سيرة الدمى عند فليسبرتو إرناندث وأوسكار كوكوشا

صورة الغواية الملتبسة والحبيبة المفتقدة

 Wikicommons
Wikicommons
فليسبرتو إرناندث

سيرة الدمى عند فليسبرتو إرناندث وأوسكار كوكوشا

تتوزع مسوغات ابتكار الدمى، وفق سيرتها الملحمية وتاريخها الحافل، ضرورات طوطمية سحرية، وطقوس دينية غرائبية وفانتازية في آن، وأنساق فنية وثقافية متفاوتة المرجعيات العرقية والجغرافية، منذ حضارة الرافدين والحضارات الفرعونية والأفريقية والهندية والصينية والأميركية اللاتينية، وصولا إلى اللحظة التاريخية المفارقة.

ومنشؤ الدمى يلفي أول مفاتيحه في محاولات الكائن لإنتاج معنى إنساني يجابه به تعقيدات ظواهر الكون، وأيضا ضمن شكل من أشكال تفسير إبهامية الوجود في المنحى العام، فضلا عن اشتباك الذات الفردية والجماعية في عمليات تحاكي أو تفكك رموز الحياة الملتبسة ضمن كرنفال المعيش اليومي في المنحى الخاص.

دمى فليسبرتو إرناندث

تاريخ الدمى الأفقي لا يعود كذلك، فنيا على الأقل، مع الاصطدام بالعالم القصصي للكاتب الأوروغواياني فليسبرتو إرناندث، إذ يغدو عموديا تماما. الدمى ليست هي نفسها كما كانت سابقا وقد أمست في مآلات منزاحة في مشغله التخييلي البكر بحسب أثره السردي المتحول نوعيا نحو الحدود القصوى. نعم، لا تعود الدمى هي نفسها كما عرفها الكائن الإنساني، بالذات قارئ قصة "دمى الأورتنسيا" المنشورة عام 1949، بل نساء حقيقيات وأكثر، مضاعفات حد الالتباس، وأشد إغواء وسحرا يلفعن ندماءهن هوسا وهذيانا.

هذا شأن بطل القصة أوراثيو صاحب منزل الدمى، الذي جعل منه مسرحا لها، بأن خصها بواجهات زجاجية عبر ثلاث غرف هائلة، داخل مسرح أعده لاحتفالات كل ليلة، يلهبها عازف البيانو، أليكس.

لا تعود الدمى هي نفسها كما عرفها الكائن الإنساني، بل نساء حقيقيات أشد إغواء وسحرا

هي لعبة بدأت مذ اصطحب أوراثيو من متجر صاحب الدمى فاكوندو، عرائس هي محض كائنات منومة مغناطيسيا تؤدي مهام مجهولة أو تكرس نفسها لمخططات خبيثة وفق انطباعه، ولذلك أفرد لها من يعتني بها، إذ على زي السهرة أن يتناغم مع مفاتيح الموسيقى، كاشفا في هارمونيا إيحائية عن مشاعر كل دمية في غرفتها الزجاجية... تتفاقم خطورة اللعبة ببزوغ دمية الأورتنسيا التي سماها باسم زوجته ماريا، وغدت تستحوذ على انتباهه وتلهب انفعالاته وتلفح أرقه وأفكاره... حتى أنه طلب من صاحب ورشة الدمى فاكوندو أن يبث فيها حرارة، كيما يتفاعل مع أنوثتها المرغوبة، إذ تخطى الإعجاب الغامض حد الفكرة الشعرية إلى الولع المرضي، الذي باتت ظلمات غريزته تتلاطم هواجسَ جنسية على نحو فانتازي.

دمية أورتنسيا هذه، غير كل الدمى الملغزات الأخريات، ذوات الحكايات المتخيلة، بحسب وضعية الاستلقاء في كل واجهة عرض، وبحسب إطراقة الرأس وتأرجح لمعة الحياة من عدمها في نظراتهن، ستستحوذ على انتباه زوجته ماريا أيضا، وتربك صمتها الداخلي بحجر جعل بِركة أفكارها ومشاعرها تضطرب وتتماوج... كلاهما سقطا في فخ تأثير الدمية، وأمسى حبهما أحدهما للآخر غير ممكن بدون أورتنسيا، إذ قياسا على حضورها الفاتن والغريب، أصبح أوراثيو يتأمل علاقته الجمالية بزوجته ماريا، وكذلك أصبحت ماريا تتفرس علاقتها الوجودية بأوراثيو، وحين تعصف بهما الاستيهامات الكابوسية، ويضطرب حبهما الطبيعي على محك حب خارق طارئ خاص بالدمية، يطعن أوراثيو الدمية بسكين ولا نعلم هل ليتخلص منها أم محض سلوك جنوني أثمره هوسه المرضي بها، ولا يفتأ يأخذها الى صاحب ورشة الدمى كي يجري عملية تجميل لها، وهكذا تغيب أورتنسيا لتخلق وحشة عارمة في البيت، فيفترق الزوجان ويتصالحان في ما بعد، وتتوالى سهرات الدمى من جديد، وبخاصة الكرنفال الذي أقامه فاكوندو، وفيه تفصح القصة عن مجمل مشاعر الدمى، انفعالاتها، هواجسها، أنوثتها، قلقها، وخطورة ما تضمره من حس إجرامي.

Gianni GIANSANTI/Gamma-Rapho via Getty Images
الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو

نسق كامل من الدمى بحسب إيتالو كالفينو

يتنامى هذا المناخ الإجرامي، مع هلوسات أوراثيو الذي انتقل شغفه إلى متعة رؤية أطراف الدمى، كأن يرى ذراع دمية مفصولة على مرآة، أو ساقها مبتورة على شجرة... فيتحول منزل أوراثيو - الصاخبة لياليه سابقا بعزف البيانو، في تناغم شعري مع حكايات الدمى المسرودة إشارة من خلال وضعياتهن داخل واجهات العرض- إلى مسرح رعب، تعتري صاحبه هواجس ضارية، ولا أفصحَ عن ذلك من أن يشعر بأن البيانو تسكنه روح دميته أورتنسيا، بل البيانو تابوت، والدمية المريبة مدفونة فيه، وهكذا دواليك إلى أن تذيل القصة إمضاءها بنسغ جنون بطلها الغريب الأطوار.

يغدو المجاز واقعا في حالة كوكوشا الذي ابتكر دمية قرينة للحسناء الموسيقية ألما ماهلر طموحا منه بأن يخلق نسخة فاتنة منها كحبيبة هجرته

هذا هو متحف الدمى الذي صنعه فليسبرتو إرناندث في قصته المرعبة، ونجح في إنتاج كامل من الدمى المنافسة للنساء الحقيقيات بحسب إيتالو كالفينو، وما من دمية في واجهة عرض الأزمنة المعاصرة المتحولة هذه، إلا وتنتسب إلى متحفه، والأنكى أن ترج هذه الدمى الفاتنة الأرض تحت نساء العصر الحقيقيات، زد على ذلك تخييل القصة الاستباقي، حول استحداث غرف طوارئ بمستشفيات خاصة لهذه الدمى، والغرض لا يقف عند التجميل جراء ما يتعرضن له من طعنات، وإنما أبعد من ذلك، أنسنتهن بأكثر وأضعف مما تتفرد به النساء من إنسانية.

ullstein bild/ullstein bild via Getty Images
أوسكار كوكوشكا

دمية أوسكار كوكوشا

معبر دمى فليسبرتو إرناندث الحاد هو الخط الذي اجترحه النسق الجمالي لأوفيد في حالة بيغامليون مع تمثاله الأنثى المثالية غالاتيا. ولكن مع هذا العبور النوعي في قصة "عرائس الأورتنسيا" يغدو سفر التحول المجازي واقعا في حالة سابقة مع الفنان النمساوي أوسكار كوكوشا الذي ابتكر دمية قرينة للحسناء الموسيقية ألما ماهلر، طموحا منه بأن يخلق نسخة فاتنة منها كحبيبة هجرته بعد ثلاث سنوات من ضراوة الحب العاتي، فوق ذلك اقتنى لها ما يلزم من ملابس فاخرة باريسية، ولم يكتف بذلك بل بات يصحب الدمية في تجواله اليومي، في مسارات قضاء متطلباته الاجتماعية، وكذا مرافقتها إلى أمسياته وأسماره إلى أن أقام لها حفلا ذائع الصيت، وبادر في حماسة إلى دعوة أعلام طبقة عصره النبيلة، وفي تموجات ثمل السهرة هاجم دميته وقطع رأسها دالقا النبيذ على جسمها، والطرافة أن تأتيه الشرطة في اليوم الموالي بعدما عاينت جثة الدمية في الخارج وحسبتها جثة امرأة حقيقية، كي تفتح معه محضرا في جريمة القتل الدامغة.

FABRICE COFFRINI / AFP
زائر يقف أمام لوحة "الفارس التائه" (بورتريه ذاتي) لأوسكار كوكوشكا

لم يقف عمل كوكوشا عند ابتكار دمية مبهرة على مقاس حبيبته ألما، وأبدع لوحات تشكيلية لها تخلد أثرا فنيا ملتبسا لدى الجميع، يتأرجح بين ألما الأصل، والدمية النسخة المضاعفة لحقيقتها البك، وهذا الالتباس يحتد في لوحتين صارختين، الأولى بعنوان "صورة ذاتية مع دمية" (1912)، والثانية بعنوان "امرأة باللون الأزرق" (1919).

كلاها دمية أوسكار كوكوشا ودمى فليسبرتو إرناندث، لا يمكن تخطي أثرهما الدامغ في التحولات الفنية والغرائبية التي انحرفت بالنسق الجمالي والإنساني في علاقته بالأيقونة البديلة للآخر، مرورا بدمى هانز بيلمر ووصولا إلى مآلات باربي الطارئة، سواء بفعل مضاعفات فانتازية خالصة، أو بمحض اختلال نفسي حاد، أو من منطلق جنون مطلق، هو في الأول والأخير مستساغ كمبرر فني. في المقابل من المستحيل أن يجد له مبررا أخلاقيا.

font change

مقالات ذات صلة