الملف الأكثر تعقيدا في سوريا الجديدة، وهو مستقبل العلاقة بين "هيئة تحرير الشام" بقيادة أحمد الشرع و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) بزعامة مظلوم عبدي، فيه اعتبارات عسكرية وعرقية وأيديولوجية وسياقات إقليمية ودولية جيوساسية. ويجوز القول، إن خاتمة هذا الملف، والمفاوضات مع التهديدات، أحد الأمور الأساسية التي ستحدد مستقبل ما بعد الأسد.
ومنذ سقوط بشار الأسد، باتت سوريا مقسمة إلى منطقتين: واحدة تشكل القسم الأكبر وتحت سيطرة الإدارة الجديدة بقيادة الشرع وتضم فصائل موالية أو في طريقها إلى الانضمام إلى الجيش السوري الجديد أو التعاون معه. والثانية تمتد في حوالي ربع مساحة سوريا، وتحت سيطرة "قسد" وعبدي، وتضم إدارة ذاتية وهيكلية إدارية ومعظم الثروات السورية من نفط وغاز وحبوب ومياه، ولها حدود مع تركيا والعراق وكردستان العراق.
ونظرا لحساسية الموضوع، عقد اجتماع سري بين الشرع وعبدي، بات أمره معروفا حاليا. هذه اللقاء الذي جرى في دمشق كشف حجم الفجوة بين الطرفين:
دمشق الجديدة، تريد من "قسد" حل نفسها وضم مقاتليها الذين يبلغ عددهم نحو 70 ألفا كأفراد في الجيش السوري الجديد وطرد عشرات القياديين من "حزب العمال الكردستاني" غير السوريين وتسليم الأتراك منهم إلى أنقرة، وحل الإدارة الذاتية مع الاستعداد لقبول لامركزية وحقوق كردية، وإعادة الثروات الاستراتيجية إلى دمشق، وتسليمها الحدود السورية مع تركيا والعراق والعلاقة مع التحالف الدولي بقيادة أميركا والسيطرة على سجون ومخيمات تضم "دواعش" وعائلاتهم.
وفد القامشلي قدم مواقف مقابلة، تتضمن الحفاظ على "قسد" ككتلة عسكرية في الجيش الجديد وهيكلية الإدارة الذاتية، وأن يخدم العسكريون في مناطقهم شمال شرقي البلاد، إضافة إلى الحفاظ على حصة ثابتة من الثروات الاستراتيجية والسيطرة العسكرية على الحدود، ومشاركة كردية في اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار ومكتب رئيس الوزراء ومؤسسات وزارة الخارجية ونص واضح في الدستور عن حقوق الأكراد.
ووافق عبدي على بعض الخطوات لبناء الثقة، مثل رفع العلم السوري الجديد وتسليم دمشق المعابر الحدودية المدنية واستعادة السيطرة على "مربعات أمنية" كان النظام يسيطر عليها في القامشلي والحسكة.
كثير من الوسطاء والمطلعين على فحوى المفاوضات، يتحدثون عن تشدد موقف "قسد" بعدما كان مرناً قبل أسابيع، ربما لتفاؤلهم بعد سماع تصريحات من مسؤولين في إدارة ترمب
الأمر المبشر، اتفق الطرفان على عقد جولة إضافية وتشكيل لجان تفاوضية بينهما وراح وسطاء غربيون يتجولون سرا بين دمشق والقامشلي. لكن سرعان ما حصلت بعض التطورات التي ساهمت في إضافة جوانب إضافية على الطاولة التفاوضية:
أولا، الزعيم الكردي مسعود بارزاني استقبل- بعد تنسيق مع تركيا- عبدي في أربيل، لحضه على توحيد القوى الكردية في سوريا والتفاوض كمكوّن سوري وليس كامتداد لـ"حزب العمال الكردستاني".
ثانيا، تقدم المفاوضات بين أنقرة وزعيم "حزب العمال الكردستاني" عبدالله أوجلان واحتمال إعلانه مبادرة كردية -تركية في ذكرى اعتقاله يوم 15 فبراير/شباط وإيداعه السجن قبل حوالى ربع قرن.
ثالثا، إعلان وزير الخارجية الأميركي الجديد ماركو روبيو أن إدارة دونالد ترمب ستدعم أكراد سوريا وتقف معهم.
كثير من الوسطاء والمطلعين على فحوى المفاوضات، يتحدثون عن تشدد موقف "قسد" بعدما كان مرناً قبل أسابيع، ويعزون ذلك إلى هذه التطورات وقراءتها من قبل القامشلي، بأن إدارة ترمب لن تتخلى عن أكراد سوريا و"قسد" بسرعة كما كان الاعتقاد سائدا سابقا.
قبل أسابيع كانت أولوية الشرع وعبدي ترتيب العلاقة بين دمشق والقامشلي تفاوضيا. ولا يزال الخيار السلمي مفتوحا. المفاوضات على صعوبتها تبقى أقل كلفة من مواجهة عسكرية كبرى
ربما هذا ما يراهن عليه عبدي، إضافة إلى القدرات القتالية والأيديولوجية والعددية لـ"قسد"، لكن دمشق، مركز الدولة السورية، تراهن- أغلب الظن– على حسابات أخرى، فهي ترى أن أسباب وجود "قسد" انتهت، اي النظام السوري سقط و "داعش" اندحر، وأن لديها دعما عربيا وغربيا واسعا وحظيت بشرعية داخلية لإسقاطها الأسد، ولدى "الهيئة" عشرات آلاف المقاتلين المدربين والمزودين بعقيدة صلبة، وأن العقوبات الغربية سترفع قريبا. وتراهن دمشق أيضا على احتمال تمرد العشائر العربية والمكون العربي في "قسد" وحصول "هيئة تحرير الشام" على دعم فصائل أخرى خصوصا "الجيش الوطني" المحسوب على تركيا التي تجعل بين أولوياتها وتضع وسائلها العسكرية لمنع قيام كيان كردي في سوريا، ويراهن رئيسها رجب طيب أردوغان على علاقته الخاصة مع ترمب لإقناعه بــ"خيانة أميركية" جديدة للأكراد.
قبل أسابيع كانت أولوية الشرع وعبدي ترتيب العلاقة بين دمشق والقامشلي تفاوضيا. ولا يزال الخيار السلمي مفتوحا رغم التهديدات العلنية. المفاوضات على صعوبتها تبقى أقل كلفة من مواجهة عسكرية كبرى بين أبرز قطبين وكيانين، مركز الدولة السورية و مركز "الادارة الذاتية"، وامداداتهما الخارجية، ستكون مكلفة للطرفين والسوريين ومستقبلهم. الأمل، أن تكون التهديدات المتبادلة، هي تفاوضية وليست نهائية.