دروز سوريا... دروب القلق والريبة من النظام الجديد

الخوف من العودة إلى الشمولية المركزية

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الاحتفال بسقوط نظام الأسد في مجدل شمس الدرزية في مرتفعات الجولان، في 9 ديسمبر 2024

دروز سوريا... دروب القلق والريبة من النظام الجديد

في أحاديثهم الخاصة، يسترجع "دروز سوريا" راهنا واحدة من أشهر حكاياتهم السياسية "التقليدية"، التي تقول إن شكري القوتلي- أول رئيس لسوريا بعد نيل الاستقلال عن الانتداب الفرنسي- كان قد وسم أبناء "الطائفة الدرزية" في تصريح صحافي عام 1945 بأنهم "الأقلية الخطرة". حدث ذلك وقتئذ، وعلى العكس تماما مما كان يتوقعه الدروز من الدولة السورية الجديدة، التي كانوا أكثر من ساهم وضحى في سبيل نيلها لاستقلالها، وجلاء القوات الفرنسية عنها. يتذكرون ذلك، ومعها رد فعل زعيمهم المحلي/الوطني سلطان باشا الأطرش وقتئذ، الذي حذر القوتلي بتحويل الدروز إلى "طائفة خطرة فعلا"، لو لم يتنازل عن تصريحه، مهددا بـ"الهجوم على دمشق" واقتلاع النخبة البرجوازية الحاكمة، ما لم يحدث ذلك، وهو أمر أثار مخاوف المحيطين بالقوتلي، الذين أخبروه بإمكانية حدوث ذلك فعليا، ونصحوه بالتراجع.

هاجس المركزية

استحضار الحادثة في الذاكرة الجمعية "الدرزية" راهنا، ذو دلالة على الاضطراب السياسي المستجد الذي تعيشه هذه "الطائفة الدينية/الجماعة السياسية" مع الدولة السورية، والنظام السياسي الذي يُمكن لها أن تستقر عليه. فالدروز السوريون، مثل أغلب "الأقليات" الدينية والمذهبة والعرقية والمناطقية السورية، متوجسون من المسار والبنية التي يتأسس حسبها النظام السياسي الجديد في بلادهم، خصوصا وأنها ذات مرجعية أيديولوجية شديدة المحافظة والعسكرة، ولا تطرح أية رؤية سياسية بوضوح يمكن أن تتضمن تأكيدات واضحة على هوية المؤسسات التي ستضمن الحقوق الفردية والجمعية لكل المكونات السورية، ولا حتى التزاما واضحا بالقيم العليا "الحديثة" في النظام السياسي الجديد، ودون أي حرص على التشاركية، فكل ما يصدر عنها هو مجموعة من "التطمينات الرمزية"، ذات الطابع الشخصي، وفقط كذلك.

الدروز الذين يُقدر عددهم بحوالي مليون نسمة، يشكلون قرابة خمسة في المئة من سكان سوريا، حسب إحصاءات غير رسمية، يتمركز أكثر من تسعين في المائة منهم في محافظة السويداء، بينما تنتشر البقية في تجمعات ريفية في محافظات إدلب والقنيطرة وريف دمشق. يخشون من مركب سياسي قد يطالهم مجددا، مؤلف من القسر الأمني، الذي قد يطال مناطقهم، فيما لو تشكل الجيش والأجهزة الأمنية بشكل مركزي/أيديولوجي/طائفي، كما كانت ملامح تلك المؤسسات سابقا، متعامدا مع إقصاء سياسي وعدم اعتراف دستوري بخصوصيتهم الدينية/المذهبية، لو بقي بنيان الدولة ومؤسساتها وعالمها الرمزي "سُنيا".

هذه الآليات قد تخلق مصاعب حياتية ومشقات اقتصادية في مناطقهم، التي كانت محرومة من التنمية الوطنية بشكل تام تقريبا، إذ يعتمد مجمل سكانها على منتجاتهم الزراعية وتحويلات المغتربين من أبنائهم.

قُبالة ذلك، يعرض الدروز، وعلى لسان مرجعهم الروحي/السياسي الأعلى راهنا، الشيخ حكمت الهجري، برنامجا سياسيا قائما على تشييد الدولة السورية الجديدة حسب ثلاث قيمٍ عليا، هي الديمقراطية والمدنية واللامركزية. وأن تكون تلك الهويات متضمنة في كل المواثيق والقوانين والمؤسسات والأجهزة والنظام التربوي والقضائي في العهد الجديد.

يعرض الدروز، وعلى لسان مرجعهم الروحي/السياسي الأعلى راهنا، الشيخ حكمت الهجري، برنامجا سياسيا قائما على تشييد الدولة السورية الجديدة حسب ثلاث قيمٍ عليا، هي الديمقراطية والمدنية واللامركزية

إلى جانب الأكراد، فإن الدروز هُم الجماعة السورية الوحيدة التي تُعبر نُخبها عن مخاوفها من عودة "الشمولية المركزية" إلى حُكم سوريا مرة أخرى، وبأسرع مما هو متوقع. فالمرجعية الروحية للدروز تعتبر أن "الوقت لا يزال مبكرا لتسليم السلاح" الذي بحوزتها، محذرة من إمكانية عودة الشمولية، وبغطاء ومضمون أيديولوجي مذهبي "متطرف".

لا يعرض الدروز تطلعاتهم للامركزية بأية نوازع مناهضة لشرعية وسيادة الدولة السورية كاملة على مناطقهم، مُشيرين على الدوام إلى حصرية مطالبهم بكل القضايا التي لا تمس أواصر المتن الوطني، فاللامركزية التي يطالبون بها لا تتعارض مع المهام والسلطات السيادية التي هي من حق المركز، مثل السياسة الخارجية والجيش والسلطات النقدية.

مثل باقي التكوينات السورية الأخرى، خلا الأكراد، ليس للدروز أية مرجعيات أو زعامات سياسية واضحة، تُعبر عن خطهم وخياراتهم السياسية، وليس بينهم حتى تلك الأحزاب السياسية ذات الواجهة "المدنية/الوطنية"

شروخ داخلية

مثل باقي التكوينات السورية الأخرى، خلا الأكراد، ليس للدروز أية مرجعيات أو زعامات سياسية واضحة، تُعبر عن خطهم وخياراتهم السياسية، وليس بينهم حتى تلك الأحزاب السياسية ذات الواجهة "المدنية/الوطنية" والمضمون الفعلي "الطائفي"، مثل "الحزب الديمقراطي التقدمي" في لبنان أو "جماعة الإخوان المسلمين" في سوريا.

تأتّى ذلك من قمع مديد مارسه النظام السياسي السوري المخلوع طوال عقود كثيرة ضد مختلف الجماعات والبنى السورية، حتى تمكن من إخلائها من كل التنظيمات والشخصيات التي قد تشكل قطبا ومركز جذب اجتماعي. لأجل ذلك، بقي رجال الدين ضمن الطائفة الدرزية السورية وحدهم كمركز ثقل نسبي لأبناء الجماعة، شكل الشيوخ الثلاثة حمود حناوي، ويوسف الجربوع، وحكمت الهاجري، المرجعيات الرئيسة ضمن الطائفة خلال السنوات الماضية.

سارت المشيخة الدرزية خلال سنوات الثورة السورية في درب سياسي منعرج، انتقلت فيه من مهادنة النظام السوري ورفض تحول السويداء إلى نقطة اندلاع للمظاهرات الجذرية المناهضة له، مرورا بالسلبية تجاه الشخصيات التي حاولت خلق حالة اعتراض نوعية/عسكرية ضد النظام في محافظة السويداء، مثلما فعل مؤسس مجموعة "رجال الكرامة" الشيخ وحيد البلعوس أو الضابط المنشق خلدون زين الدين. لكنهم، وطوال هذه الفترة، لم يظهروا أية موالاة أو التصاق بخطاب وتوجهات النظام السوري قط.

لكن، وحسب التفكك النسبي المتقادم لقوة النظام السوري، تحديدا في محافظة السويداء، صارت المرجعيات الدينية الدرزية ترفض تجنيد الشبان الدروز خارج مناطقهم، وصولا لدعم المظاهرات المدنية التي اندلعت في محافظة السويداء منذ أواسط عام 2023، واستمرت حتى سقوط النظام، وكانت ذات خطاب مناهض للنظام السوري بوضوح.

بشكل غير معلن، حتى الآن، ثمة نوعان من المزاحمة/الانقسام السياسي داخل الفضاء السياسي الدرزي في سوريا، إن صح التعبير. فالمشايخ الثلاثة، وعلى رأسهم الهاجري، يعتبرون أنفسهم المراجع الأساسية ضمن الجماعة، وبخاصة فيما يتعلق بآليات ومصير الاندماج في المناخ السياسي والعسكري والبيروقراطي الجديد في سوريا؛ لكنهم يعرفون تماما بأن "زعامتهم" غير مضمونة الاستمرار على الدوام. فأغلب المراقبين يعتقدون أن الخطاب "الحاد" من قِبلهم تجاه السلطة الجديدة، سيدفع هذه الأخيرة لاستعداء شخصيات "درزية" في الأوساط السياسية والمدنية والاقتصادية، لتخلق معها مساحة تفاوض وتفاهم، لتحولهم بالتقادم إلى شخصيات ذات نفوذ في الأوساط الدرزية، تنافس الكتلة المشيخية. الأمر ذاته قد ينطبق على قادة الفصائل المسلحة، مثل الشيخ غيث البلعوس، نجل القائد السابق لفصيل "رجال الكرامة"، وقائدها الحالي، المُتوقع أن يكون له مستقبل سياسي بارز.

أ.ف.ب
مشايخ من الطائفة الدرزية في سوريا يحضرون تأبين 23 سوريا لقوا حتفهم في صيدنايا وسجون أخرى لنظام الأسد في جرمانا في ريف دمشق، 21 ديسمبر 2024

لكن المستوى الآخر للانقسام يبدو أكثر تركيبا وتأثيرا على الأحوال السياسية العامة في محافظة السويداء ومستقبل الجماعة الدرزية في سوريا. فالزعامة السياسية الدرزية التقليدية، متمثلة في السياسي اللبناني وليد جنبلاط، لا ينقصها الطموح في ذلك الإطار.

في هذا السياق، ليس الانقسام مجرد مزاحمة على أحقية التمثيل، وإن كان جنبلاط يرى في نفسه أنه صاحب دور فعال في حماية الدروز السوريين، عبر علاقاته وزياراته المتتالية إلى الأردن وتركيا، بغية خلق مظلة حماية إقليمية للدروز، سواء من النظام أو التنظيمات الإسلامية المتطرفة، لكن الانقسام في هذا السياق سياسي بالأساس، بين رؤية شديدة "الترحيب" والثقة بالقيادة الجديدة في سوريا، ويمثلها جنبلاط، وموقفه نتاج صراع دام لقرابة نصف قرن، بين آل جنبلاط وعائلة الأسد الحاكمة لسوريا، وبين رؤية أخرى يتبناها الكثير من الزعامات المحلية الدرزية السورية، التي تركن إلى مزيج من عدم الاستعجال وكثرة الارتياب من القيادة السورية، وتريد لأي اعتراف وتفاعل إيجابي من قِبلها أن يكون مقرونا بسلوكيات وأفعال من هذه القيادة تجاه محافظة السويداء والدروز في سوريا.

ذاكرة قلقة

كانت أحوال "الجماعة الدرزية" شديدة القلق مع النظام السوري السابق، لأنه صنفهم ككتلة أهلية متماسكة وذات هوية ووعي سياسي داخلي موحد ومتضامن، وإن كان مضمرا وذا وجه "تقوي" على الدوام، وتاليا سعى لتفكيك أواصر التضامن فيما بينهم، سواء عبر التهميش التنموي أو تفكيك العلاقة بين نُخبهم العامة وقواعدهم الاجتماعية، أو حتى عبر قمع ثقافتهم وحضورهم ضمن المتن الوطني السوري.

جزء واسع من الرأي العام ضمن الجماعة يخشى من إمكانية تكرار ذلك، إلى جانب أنواع من الهيمنة والضغوط الطائفية، عبر فرض أشكال من الوعي والتفسيرات والسلوكيات الدينية على المؤسسات والمتن العام في البلاد، وبخاصة على مناطقهم ومجتمعاتهم، التي تُعتبر وحدة متماسكة ثقافيا وسياسيا.

لا تنبع هواجس الدروز السوريين من فراغ، فطوال سنوات الثورة السورية عاش دروز سوريا تجارب "قاسية" مع قوى الإسلام السياسي الجهادية

لا تنبع هواجس الدروز السوريين من فراغ، فطوال سنوات الثورة السورية عاش دروز سوريا تجارب "قاسية" مع قوى الإسلام السياسي الجهادية. فالقرى الدرزية في محافظة إدلب تعرضت لضغوط هائلة من تنظيم "داعش" الإرهابي بعد عام 2013، حينما سيطرت فصائل منهم على أطراف من المحافظة، مثل مطالبهم بتغيير المذهب، وإجبارهم على إضافة القِباب إلى أماكن عباداتهم. في مرحلة لاحقة، وبعد هزيمة تنظيم "داعش" في المحافظة، برزت "جبهة ثوار سوريا" التي كانت عبارة عن تحالف من الفصائل المدنية المقاتلة، وكانت ذات علاقة وطيدة مع القرى الدرزية في المحافظة. فقائد الجبهة جمال معروف زار القرى الدرزية وأكد على مدنية العلاقة ضمن مناطق سيطرة جبهته.

لكن مزاحمة وصراع "جبهة النصرة"، التي تحولت فيما بعد إلى "هيئة تحرير الشام" وكان يتزعمها القائد الحالي للمرحلة الانتقالية أبو محمد الجولاني/أحمد الشرع منذ ذلك الوقت، وصراعها مع "جبهة ثوار سوريا" أطاح بالأوضاع الآمنة نسبيا للدروز في محافظة إدلب. فهزيمة "جبهة ثوار سوريا" منذ أواخر عام 2014 أطلقت يد "جبهة النصرة" في مختلف مناطق محافظة إدلب، وضيقت على أبناء الطائفة في المحافظة، ووصلت الضغوط ذروتها بعد محاولة الجبهة الاستيلاء على منازل ضباط الجيش السوري من أبناء الطائفة الدرزية في المحافظة، وقتلت أكثر من 20 درزيا في قرية "قلب لوزة" من أبناء الجماعة.

أ.ف.ب
سكان قرية مجدل شمس الدرزية في مرتفعات الجولان يحتفلون بسقوط نظام الأسد، في 9 ديسمبر 2024

أحداث شبيهة أخرى حدثت بحقهم في مراحل لاحقة، مثل هجوم مقاتلي تنظيم "داعش" على القرى الشمالية لمحافظة السويداء، ومعاملتهم للدروز كما عاملوا الإيزيديين في العراق.

حسب ذلك، يتطلع الدروز السوريون إلى ضمانات واضحة بشأن مستقبل أبناء الطائفة، لا تحققها إلا مجموعة من المواد الدستورية وآلية الحكم اللامركزية، وبخاصة في الإدارة العامة والأمنية لشؤون المحافظة. 

font change