اتفاق جنين... هل يوفر دورا للسلطة في غزة؟

السلطة الفلسطينية تعتبر وقف النار في غزة فرصتها للعودة

رويترز
رويترز
عناصر من قوات الامن الفلسطينية اثناء الصدامات مع مسلحين في مخيم جنين في 14 ديسمبر

اتفاق جنين... هل يوفر دورا للسلطة في غزة؟

حيفا- مع التوصل لاتفاق بين "حماس" وإسرائيل على وقف الأعمال الحربية وتصويت الحكومة الإسرائيلية لصالح الاتفاق يوم الجمعة، 17 يناير/كانون الثاني 2025، تم في اليوم نفسه، وبتوقيت رمزي لافت، اتفاق آخر في جنين بين قوات السلطة و"كتيبة مخيم جنين". بعد حوالي شهر ونصف من صدامات ومجابهات عنيفة بين قوات أمن السلطة الفلسطينية و"كتيبة مخيم جنين"- وهي مجموعة فلسطينية غير متناسقة من المقاومة المسلحة التي حظيت بدعم شعبي وتحدت إسرائيل وقامت بالدفاع عن المخيم وعن مدينة جنين في وجه اجتياحات أسبوعية للقوات الإسرائيلية- أعلنت السلطة أنها أحكمت السيطرة نهائيا على المخيم واعتقلت العشرات من عناصر الكتيبة الذين رفضوا أوامر الأمن الفلسطيني بتسليم سلاحهم وتسليم مقاليد الأمور في المخيم إلى أجهزة الأمن الفلسطينية المتعاونة مع الاحتلال في "فرض الاستقرار" في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية.

السلطة الفلسطينية اعتبرت المهمة ضرورية ومصيرية لوجودها ولعملها كقوة مسؤولة عن حفظ النظام والأمن للفلسطينيين، وجوهريا هذا ما تطلبه منها اتفاق أوسلو والترتيبات حيال إسرائيل خلال كل سنوات عمل السلطة (منذ 1994). أتت المواجهات بعد سنوات من المناوشات والصدامات الأمنية التي أدارتها "كتيبة جنين" مع قوات الأمن الإسرائيلية والتي قامت بمحاصرة المخيم ومواجهة المقاومة هناك واستهداف النشطاء وقتل العشرات منهم، إلا أنها فشلت عمليا في بسط سيادة تامة، لتفسح المجال لأجهزة السلطة القيام بذلك، وبسط الهدوء والأمن، بما في ذلك تفكيك الخلايا المقاومة للاحتلال، وهي كانت الأكثر إزعاجا لإسرائيل في الضفة الغربية خلال السنوات السابقة، فما الذي أدى إلى هذا التطور المأساوي في أعين غالبية الفلسطينيين، بحيث تحاصر وتهاجم قوات السلطة الفلسطينية جزءا مهماً من نشطاء المقاومة الفلسطينية مما يسفر عن قتل وجرح العشرات من الجانبين. فكيف وصل الأمر إلى هنا؟

أتى حصار قوات الأمن الفلسطيني لعناصر "كتيبة جنين" في مخيم المدينة في سياقين. الأول تكتيكي، ويشمل ارتفاعا حادا في منسوب خوف قيادات السلطة في رام الله من تصاعد وتيرة النقد لأدائها الداخلي في الشارع الفلسطيني، كما لدورها مقابل إسرائيل عموما والمستوطنين بشكل خاص، وخصوصا فيما يسمى مناطق "ب" و"ج"، مع دخول متواتر إلى مناطق "أ" المصنفة كفلسطينية في سياق التقاسم الوظيفي للمهمات الأمنية مقابل الجهة الإسرائيلية. ازدادت حدة النقد ارتفاعا في الشارع الفلسطيني عموما بعد اندلاع الحرب على غزة وتعمق واتساع حدة المجازر التي تنفذها إسرائيل بحق الغزيين، وعمليا تنازل منظمة التحرير والسلطة في رام الله عن مهمتها الرئيسة في الدفاع عن الفلسطينيين، وخصوصا في غزة.

أ ف ب
دخان يتصاعد من مبنى يحترق في مخيم جنين بعد غارة اسرائيلية في 25 يناير

إلا أن ذلك لم يتوقف عند هذا الحد، وكما هو معروف فإن قوات المستوطنين وبدعم قوي من جانب الجيش قامت خلال السنة الأخيرة بعمليات نوعية ضد الفلسطينيين في الضفة. شملت عمليات المستوطنين والجيش الإسرائيلي إجلاء عدد كبير من الفلسطينيين في مناطق "مسافر يطا" قرب الخليل، وفي القدس وغور الأردن وفي مناطق شمال الضفة الغربية، وأضافت على ذلك حصارا غير مسبوق على المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، ونفذت سلسلة من عمليات الاعتداء وحرق المحاصيل وكروم الزيتون، واستهداف لفلسطينيين مدنيين في بيوتهم وأحيائهم، وكذلك استهداف متواتر لمخيمات طولكرم وقلقيلية ونابلس وجنين وبيت لحم وغيرها، بما في ذلك استعمال الطيران الحربي في حالات معينة لاستهداف من اعتبروا مقاومين نشيطين ضد الاحتلال.

الفلسطيني العادي، ونشطاء العمل الوطني الفلسطيني، وخصوصا في الضفة الغربية وغزة والقدس، يدركون أن وعود عباس لا يساندها أي دليل ولا أي تقدم جدي باتجاه الحصول على دولة

باختصار، تفاقم النقد ومعارضة خطوات السلطة على ضوء ارتفاع جدي في استهداف الفلسطينيين في الضفة وخصوصا في ظل استمرار الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة.
السياق الثاني هو السياق الاستراتيجي، وهو ذلك المعني بقناعة فلسطينية متعمقة تدريجيا بأن خيار السلام مع إسرائيل لم يعد صالحا، ولن يوصل الفلسطينيين لتحقيق حلم الدولة المستقلة، وبذلك فإن تحرك نشطاء وخلايا شبابية تتبع لفصائل مختلفة ضد أهداف إسرائيلية، لا يأتي فقط في سياق الحرب على غزة ولا يتعلق بالانتقام للغزيين بسبب الاستهداف الإسرائيلي، بل إن عوامل النشاط العسكري ضد أهداف إسرائيلية والقيام بعمليات ضد أهداف إسرائيلية في الضفة الغربية كانت في حالة ارتفاع قبل اندلاع الأعمال الحربية في غزة، وعمليا تكاثفت مع ارتفاع جدي في الإدراك الشعبي والرسمي لدى الفلسطينيين، إن إسرائيل أغلقت الباب نهائيا على الحل السلمي، وإنها تتطلع إلى جعل الفلسطينيين رعايا دائمين، مع فتح المجال لوجود سلطة فلسطينية محدودة القوة ومرتبطة بإسرائيل واستعدادها المحدود للتعاون مع السلطة لأجل حفظ الأمن للإسرائيليين، وبغير نية للتقدم في أي مسار سلمي جدي. وقد أعلن نتنياهو ذلك جهارا وفي عدة مناسبات، كما قام بتأكيد ذلك في الخطوط العامة لعمل حكوماته المتعاقبة منذ عام 2009.
القيادة الفلسطينية وعدت الفلسطينيين بدولة واستقلال وقالت ذلك جهارا في كل مناسبة منذ الإعلان عن محادثات السلام في أوسلو في صيف عام 1993. وقد وقع الرئيس الحالي، محمود عباس، بوجود ياسر عرفات ونيابة عن عموم الفلسطينيين، على "إعلان المبادئ" في سبتمبر/أيلول 1993 في حديقة البيت الأبيض، واستمر بعد توليه لرئاسة السلطة واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بعد وفاة عرفات عام 2004، وفي كل مناسبة، في تقديم الوعود بأن الدولة الفلسطينية قادمة لا محالة وأنها ستتجسد قريبا. إلا أن الفلسطيني العادي، ونشطاء العمل الوطني الفلسطيني، وخصوصا في الضفة الغربية وغزة والقدس، يدركون أن وعود عباس لا يساندها أي دليل ولا أي تقدم جدي باتجاه الحصول على دولة، وعمليا يدرك هؤلاء أن عباس وقيادات السلطة يعدون بالدولة من غير أي وسيلة جدية لتحقيق ذلك، وأن همهم أضحى بالأساس يتمثل في الحفاظ على سلطتهم.

ما حدث في مخيم جنين له أسباب وعوامل تكتيكية ترتبط بأداء السلطة خلال كل سنوات قيامها، داخليا مع الفلسطينيين وخارجيا مقابل إسرائيل

أتى التصعيد الأخير في مخيم جنين في ظل تقدم النقاش حول مستقبل قطاع غزة، التي طردت منها قيادات ومؤسسات وقوات الأمن التابعة لسلطة رام الله عام 2007، ومؤخرا بدأت تطفو على السطح فكرة عودة السلطة الفلسطينية بقيادة عباس إلى أخذ مهامها. وقد أعربت قيادات في السلطة وفي مناسبات عدة منذ بدء الحرب الإسرائيلية ضد غزة (أكتوبر/تشرين الأول 2023) عن استعدادها للتدخل بشكل مباشر، وبدعم عربي غير مباشر، لأخذ دور في إعادة الهدوء إلى غزة والاضطلاع بدور في إدخال المساعدات وجهود إعادة الإعمار. ومن الممكن التفكير في أن السلطة تعتبر نتائج الحرب المأساوية في غزة فرصة لإعادة الدخول إلى غزة وتوحيد جناحي الوطن، الضفة وغزة، تحت سيطرتها، وقد أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس غداة اتفاق وقف العمليات الحربية بين إسرائيل و"حماس" (السبت 18 يناير/كانون الثاني 2025) بأن السلطة مستعدة لاستلام مهماتها في إدارة قطاع غزة. وعمليا سبقت ذلك مبادرات فلسطينية شعبية ولمثقفين ولنشطاء لتصب في الاتجاه نفسه من خلال طرح فكرة إقامة حكومة وحدة فلسطينية من تكنوقراط ومدعومة من الفصائل الرئيسة وعلى رأسها "حماس" و"فتح"، لكي تشكل الحكومة أداة ضغط فعالة على إسرائيل وحلفائها لأجل التقدم باتجاه وقف إطلاق النار والبدء في عمليات تقييم لنتائجها وسبل معالجتها بشراكة فلسطينية جدية.
ليس خافيا أن نتنياهو رفض ذلك مرارا وصمم على السيطرة العسكرية والأمنية الكاملة في غزة لأجل بدء التفكير في تسويات ما بعد الحرب، إلا أن ضغوطا دولية وإقليمية وإسرائيلية أتت لتقول لنتنياهو إن مهمة السيطرة الكاملة غير ممكنة وهنالك ضرورة لجهة فلسطينية وازنة لتكون شريكة في فرض الأمن والاستقرار والبدء في مشوار إعادة الترميم والبناء ومعالجة آثار الحرب على الغزيين، المصابين والمشردين والممنوعين من العلاج ومن العودة. وقد أثبتت أصوات جدية قادمة من غزة أنها كذلك معنية جدا بوقف إطلاق النار والبدء في طريق الترميم الإنساني والعمراني. والسلطة الفلسطينية تعتبر ذلك فرصتها، وبذلك فمن الضروري فهم خطواتها ومواجهتها في مخيم جنين وفي مخيم نور شمس في طولكرم ومناطق أخرى، في سبيل إثبات قدرتها الأمنية على فرض إرادة الاستقرار والأمن، بما يشمل فكرة أن تعود للتحكم في غزة وأهلها وأخذ دور في التهدئة أولا، وفي إعادة الإعمار والترميم ثانيا.

رويترز
فلسطينيون يتفقدون حطام سيارة استهدفها الجيش الاسرائيلي قرب جنين في 24 يناير

باختصار، فإن السلطة الوطنية قامت بتنفيذ عمليتها في مخيم جنين لإثبات حيوية المسار السلمي الذي قد يوصلها لإعادة الوحدة بين غزة والضفة تحت قيادتها أولا، ومن ثم التجهيز لوضع ترتيبات قد تثبت من خلالها أهليتها لقيادة الفلسطينيين من خلال عملية سياسية تفضي إلى دولة فلسطينية. طبعا هذا يتجاهل قيام إسرائيل بإلغاء فكرة الدولتين والسلام من خلال تقسيم فلسطين لدولتين، وأعلنت جهارا أنه لا مكان لمثل هذه التسوية، على الأقل في ظل وجود اليمين بالسلطة، كما أنها تتكئ في ذلك إلى دعم أميركي قد يصبح أكثر فعالية مع رجوع دونالد ترمب لكرسي الرئاسة في الولايات المتحدة. 
عمليا، فإن إسرائيل التي كلفت الفلسطينيين، وخصوصا في غزة، أثمانا مهولة خلال الحرب على غزة، وعمليا كلفتهم أثمانا تفوق الطاقة البشرية بكثير، وبالتالي أضعفت الكفاح المسلح إلى أبعد الحدود، هي نفسها التي ألغت إمكانية الدولتين. الجهود الفلسطينية والعربية في سبيل تسوية معقولة مهمة وقد تشكل حالة ضغط على إسرائيل، إلا أن وصول إسرائيل إلى حالة الاستعداد لتسوية هي شبه مستحيلة، على الأقل في ظل الوضع السياسي الحالي في إسرائيل، وقد تكون أهم مهمات الفلسطينيين في المرحلة القادمة أولا تفعيل دور أكبر للدول العربية، والسعودية على رأسها، وثانيا إنجاز دعم أوروبي ودولي أكبر لفكرة الدولتين، ومن ثم الابتهال لتغيير في موقف الرئيس الأميركي، وهو غير متوقع كما هو معروف.
باختصار، فإن ما حدث في مخيم جنين له أسباب وعوامل تكتيكية ترتبط بأداء السلطة خلال كل سنوات قيامها، داخليا مع الفلسطينيين وخارجيا مقابل إسرائيل، كما أنها مسألة مرتبطة بوضع استراتيجي ينبع من عاملين: الأول الانقسام الفلسطيني وإعادة السيطرة على غزة من جهة، وفكرة الدولة والوصول إلى تسوية من جهة أخرى. والعاملان تفاقما خلال السنوات ولا يوجد دليل مادي واضح يدلل على وجود إمكانية جدية للخروج فلسطينيا، على الأقل على مستوى الضفة والقطاع، من المأزق الحالي. 

الصراع الداخلي بين الفلسطينيين كان تاريخيا وهو الآن نتيجة لتفاقم الخيارات المستقبلية ولتفاقمها، وبالتالي إلى نزوع مجموعات مختلفة إلى إثبات جدارتها وأهمية فكرتها، بما في ذلك في حالات أدت إلى صدامات داخلية. ويأتي الصدام في مخيم جنين كذلك كوجه آخر للصراع مع إسرائيل، فعمليا السلطة الوطنية، في سبيل إثبات جدارتها للإسرائيليين وربما لغيرهم، قامت وتقوم بتجاهل وضع القطاع أولا، وتجاهل ضربات المستوطنين والجيش للفلسطينيين في الضفة، والانقضاض على عوامل مقاومة تقض مضاجع الإسرائيليين في الضفة، وخصوصا في مخيم جنين، وكل ذلك في سبيل إثبات أهليتها لقيادة مشروع سياسي يبدو الآن كسراب وغير قابل للإعادة كمشروع سياسي مستقبلي.

الوضع في مخيم جنين هو عينة تشير إلى حالة التشظي والضعف الفلسطيني، وعدم قدرة السلطة خلال سنوات طويلة على إثبات قدرتها على الحفاظ على وحدة الفلسطينيين وتثبيتهم أكثر وإدارة صراع مجدٍ مع إسرائيل. بهذا تصل إلى محاولة إثبات قدرتها للإسرائيليين على أمل أن يشكل ذلك مدخلا لضغط متجدد باتجاه تسوية منطقية، تبدو الآن غير ممكنة. فبدل أن تقوم بتقوية المجتمع الفلسطيني وتعضيد صموده، قامت بإضعافه وتفتيته، وقادت خطواتها المتوازية لخطوات قامت بها "حماس"، إلى إضعاف الوجود الفلسطيني ومركبات الصمود. وعمليا تركت السلطة عارية وغريبة عن الحاضنة الشعبية مقابل تغول إسرائيلي يثبت يوميا أنه معني فقط بمصالح إسرائيل حسبما يراه التكتل اليميني الحاكم.

كل ذلك يتطلب تغييرا فلسطينيا عميقا وجديا، يتطلع من خلاله الفلسطينيون إلى إعادة الاعتبار لعملهم ونشاطهم كجماعة وطنية، تستطيع بدعم عربي ودولي أن توصل الفلسطينيين إلى محطة متقدمة في طريق تحررهم الوطني، وذلك لم يجر حتى الآن، وليس هنالك دلالات جدية على أن القيادات الفلسطينية الحالية بكل فصائلها تقصد ذلك جديا، وهو ما يستدعي التفكير والعمل الوطني لإعادة الاعتبار للشعب الفلسطيني من خلال تغيير جدي في المؤسسة السياسية المتحكمة به. عدا ذلك يبقى الرهان على إسرائيل وطيب خاطرها سيدا للموقف، بغير أي ضمان، أو بالأحرى في ظل سياسات قد تفضى إلى إقصاء الفلسطينيين من التاريخ كفاعل وطني جماعي، له امتداد عربي وإسلامي ودعم شعبي في العالم.

font change