ما هي مقايضة ترمب لخفض العجز التجاري الأميركي مع أوروبا؟

الرسوم الجمركية والغاز والسيارات والتكنولوجيا والانفاق العسكري لحلف الناتو على طاولة التفاوض

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
الصفحات الرئيسية للصحف البريطانية بعد بدء ولاية الرئيس دونالد ترمب الثانية، 21 يناير 2025

ما هي مقايضة ترمب لخفض العجز التجاري الأميركي مع أوروبا؟

أوروبا منقسمة ومتوجسة من سياسة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، خصوصا ما يتعلق منها برفع الرسوم الجمركية على الواردات، التي سيبدأ تطبيقها على كندا والمكسيك بنسبة 25 في المئة مطلع فبراير/شباط المقبل، مع احتمال توسيعها لاحقا إلى دول أخرى في العالم على رأسها الصين. لن يُستثنى الاتحاد الأوروبي من عصا ترمب الاقتصادية التي ظهرت أولى آثارها في التوقيع على المراسيم الرئاسية، بما فيها الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية، ساعات قليلة بعد حفل التنصيب الذي حضرته رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني ونظريها الهنغاري فيكتور أوربان، تعبيرا عن تحالف في الأفق بين واشنطن الجديدة واليمين الأوروبي الصاعد من باريس إلى بودابست مرورا بروما وأمستردام.

وسيكون استخدام الغاز الأميركي تعويضا عن الغاز الروسي الذي توقف ضخه عبر أوكرانيا منذ بداية السنة، لتفادي رفع الرسوم الجمركية في مقابل دفع الأوروبيين إلى زيادة الإنفاق على التسلح من 2 إلى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا، وشراء مزيد من الأسلحة الأميركية للاستفادة من مظلة حلف شمال الأطلسي الدفاعية.

القارة العجوز المنهكة بثلاث سنوات من الحرب الروسية الأوكرانية، وقبلها تكلفة جائحة "كوفيد-19" المالية والبشرية، غير مستعدة لتحمل أعباء حرب تجارية جديدة مع الولايات المتحدة والصين. النمو الاقتصادي الأوروبي ضعيف، وفي ظل نمو اقتصادي أوروبي بمعدلاته الحالية الضعيفة واقتصاد ألمانيا قريب من الانكماش، وديون تتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لدى 6 دول على رأسها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ومهددة بالـ"سيندروم" اليوناني، لا تملك أوروبا كثيرا من الخيارات وهامش المناورة لديها ضئيل، وقد يصطدم بخلاف داخلي بين مجموعة الـ27 حول إعادة رسم خريطة جديدة في اتجاه الشرق الأوكراني، تستنسخ حدود 1991 التي وضعت في سياق نهاية الحرب الباردة وسقوط حائط برلين.

واعتبر وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس "أن رفع نفقات حلف شمال الأطلسي من 2 إلى 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي غير واقعية وغير مفيدة، وهي توازي 40 في المئة من الموازنة الاتحادية". وتتخوف برلين من تقليص الدعم الأميركي العسكري لأوكرانيا مما قد لا تستطيع تحمله الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي.

رفع نفقات حلف شمال الأطلسي من 2 إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي غير واقعية وغير مفيدة، وهي توازي 40% من الموازنة الاتحادية

وزير الدفاع الألماني، بوريس بيستوريوس

وتعتزم ألمانيا رفع مخصصات الدفاع من 75 إلى 110 مليارات يورو سنويا، وبدورها قررت فرنسا زيادة الإنفاق العسكري من 55 إلى 80 مليار يورو سنويا، لكن هذه المبالغ المالية الكبيرة تصطدم بأوضاع اقتصادية صعبة في البلدين.

حلف الـ"ناتو" زيادة الإنفاق في مقابل الدفاع

وقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روتا "إن الواقعية تقتضي رفع النفقات (العسكرية) بشكل تدريجي لتصل إلى 3 في المئة في أفق 2030". وبحسب معطيات الـ"ناتو"، تمكنت 23 دولة من أصل الدول الـ32 الأعضاء من رفع موازنة الدفاع إلى 2 في المئة من الناتج عام 2024، ولا يوجد سوى بولندا التي تتجاوز نفقاتها العسكرية 4,7 في المئة من الناتج، وتصل النسبة إلى 6 في المئة في روسيا وترتفع إلى 8 في المئة في إسرائيل، وهما غير أعضاء في الحلف"، وفق صحيفة "ليزيكو" (Les Echos) الفرنسية.

.أ.ف.ب
الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) مارك روته، يتحدث عن سياسات ترمب، خلال مؤتمر دافوس الاقتصادي، في سويسرا 23 يناير 2025

وكان ترمب هدد حلفاءه الأوروبيين، أثناء حملته الانتخابية، بالقول "لن تحمي أميركا الدول الأوروبية من روسيا إذا لم تلتزم متطلبات الإنفاق الدفاعي التي حددها حلف الناتو". من جهته اقترح مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الدفاع والفضاء، أندريوس كوبيليوس "إنشاء صندوق مشترك بقيمة 500 مليار يورو (529 مليار دولار) لشراء معدات دفاعية متطورة في مجال الطيران والرادارات وحماية الأجواء تتحملها الدول الـ27 في الاتحاد". لكن هذه المقترحات تبدو بعيدة عن تحقيق الإجماع المطلوب، مما يبقي أوروبا بين سندان ترمب ومطرقة بوتين إلى حين.

التغيير المرتقب في السياسية الخارجية الأميركية حول أكثر من قضية وفي أكثر من قارة قد يُخلف مرحبين وممتعضين، بحسب حجم الربح والخسارة لدى كل طرف، وهي مواقف مفاجئة حتى لدى الحلفاء

"لنجعل أميركا قوية من جديد"

تطلعات ترمب الجيوسياسية لها ما يبررها اقتصاديا على الأقل، فهي تستند إلى خطة "لنجعل أميركا قوية من جديد". والقوة المستهدفة هنا تبدأ بالاقتصاد في مسعى لتقليص العجز التجاري مع العالم الخارجي الذي قارب 800 مليار دولار عام 2023 بحسب مكتب التحليل الاقتصادي (BEA)، وإعادة توطين عدد من الصناعات، في مقدمها السيارات الكهربائية والتكنولوجيا الرقمية، لإنعاش الإنتاج وسوق العمل. وهي وعود انتخابية حان موعد تنفيذها، وتعدها الإدارة الجديدة ضرورية لتحويل أميركا من حالة العجز التجاري إلى الفائض الإنتاجي والمالي.

.أ.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يعقد مؤتمرا صحافيا في غرفة روزفلت في البيت الأبيض، واشنطن، 21 يناير 2025

وكانت الولايات المتحدة سجلت عجزا تجاريا مع الاتحاد الأوروبي بلغ 155,8 مليار يورو (161,9 مليار دولار) عام 2023، على الرغم من تحقيق فائض في قطاع الخدمات بلغ 104 مليارات يورو، وفقا لبيانات "يوروستات". وبلغ العجز التجاري مع كندا نحو 200 مليار دولار، و280 مليار دولار مع الصين التي بلغت تجارتها مع الولايات المتحدة نحو 575 مليار دولار، منها 148 مليار دولار من الواردات، و427 مليار من الصادرات عام 2023. 

تراهن واشنطن على منع الصين من الوصول إلى 30 تريليون دولار من الناتج المحلي في أفق 2030، عبر كبح الصادرات الصناعية برفع الرسوم إلى 100% على السيارات الكهربائية، والضغط على دول الجنوب حتى لا تتحول إلى منصات لإعادة التصدير نحو القارة الأميركية

وعلى الرغم من التحسن المسجل على مستوى تغطية فارق الواردات بالخدمات، خصوصا المالية والتكنولوجية، فإن عجز الميزان التجاري الأميركي لا يزال قريبا من 3 في المئة (2,8% في 2023) من الناتج المحلي الإجمالي وكان يقدر بـ3,7 في المئة في 2022.

الصين تتربع على عرش التجارة العالمية

حققت الصين فائضا في تجارتها الخارجية مع دول العالم بقيمة 990 مليار دولار في 2024 من صادرات سلعية إجمالية بلغت 3,58 تريليون دولار، وواردات بـ2,59 تريليون دولار، مما جعل بكين تتربع على عرش التجارة العالمية. وحققت الصين أكثر من نصف فائض حسابها التجاري مع شمال القارة الأميركية ومجموعة الاتحاد الأوروبي، وسجلت عجزا مع الدول المصدرة للطاقة على رأسها روسيا والمملكة العربية السعودية، وأيضا مع البرازيل أكبر مزود للمواد الزراعية.

.أ.ف.ب
عمال على خط لإنتاج الملابس التي تصدر إلى أوروبا، في مقاطقة جانسغو شرق الصين، 23 يناير 2025

وأظهرت البيانات أن الصادرات لا تزال المحرك الرئيس للاقتصاد الصيني الذي تخطى 18 تريليون دولار في 2024، لكنه بات يعاني من تباطؤ النمو بسبب ضعف الاستهلاك الداخلي وركود القطاع العقاري. وتراهن واشنطن على منع الصين من الوصول إلى 30 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي في أفق 2030، عبر كبح الصادرات الصناعية برفع الرسوم الجمركية إلى 100 في المئة على السيارات الكهربائية، وتطبيق تعريفة 10 في المئة على بقية السلع الأوروبية، والضغط على دول الجنوب حتى لا تتحول إلى منصات لإعادة التصدير نحو القارة الأميركية.

شراء الغاز الأميركي في مقابل الرسوم الجمركية

في نهاية العام المنصرم، كتب ترمب على منصة "تروث سوشال" الاجتماعية، "لقد نبهت الأوروبيين أنه من أجل تقليص العجز التجاري الكبير، عليهم شراء مزيد من الغاز الأميركي، وإلا فإن رفع الرسوم الجمركية سيكون أحد الخيارات". هذا الكلام فيه من التهديد أكثر منه نصيحة، ويضع الأوروبيين بين خيار زيادة الاعتماد على الغاز الأميركي أو زيادة التعريفة على الواردات. وكان الرئيس المنتخب هدد خلال حملته الانتخابية بفرض رسوم على الواردات الأوروبية بنسبة 10 في المئة للتعويض عن عجز تجاري يقدر بـ162 مليار دولار.

تدفع رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فان ديرلاين، في اتجاه إقناع بروكسيل بزيادة حصة الغازالأميركي المسال للتعويض عن الغاز الروسي، وتجنب عقوبات تجارية من واشنطن قد تهدد بإفلاس الشركات

صحيفة "لوموند" الفرنسية

وبحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية، تدفع رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فان ديرلاين، في اتجاه إقناع بروكسيل بزيادة حصة الغاز الأميركي المسال للتعويض عن الغاز الروسي، وتجنب عقوبات تجارية من واشنطن قد تهدد بإفلاس الشركات العاملة في التصدير. وزادت حصة أوروبا من الغاز الأميركي من 27 في المئة عام 2021 إلى 40 في المئة في الربع الثالث من عام 2024، ويتوقع أن تحصل دول الاتحاد على نصف حاجاتها من الولايات المتحدة خلال الربع الأول من 2025 بسبب الطلب المتصاعد جراء الظروف المناخية.

.أ.ف.ب
سيارات Hummer CMC الكهربائية في مصنع شركة "جنرال موتورز"، في ديترويت، في ولاية مشيغان 17 نوفمبر 2021

وعوضت أذربيجان عبر أنبوب غاز يصل إلى سلوفاكيا جزءا من إمدادات "غاز بروم" الروسية منذ مطلع العام الجديد. وكلما زاد الاعتماد على الغاز المسال الأميركي، تراجعت حصة دول أخرى جنوب البحر الأبيض المتوسط، في مقدمها الجزائر المتضررة من قرارات ترمب الاقتصادية والسياسية. وتسعى واشنطن لجعل أوروبا سوقا لصادراتها من الغاز المستخرج من الصخور النفطية بعد إزاحة المنافس الروسي. لكن دول الاتحاد، وتحت ضغط جمعيات حماية البيئة، تسابق الزمن للاعتماد على الطاقات المتجددة، خصوصا الهيدروجين الأخضر، المنتجة في المغرب ودول أخرى في المنطقة.

أين تذهب الاستثمارات في شمال أفريقيا؟

كتب المعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية "أن المغرب قد يتحول إلى ساحة معركة في حرب تجارية مقبلة بين القوى الاقتصادية العظمى على رأسها الولايات المتحدة والصين، خصوصا في قطاع صناعة السيارات، التي تبدو مفيدة لدول صاعدة مثل المغرب والمكسيك".

تحول المغرب في السنوات الأخيرة إلى وجهة مفضلة لرؤوس الأموال الدولية الراغبة في الاستثمار وإيجاد موطئ قدم لها في أفريقيا، الأمر الذي قد يسمح للمملكة في أن تتحول إلى منصة استقطاب تجارية عالمية بين أوروبا والصين

المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس)

وقال المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) ، "إن المغرب تحول في السنوات الأخيرة إلى وجهة مفضلة لرؤوس الأموال الدولية الراغبة في الاستثمار وإيجاد موطئ قدم لها في أفريقيا"، لافتا إلى "أن المملكة قد تتحول إلى منصة استقطاب تجارية عالمية بين أوروبا والصين". وتستثمر بكين في صناعة البطاريات المستخدمة في السيارات الكهربائية، بينما تنتج شركتي "ستيلانتيس" و"رينو داسيا" نحو مليون عربة موجهة إلى 71 سوقا عالمية مستفيدة من الموقع الجغرافي والاتفاقيات التجارية.

عين أميركا على الصين في المغرب

لا تنظر واشنطن بعين الرضا إلى التوسع الصيني في المغرب، وإمكان استفادتها من اتفاقية المنطقة التجارية الحرة (2003) التي تحميها من التعريفة المطبقة على الواردات من الاتحاد الأوروبي والصين، والتي تتراوح بين 10 و60 في المئة على المواد الغذائية والشرائح الالكترونية والعربات والفولاذ وغيرها. وقال موقع "إل ناشيونال كتلانيا" الاسباني نقلا عن مرصد "AMEC"، إن الهند وبولندا والمغرب والمكسيك ستكون وجهات محتملة لشركات صناعية دولية بسبب السياسة الحمائية التي ستطبقها الإدارة الجديدة في البيت الأبيض.

.أ.ب
هياكل سيارات في خط إنتاج في مصنع رينو، بالقرب من مدينة طنجة في المغرب، 29 أبريل 2024

وقالت الـ"فايننشال تايمز" إن الولاية الثانية للرئيس ترمب تهدد بإشعال فتيل خلافات عالمية في شأن الضرائب، ومعاقبة البلاد التي تفرض رسوما إضافية على الشركات المتعددة الجنسيات الأميركية داخل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).

بروكسيل لا تستطيع إعلان حرب تجارية ضد "وادي السيليكون"، خوفا من ردود فعل قد تهدد آلاف الشركات الأوروبية العاملة في الأسواق الأميركية، لكنها قد تعتمد ضرائب على الأرباح بنحو 15% كان اتفق عليها سابقا

من جهتها، تعتزم دول الاتحاد الأوروبي فرض ضرائب وغرامات على عمالقة التكنولوجيا مثل "أبل" و"غوغل" و"فايسبوك" و"إكس" وغيرها. وتُتهَم هذه الشركات، ومعها "تيك توك" الصينية، بالتدخل في الانتخابات الأوروبية باسم حرية التعبير، ونشر أخبار زائفة وممارسة الاحتكار. ولم يخف المستشار الألماني أولاف شولتس غضبه من تصريحات إيلون ماسك مالك منصة "إكس" وشركة سيارات "تسلا"، واتهمه بالتحريض على الفتنة.

 خلافات أوروبية - أوروبية

كتبت "لوفيغارو" الفرنسية "أن بعض وسائل التواصل الأميركية تدفع نحو الفوضى في أوروبا تحت شعار حرية التعبير، وعلينا حماية ديمقراطيتنا من أي تدخل خارجي". لكن بروكسيل لا تستطيع إعلان حرب تجارية ضد "وادي السيليكون" (Silicon Valley)، خوفا من ردود فعل قد تهدد آلاف الشركات الأوروبية العاملة في الأسواق الأميركية، لكنها قد تعتمد ضرائب على الأرباح بنحو 15 في المئة كان تم الاتفاق عليها في وقت سابق.

.أ.ب
إيلون ماسك خلال حضوره حفل تنصيب ترمب، في مبنى الكابيتول، 20 يناير 2025

يظهر الأوربيون بالفريق الضعيف غير المتجانس أكثر مما كانوا عليه في الولاية السابقة لترمب، عندما كانت أوروبا تنعم بالسلام والاستقرار ومعدلات نمو مرتفعة، وقبلة لتحقيق الحلم الأوروبي على غرار الحلم الأميركي. أما اليوم فهي في خلاف وشقاق حول أي خطة يمكن اعتمادها لمواجهة التحديات المقبلة من وراء المحيط الأطلسي، طالما هي في حاجة إلى الحماية الأميركية ووقف الحرب في أوكرانيا، على غرار تدخل أميركا للضغط على فرقاء الحرب في الشرق الأوسط.

font change