استهلاك أشياء أم استهلاك تجارب؟

لم نعد نجري وراء المعلومات بل أصبحت تجري وراءنا

GIUSEPPE CACACE / AFP
GIUSEPPE CACACE / AFP
رجال يسيرون في دبي

استهلاك أشياء أم استهلاك تجارب؟

يكتب ميشال سير: "إذا كنتَ تمتلك خبزا وأنا أمتلك يورو، واستخدمتُ اليورو الخاص بي لشراء خبزك، في نهاية التبادل سأمتلك الخبز وأنتَ ستملك اليورو. يبدو أن هذا توازن مثالي، أليس كذلك؟ في البداية، كان لدى (أ) يورو ولدى (ب) خبز، وبعدها أصبح لدى (أ) الخبز ولدى (ب) اليورو. إنها معاملة عادلة، لكنها مادية بحت.

الآن، تخيل أنك تمتلك قصيدة للشاعر فرلين أو تعرف نظرية فيثاغوراس، بينما أنا لا أعرف شيئا من ذلك. إذا قمتَ بتعليمي هذه الأشياء، في نهاية هذا التبادل سأكون تعلمتُ القصيدة والنظرية، ومع ذلك ستستمر أنت أيضا في امتلاكهما. في هذه الحالة، لا يتعلق الأمر بتوازن فقط، بل بنمو حقيقي. في المثل الأول، أجرينا عملية تجارية، أما في الثاني، فقد تقاسمنا معرفة. في حين أن السلع المادية تُستهلك، فإن الثقافة تنتشر وتنمو بلا حدود".

أنا بمقدار تجاربي

في كتابه "الامتلاك أم الكينونة؟"، الذي حمل في ترجمته العربية عنوان "الانسان بين الجوهر والمظهر"، كان إيريك فروم جعل الامتلاك متعلقا بالأشياء، أما الكينونة فجعلها ترتبط بالتجربة. إذا اعتمدنا تحديده هذا، يمكننا أن نؤكد أننا أصبحنا اليوم نرغب في خوض تجارب أكثر مما نميل إلى امتلاك أشياء. نريد أن "نكون" أكثر مما نميل إلى أن نمتلك. فقدت المقولة القديمة للامتلاك: "أنا بمقدار ما أملك" صلاحيتها، كي تحل محلها المقولة الجديدة للتجربة: "أنا بمقدار ما أعيش من تجارب، وأستهلك من معلومات".

فقدت المقولة القديمة للامتلاك: "أنا بمقدار ما أملك" صلاحيتها، كي تحل محلها المقولة الجديدة للتجربة: "أنا بمقدار ما أعيش من تجارب"

كانت الأشياء التي نمتلكها حاوية المشاعر والذكريات، وكانت الحكايات التي تلتصق بالأشياء، نتيجة استخدامها الطويل، تضفي عليها حياة أبدية، وتحولها إلى أشياء عزيزة على قلوبنا. لذا كنا نجد بعض الصعوبة في الانفصال عن أشيائنا. كنا نخلق معها علاقات وجدانية، وسرعان ما تصبح جزءا من ذكرياتنا، ونقطة مركزية في حياتنا، بل جزءا منا. هذا، رغم أن هذا التعلق بالأشياء والأمكنة كان يقلص فرص إغناء تجاربنا، بل إنه كان يكاد يقيد حريتنا، فيربطنا بمرجعيات ثابتة لا نقوى على تغييرها.

غلاف كتاب "الامتلاك أو الوجود"

تتضح علاقة هذا الارتباط الوجداني عند المولعين بجمع الأشياء واقتنائها. فذاك الذي يتخذ امتلاك السيارات القديمة هواية على سبيل المثل، يشعر أنه ينقذها ويحميها من شراسة السوق، ويحررها من عبودية الاستعمال وقساوة الزمن، كي يجعلها تمتلك قيمتها في ذاتها، أو تستمدها من انتسابها إلى "مجموعة". المقتني، بصفته منقذ الأشياء، ينخرط في مهمة سيزيفية تتمثل في نزع الطابع التجاري عن الأشياء بامتلاكها داخل مجموعة. كأنما يغدو موضوع التملك هنا هو المجموعة وليس سيارة بعينها. السيارة التي يمتلكها هاوي جمع السيارات ليست وسيلة نقل، وإنما هي عنصر ضمن مجموعة، وهي تحفة متفردة تتميز بقدمها الزمني. إنها إحالة الى حكاية سردية، وهي قطعة من تاريخ، وفصل من موسوعة.

فك الارتباط

هذه العلاقة بالأشياء ربما هي في طريقها اليوم الى الخفوت. ذلك أن أشياءنا لم تعد تلك الأشياء الهادئة، التي كان يمكنها، من خلال ارتباط قوي وعاطفي وحميم، أن تنبض حياة لتصبح أشياء قريبة من القلب. حلت محلها السلع الاستهلاكية الحديثة التي هي، كما كتب أحد الاقتصاديين، "سلع مزعجة، محملة أفكارا وعواطف جاهزة تُفرَض على المستهلك، ولا شيء، أو بالكاد، من حياتنا الشخصية يجد طريقه إليها". 

Bettmann / Contributor
إريك فروم

لذلك كله، يبدو أن النقد الذي كان فروم وجهه الى المجتمع الحديث الذي يعتمد أكثر على الامتلاك كمرجع بدلا من الكينونة، فقد اليوم كثيرا من صلاحياته، لأن أشياء عالمنا لم تعد تجذبنا، ولأننا أصبحنا نعيش في مجتمع قائم على التجربة والتواصل. بل إننا، حتى عند استهلاك الأشياء، نتوخى اليوم أن نحصل على تجارب. محتوى الأشياء من المعلومات، مثل صورة العلامة التجارية، أصبح في نظرنا أكثر أهمية من قيمتها الاستعمالية. أنا لا أشتري حذاء، وإنما أستهلك علامة. فنحن ندرك الأشياء، في المقام الأول، من خلال المعلومات المخزنة فيها. عند اقتناء الأشياء واستهلاكها، نشتري علامات، ونخلق رغبات، ونستهلك مشاعر. فأشياؤنا مغلفة بما تشحنه فيها سرديات المجتمع الاستهلاكي من عواطف، وما تخزنه فيها من انفعالات.

عند اقتناء الأشياء واستهلاكها، نشتري علامات، ونخلق رغبات، ونستهلك مشاعر

صحيح أن المحتوى الثقافي والجمالي للسلعة كان دائما جزءا لا يتجزأ من المنظومة الاقتصادية، لكن هذا المحتوى أصبح اليوم هو المقصود الأساس في عملية الاستهلاك. فالمستهلك اليوم يقتني خدمات أكثر مما يقتني سلعا مادية، يستهلك سياحة، ومطاعم، وفضاءات لعب، وأمنا.

لذا، صارت النقطة الحاسمة في خلق القيمة هي إنتاج المعلومات التي تولد التميز، والتي تعِدُ المستهلك بتجارب فريدة، بل بتجربة "المتفرد الذي لا نظير له، والذي لم يُعرَف له مثيل". فلا قيمة اليوم للمنتَج من دون إعلانات تروج له وتجعله موضوع استهلاك، فالإعلانات اليوم هي التي تعطيه قيمته، بل إنها هي المطلب الأساس وبيت القصيد. تقلصت قيمة السلعة وانحلت إلى محتواها الجمالي والثقافي.

مستويات الإعلان

يميز جان بودريار في الإعلان بين مستويين: بين الإعلان كخطاب حول المنتج، خطاب يستعمل الصوت والصورة والكتابة، وبين الإعلان كموضوع استهلاك، كموضوع يستهلك كمنتوج ثقافي. إذا كان المستهلك اليوم يبدي نوعا من المقاومة، أو الانزعاج، إزاء الرسالة الإعلانية في جانبها التحريضي الإشراطي، فإنه أصبح يتشبث أكثر فأكثر بالإعلان كإعلان. ذلك أن مطلبا أساسيا تبلور عند المواطن في المجتمع الاستهلاكي هو أنه أصبح يرى من الضروريات أن "يعتنى برغباته". إنه يرغب في أن يرى رغباته مصنوعة مصورة معروضة. قد لا يؤمن بالمنتج، لكنه يؤمن بالإعلان الذي يريد أن يجعله يؤمن بالمنتج.

Ercin Erturk/Anadolu via Getty Images
مجموعة من الذهب

يشبه بودريار اللعبة هنا بتلك التي يعيشها بعض المرضى النفسانيين الذين يجدون شفاءهم في أدوية لا قيمة ولا مفعول لها من الناحية الكيماوية الصرف. فهؤلاء المرضى لا يشفون نتيجة تناولهم ذلك الدواء بعينه، لا يشفون بفعل المنتج، وإنما لشعورهم بأن هناك من يناولهم الدواء ويعتني بصحتهم، ويسهر على علاجهم. ذلك أيضا هو سر حكاية "بابا نويل": فالأطفال لا يهمهم وجوده الفعلي أم لا، وحتى هذا السؤال لا يعنيهم، ما "يستهلكونه" عبر هذه الحكاية هو دخول الوالدين في اللعبة، والعناية التي يبدونها إزاء أطفالهم من خلالها.

Karim SAHIB / AFP
امرأة تمر بجوار لوحة إعلانية لأزياء نسائية

أصبحت العلامات أكثر أهمية من المادة الملموسة للسلع، وبات المحتوى الجمالي والثقافي للسلعة هما المنتج الفعلي بحد ذاته. وهكذا حل "اقتصاد التجربة" محل "اقتصاد الأشياء". فهذا العالم المنسوج من المعلومات لا تنظمه الملكية القارة الثابتة، وإنما "الإطلالة" L'accès. تحل محل العلاقات مع الأشياء أو الأماكن "إطلالة" مؤقتة على الشبكات والمنصات. 

يكفي أن ننتبه الى ما أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تصنعه بالتواصل البشري، وما تفعله منصات عديدة بضيافة البشر

الاستقرار الذي يتطلبه الامتلاك يتنافى مع "الإطلالة"، وهو يتناسب مع مفهوم "سكوني" عن الهوية. غير أن الحاجة المستمرة إلى التنقل التي يفرضها "اقتصاد التجربة"، أصبحت تُعقد عملية تحديد الهوية بالأشياء والأماكن، وقد نتج من ذلك إضعاف الظاهرة المرتبطة بالهوية من خلال الامتلاك. فبات لها تأثير أقل فأقل في تشكيل هويتنا، وهذا لصالح تيار المعلومات الذي لا يفتأ "ينسج" هوايتنا الهاربة. فلم يعد الفرد هو ما يملكه، ولم نعد نهتم بالامتلاك، ونخضع لـ"أخلاقيات الأشياء" التي تقوم على العمل والملكية، وإنما نعيد إنتاج أنفسنا على وسائل التواصل الاجتماعي.

Richard A. Brooks / AFP
جامع الألعاب القديمة "Proudro" في منزله في كاسوميغاورا، اليابان

اللعب

تستعمل اللغة الفرنسية في هذا المضمار فعل "se produire" الذي يعني تقديم الذات أو تمثيلها، فنحن "نمثل" أنفسنا، نقدم أداء يشخص هويتنا. "نلعب" أكثر من أن نعمل، نجرب ونستمتع أكثر من أن نمتلك. حتى في مرحلتها الثقافية، تُظهر الاقتصاديات المعاصرة سمات تشبه اللعب، اللعب بمعنييه: لعب الأطفال، لكن أيضا اللعب بمعنى التمثيل ولعب الأدوار. 

ما يميز المعلومة هو شيوعها، لذا حتى إن كان في إمكاننا "احتكار" ملكية الأشياء، فإننا لا نستطيع "احتكار" المعلومة والتفرد بالتجربة. هذا ما يجعل رأسمالية المعلومات تغزو كل زاوية من زوايا حياتنا، بل وحتى أعماق أرواحنا، فتخضع المشاعر الإنسانية للحساب الكمي، وتقوم بما تحصده من إعجابات ولايكات. 

تمثل هذه الرأسمالية شكلا أكثر حدة من الرأسمالية الصناعية، فعلى عكس هذه الأخيرة، تحول حتى الأمور غير المادية إلى سلع. صحيح أن فضاء التجارب مفتوح في إمكان الجميع أن يبلغه مثلما في إمكانه "التوصل" إلى المعلومة على الدوام. ولكن الظاهر أننا لم نعد اليوم نجري وراء المعلومات، وربما هي التي أصبحت تجري وراءنا وتتملكنا. أصبحت حياتنا نفسها سلعة، كما صارت العلاقات الإنسانية تُستَغل تجاريا بالكامل. ويكفي أن ننتبه الى ما أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تصنعه بالتواصل البشري، وما تفعله منصات عديدة بضيافة البشر.

font change