادقة.

أم حسن كانت ذات ملامح واضحة، بينما تلك البلاد الخارجة من النصر إلى جحيم الفوضى، تمجّد بلغة تبعد الناس عن الحدث وتغنى بأسلوب رسمي. كانت لغة أغاني عدوية وأسلوب غنائه وأشكال التعبير الموسيقية التي رافقتها، تعيد الناس إلى الحدث وتضعهم في قلبه، ليس بصفتهم ضحايا، بل شهودا يستطيعون النظر إليه واستيعابه واختراق فوضاه بنوع من الخفة المتماسكة والصلبة التي لطالما مثلت روح تجربة عدوية، والتي كرسته، كما تقول إحدى أغانيه، "سلطان أهل الهوى" المدافع عن الحق في السعادة.

font change

مقالات ذات صلة