نجم دافوس يخفت أمام "تسونامي" ترمب الاقتصادي

تهديد بحروب تجارية وإطلاق العنان لصناعة النفط والذكاء الاصطناعي والـ"كريبتو"

رويترز
رويترز
النسخة 54 من المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، سويسرا، 19 يناير 2025

نجم دافوس يخفت أمام "تسونامي" ترمب الاقتصادي

خطف الرئيس الأميركي دونالد ترمب أضواء المنتدى الاقتصادي العالمي، التجمع السنوي لقادة السياسة والأعمال في العالم، في منتجع دافوس الشتوي السويسري، وطغت الكلمة التي ألقاها عن بعد، على شعار "التعاون من أجل العصر الذكي"، وشكلت هواجس قرارته، الحدث الأبرز في أعمال المنتدى.

وشرح ترمب رؤيته الاقتصادية والجيوسياسية بما أصبح يُعرف بـ"ترامبونوميكس 2.0"، التي يهدف من خلالها تعزيز الصناعة الأميركية والحفاظ على التفوق التكنولوجي لبلاده في ظل منافسة قوية، خصوصا من الصين.

أبرز ما جاء في الكلمة التي وجهها ترمب عبر الفيديو من واشنطن إصراره على استغلال الثروة النفطية من أجل تعزيز القدرة التنافسية للصناعة الأميركية، قائلا إن "الولايات المتحدة لديها أكبر كمية من النفط والغاز مقارنة بأي بلد على وجه الأرض، وسنستخدمها! لن يؤدي ذلك إلى خفض تكلفة جميع السلع والخدمات فحسب، بل سيجعل الولايات المتحدة قوة عظمى تصنيعية وعاصمة عالمية للذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة".

جنرالات ترمب عمالقة التكنولوجيا، أي رؤساء "تسلا" و"ميتا" و"أمازون" و"غوغل" لم يتوجه أي منهم إلى دافوس هذه السنة، واختاروا حضور حفل تنصيب الرئيس في واشنطن في 20 يناير

وأضاف متوجها إلى الدول المصدرة للولايات المتحدة، بأنه "إذا لم تصنعوا منتجاتكم في أميركا، وهو من صلاحياتكم، فسيتعين عليكم ببساطة دفع تعرفة، مبالغ مختلفة، وهذه التعرفة من شأنها أن تعيد توجيه مئات المليارات من الدولارات وحتى تريليونات الدولارات إلى خزانتنا لدعم اقتصادنا وسداد الديون".

ماسك وزوكربيرغ وبيزوس جنرالات ترمب

شبَه لويد بلانكفاين، الرئيس التنفيذي السابق لـ"غولدمان ساكس"، عودة ترمب إلى المسرح العالمي، بعد ولاية أولى امتدت من 2017 إلى 2021، بعودة الإمبراطور الفرنسي نابوليون بعد عام من المنفى في جزيرة إيطالية، عام 1815.

.أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يلقي كلمة عبر الفيديو، خلال فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي، في سويسرا 23 يناير 2025

قال بلانكفاين، الذي كان يلقَّب بملك "وول ستريت" نظرا لطول فترة إدارته لأحد أعرق مصارف الاستثمار، في مقابلة مع قناة "بلومبيرغ نيوز"، "أستذكر ما حدث عندما هرب نابليون من إلبا".   

وإذا استقرت المقارنة مع نابليون، فسيكون جنرالات ترمب عمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة، أي رؤساء "تسلا"، إيلون ماسك، وهو يتصدر قائمة الأغنى في العالم، و"ميتا"، مارك زوكربيرغ، و"أمازون"، جيف بيزوس، و"غوغل"، سوندار بيتشاي. لم يتوجه أي منهم إلى دافوس هذا العام، واختاروا حضور حفل تنصيب الرئيس في واشنطن في 20 يناير/كانون الثاني عوضا من ذلك. 

يشكل اندفاع ترمب نحو التوسع في إنتاج النفط والغاز تناقضا صارخا مع الجهود العالمية لاحتواء انبعاثات الكربون المسؤولة عن ظاهرة الاحتباس الحراري، وهو موضوع كان في صميم خطاب غوتيريش

وكانت أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي قد بدأت بالتزامن مع موعد تنصيب ترمب واختتمت في 24 يناير/كانون الثاني، اليوم الذي تلا خطابه. وبين هذا وذاك، أعلن ترمب مجموعة من القرارات، من بينها الانسحاب من منظمة الصحة العالمية ومن اتفاقية باريس للمناخ وإلغاء توجيه لإدارة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن يلزم منصات التواصل الاجتماعي التحقق من محتوى المنشورات لغرض تفنيد الأخبار المضللة.

"هل مات دافوس؟"

يشكل اندفاع ترمب نحو التوسع في إنتاج النفط والغاز تناقضا صارخا مع الجهود العالمية لاحتواء انبعاثات الكربون المسؤولة عن ظاهرة الاحتباس الحراري، وهو موضوع كان في صميم خطاب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في حين كان هذا الأمر يشكل إحدى أهم المسائل المطروحة بانتظام أمام المنتدى. 

وقال غوتيريش في كلمته للحضور "لقد سجلنا للتو العام الأكثر سخونة والعقد الأكثر سخونة في التاريخ. ومن المرجح أن يكون عام 2024 هو العام الأول الذي تتجاوز فيه الحرارة 1,5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية".

ودفعت مجريات المنتدى وضعف الحضور العالمي مقارنة بالسنوات السابقة بمحرر الرأي في وكالة "رويترز"، بيتر ثال لارسن، إلى التساؤل "هل مات دافوس؟"، إذ ارتبط اسم المؤتمر تاريخيا بتحرير التجارة والتعاون الدولي في قضايا مثل الاحتباس الحراري والأمن الغذائي وحل النزاعات.

"يجب ألا ننسى أن ليس هناك محيط يفصل الدول الأوروبية عن روسيا"، على عكس أميركا، "على القادة الأوروبيين أن يتذكروا ذلك"

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي

العناوين الكبرى لأخبار الاقتصاد والأعمال أتت في بداية هذه السنة من واشنطن، وليس "دافوس" كما كانت الحال في الأعوام المنصرمة، في مقدمها، إعلان إدارة ترمب أن استثمارا بقيمة 100 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي، بالشراكة بين "أوبن أيه. آي." و"أوراكل" و"سوفت بنك"، من المرجح أن تصل قيمته إلى 500 مليار دولار.

.أ.ف.ب
الجناح السعودي في المنتدى الاقتصادي العالمي دافوس، في سويسرا، 24 يناير 2025

كما أبلغ ولي العهد السعودي، رئيس مجلس الوزراء، الأمير محمد بن سلمان الرئيس ترمب في اتصال هاتفي، بأن المملكة مستعدة للتوسع في الاستثمارات والتجارة مع الولايات المتحدة في السنوات الأربع المقبلة بمقدار 600 مليار دولار. 

إنهاء الحرب في أوكرانيا

أضاف ترمب "سأطلب أيضا من المملكة العربية السعودية ومنظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" خفض سعر النفط"، معتبرا أن "انخفاض السعر سينهي الحرب الروسية الأوكرانية على الفور، فالسعر الحالي مرتفع بما يكفي لاستمرار تلك الحرب".

وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تخوف في كلمته من أن الولايات المتحدة قد لا تقدم الدعم المطلوب لمواصلة القتال ضد روسيا، داعيا أوروبا إلى تعزيز صناعاتها الدفاعية والتكنولوجية. وتساءل زيلينسكي "هل سيأخذ الرئيس ترمب أوروبا في الاعتبار؟ هل يرى الـ'ناتو' ضروريا؟ وهل سيحترم مؤسسات الاتحاد الأوروبي؟ يجب ألا ننسى أن ليس هناك محيط يفصل الدول الأوروبية عن روسيا"، على عكس أميركا، "على القادة الأوروبيين أن يتذكروا ذلك – هناك معارك يشارك فيها جنود كوريون شماليون (يقاتلون إلى جانب روسيا) تجري الآن في أماكن أقرب جغرافيا إلى دافوس منها إلى بيونغ يانغ".

ترمب يدرك حقيقة دور الولايات المتحدة في العالم، وبالتالي فإن سياسته التجارية هي جزء من استراتيجيته الجيوسياسية

الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلاي

وكان من الممكن أن يتحول المنتدى هذا العام إلى حدث أوروبي-أفريقي-شرق أوسطي، لولا الحضور المتميز للرئيس الأرجنتيني، وصديق ترمب السياسي، خافيير ميلاي.

القراءة الأرجنتينية

في مقابلة مع "بلومبيرغ نيوز" في دافوس، قال ميلاي "بالتأكيد، على العالم الاحتفال بوصول الرئيس ترمب إذ إن العصر الذهبي التي يبشر به للولايات المتحدة سيشع بنوره في العالم بأسره".

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يلقي خطابا خلال حدث لعملة البتكوين، في ولاية تينيسي، 27 يوليو 2024

وأضاف تعليقا على نيات الرئيس الأميركي رفع التعريفات الجمركية، "هو (ترمب) ليس حمائيا، لكنه يدرك حقيقة دور الولايات المتحدة في العالم، وبالتالي فإن سياسته التجارية هي جزء من استراتيجيته الجيوسياسية، إنها أداة جيوسياسية".

ميلاي، الذي يشارك ترمب نزعته اليمينية المتشددة المؤيدة للاقتصاد الحر، قدم إلى دافوس بعد حضور حفل تنصيب الرئيس الأميركي، مدعوما بالنتائج الجيدة التي حققها اقتصاد بلاده منذ انتخابه رئيسا في أواخر عام 2023 ومنذ مشاركته اللافتة في المنتدى العام المنصرم، عندما حذَر بأن "العالم الغربي في خطر" الانتقال إلى النظام الاشتراكي.

"أولى أولويتنا ستكون الانخراط مبكرا" مع إدارة ترمب، "ومناقشة المصالح المشتركة والاستعداد للتفاوض"

أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية

عمد ميلاي إلى خفض قيمة البيزو وخفض الموازنة الحكومية بشكل كبير، مما أدى الى انخفاض معدل التضخم في الأرجنتين إلى أقل من 3 في المئة، من أكثر من 20 في المئة قبل عام، كما سجلت الحكومة أول فائض سنوي في موازنتها منذ عام 2009.

النزاعات التجارية الأميركية-الأوروبية

حظيت أوروبا بالحضور الأبرز في نسخة هذا العام من المنتدى الذي جمع 3 آلاف مشارك من 130 دولة، بينهم 50 رئيس دولة أو حكومة أو كبار المسؤولين الحكوميين. وأشارت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في خطابها إلى التعقيدات التجارية المحتملة مع الولايات المتحدة في عهد ترمب، وقدمت تقييما قاتما في خصوص المنافسة العالمية على السلع والتكنولوجيا.  

وقالت "أولى أولويتنا ستكون الانخراط مبكرا" مع إدارة ترمب، "ومناقشة المصالح المشتركة والاستعداد للتفاوض"، وأعطت مثلا عن مراعاة المجموعة للوضع الجديد وهو زيادة وارداتها من الغاز الطبيعي الأميركي، وهو شرط كان قد تقدم به ترمب لتجنيب الاتحاد تعريفات جمركية الجديدة.

وأضافت فون دير لاين في تقييمها للوضع العالمي: "لقد دخلنا حقبة جديدة من المنافسة الجيوستراتيجية القاسية، تتنافس فيها الاقتصادات الكبرى في العالم للاستحواذ على المواد الخام والتقنيات الجديدة وطرق التجارة العالمية".

الحروب التجارية لا تنتهي بفائزين، كما أن العولمة الاقتصادية ليست لعبة أنت تخسر، وأنا أفوزمحصلتها صفر، بل هي مسار مفيد للعالم أجمع، حيث يمكن للجميع الاستفادة والفوز معا

نائب رئيس مجلس الدولة الصيني دينغ شويشيان

لم يحضر الرئيس الصيني شي جين بينغ ولا ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، زعيما أكثر دول العالم اكتظاظا بالسكان، إلى دافوس هذا العام. حيث تمثلت الصين بنائب رئيس مجلس الدولة الصيني دينغ شويشيان الذي أكد في خطابه أن "الحروب التجارية لا تنتهي بفائزين" وأن "العولمة الاقتصادية ليست لعبة 'أنت تخسر، أنا أفوز' محصلتها صفر، بل هي مسار مفيد للعالم أجمع، حيث يمكن للجميع الاستفادة والفوز معا".

وقال نيكولاس فوتيادس، المصرفي الاستثماري المقيم في بيروت، إن أجندة ترمب تهدف إلى تعزيز التفوق الاقتصادي والتكنولوجي الأميركي، وبشكل أساس ضد الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.

.أ.ف.ب
رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد (الى اليمين)، والمديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا، خلال جلسات المنتدى الاقتصادي العالمي دافوس، في سويسرا 24 يناير 2025

وأضاف: "يريد ترمب إعطاء الأولوية للاقتصاد الأميركي، وتعزيز الانتاج الأميركي وتجاوز الصين"، مشيرا إلى أن أوروبا أقل تهديدا "لأن لديها الكثير من الضرائب، والكثير من اللوائح التنظيمية التي تقيد تطور الشركات، بما في ذلك الشركات الناشئة والذكاء الاصطناعي".

سوريا الجديدة في دافوس

ركز الحضور العربي على جذب الاستثمارات والمشاريع إلى المنطقة، حيث كان للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر أجنحتها الخاصة في دافوس. وسلط "البيت السعودي" الضوء على رؤية 2030 التي يستهدف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من خلالها تنويع اقتصاد المملكة بعيدا عن النفط. وأقيمت في الجناح زوايا مخصصة للمشاريع العملاقة الجاري تنفيذها لتطوير البنية التحتية والسياحة والتصنيع والنقل والتكنولوجيا.

كما شهد المنتدى الاقتصادي العالمي هذه السنة لحظة عربية خاصة، بمشاركة سوريا في المنتدى للمرة الأولى بتمثيل من وزير خارجية الإدارة السورية الجديدة أسعد الشيباني

كما شهد المنتدى الاقتصادي العالمي هذا العام لحظة عربية خاصة، بجلسة شارك فيها أسعد الشيباني، وزير خارجية الإدارة السورية الجديدة التي أطاحت بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر، ووضعت حدا لحرب أهلية استمرت 14 عاما دمرت خلالها البلاد، وأدت إلى فرض عقوبات أوروبية وأميركية على النظام السابق.

.أ.ف.ب
من اليمين، وزير الاقتصاد والتخطيط فيصل إبراهيم، والرئيس التنفيذي لشركة "بلاك روك" لاري فينك، والمديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا، والرئيس السنغافوري ثارمان شانموجاراتنام، في منتدى دافوس، في سويسرا، 24 يناير 2025

وقال الشيباني في جلسة أدارها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير إن "رفع العقوبات الاقتصادية أمر أساس لاستقرار سوريا"، داعيا إلى الاستثمار في قطاعات واعدة كالسياحة والصناعة.

بشكل عام، هيمن الرئيس ترمب على جدول أعمال دافوس، وتصريحاته المتعددة في شأن التعريفات الجمركية والدولار وأسعار الفائدة إلى جانب خطابه عن بعد ما أعطى فكرة عما هو قادم"، كما قال هاري تشيلينغريان، رئيس قسم البحوث في مجموعة "أونيكس كابيتال"، وهي مؤسسة متخصصة بتجارة السلع في لندن. "جعل ذلك لمؤتمر 'دافوس' دورا ثانويا".

font change