رحلة سيطرة "حزب الله" على الشيعة

هياكل تنظيمية وأمنية محكمة

 أ ف ب
أ ف ب
صورة لزعيم "حزب الله" السابق حسن نصر الله على انقاض مبنى في منطقة الرويس في ضاحية بيروت الجنوبية في 10 أكتوبر

رحلة سيطرة "حزب الله" على الشيعة

وضعت "حرب الإسناد" التي خاضها "حزب الله" بأوامر إيرانية، الشيعة في لبنان، في موقع الخسارة؛ كي لا نقول الهزيمة، بعدما كبدتهم تكاليف كثيرة، منها المادي ومنها النفسي.

هذه الخسارة تبقى برغم فداحتها، أقل تكلفة، بالمقارنة مع الخسارات المترتبة على استمرار تبعية الشيعة لإيران وانفصالهم عن دولتهم الوطنية، علما أن رحلة الشيعة في دفع التكاليف لا تتوقف هنا، ثمة تكاليف عليهم دفعها، من أجل العودة إلى حضن الوطن، على رأسها بذل المقدرات المادية والمعنوية واستخدام الديناميات، لتكوين مجتمع شيعي حر، واقتناص الفرصة لإعادة بناء وطنيتهم ومواطنتهم وتحسين علاقتهم مع باقي الطوائف، وهي في الواقع ليست تكاليف، بقدر ما هي استثمارات لبناء مستقبل أفضل لها.

يرى حسان (اسم مستعار) أن "حرب الإسناد كانت أداة مكلفة لإحداث تغييرات جوهرية في المجتمع الشيعي، لكنها معقولة، مقارنة بتكاليف استمرار السيطرة الإيرانية، ومصادرة قرار الشيعة".

تعتبر الفئة الأكبر من الطائفة الشيعية، أن الحرب التي خاضها النظام الإيراني بالشيعة أدت إلى تدمير الطائفة، حيث استخدم أرواح أبنائها قرابين على طريق مشاريعه السياسية الفاشلة.

لذلك، يجد أبو مصطفى (اسم مستعار) أن "الحرب أحدثت انقلابا في المزاج الشيعي، على أربعين سنة من العيش تحت عباءة إيران"، وبرأيه أن "الشيعة فهموا أخيرا عواقب استمرار هذا الوضع، وأن كل يوم يبقون فيه في فلك النظام الإيراني، سيضع المزيد من التكاليف على كاهلهم".

السؤال موجه هنا إلى من "لعب بعقل" الطائفة، حتى أوصلها إلى هذه النهاية غير السعيدة؟ المشكلة أولا، تكمن في أن الحزب وجيشه وآلته العقدية والدعائية أقنعوا الطائفة، أنهم حماتها وأنهم يحملونها على أكتافهم مثل أطلس حامل السماء، الأسطورة المعروفة، ومن دونهم يختل توازن الكون وليس الطائفة فحسب.

كما أقنعوها بعالميتها وبأنها بمثابة القطب من الرحى، ولا تقل جبروتا عن القوى الكبرى من أميركا وأوروبا مجتمعة فنزولا، وجعلوها تؤمن بأن القيادة والزعامة خطبة رنانة، وليست برنامجا سياسيا وتنمويا وخطا استراتيجيا متينا، وأن قوة الردع ليست بالانصهار والانسجام الوطني وتجاوز الحواجز الطائفية والمناطقية والطبقية، بل بعدد الصواريخ المستوردة، وأن الاعتماد على قوة البطش يحقق التسيد في الداخل ويرهب الخارج.

ما هي الآليات التي اتبعها "الحزب" لخطف الطائفة الشيعية؟

ولاية الفقيه

يقول أبو مصطفى (اسم مستعار) إنه "منذ اللحظة التي تأسس فيها "حزب الله"، استخدم نظرية ولاية الفقيه التي تعترف بالمرجع الديني، كسلطة عليا وصية على المجتمع الديني والسياسي، لإضفاء الشرعية على كيانه وعلى تبعيته للنظام الايراني".

استخدم "الحزب" نظرية ولاية الفقيه كأداة إقصاء أيضا، فهمش غير المؤمنين بها، وحشرهم في موقع العداء للدين، وحولها إلى وسيلة لقمع مساحات النقد والاحتجاج وتقييدها، ولتفسير أي معارضة على أنها مخالفة للفقه الإسلامي وحرب على الدين نفسه.

كما أدى استخدامه الذرائعي لهذه النظرية، إلى إحاطة نشاطه السياسي والعسكري (المقاومة) بهالة من القداسة، مما ساعده على هندسة المناخ الاجتماعي والثقافي في المجتمع الشيعي وفق أيديولوجياته.

دمج "الحزب" بين عمله السياسي والمقاوم، بشكل صعّب التفريق بينهما، فصار السياسي الذي لم يقف يوما على الجبهة، النائب المقاوم أو الوزير المقاوم، لمجرد انتمائه إلى "الحزب"

استخدم "الحزب" نظرية ولاية الفقيه كأداة إقصاء أيضا، فهمش غير المؤمنين بها، وحشرهم في موقع العداء للدين، وحولها إلى وسيلة لقمع مساحات النقد والاحتجاج وتقييدها، ولتفسير أي معارضة على أنها مخالفة للفقه الإسلامي وحرب على الدين نفسه.

كما أدى استخدامه الذرائعي لهذه النظرية، إلى إحاطة نشاطه السياسي والعسكري (المقاومة) بهالة من القداسة، مما ساعده على هندسة المناخ الاجتماعي والثقافي في المجتمع الشيعي وفق أيديولوجياته.

المؤسسات الحزبية

بنى "الحزب" هياكل تنظيمية لإحكام سيطرته على المجتمع الشيعي، فأنشأ مؤسسات اجتماعية وتربوية وصحية وثقافية ومالية، مثل: "مؤسسة الشهيد"، و"مؤسسة الجرحى"، و"جهاد البناء"، و"التعبئة التربوية"، و"الهيئة الصحية الإسلامية"، و"كشافة المهدي"، و"القرض الحسن" وغيرها. هذه المؤسسات، يديرها كوادره فقط، ويستفيد منها المحازبون فقط. واكتسب مديروها وموظفوها والمستفيدون منها قوة متزايدة في المجتمع، مما جعل المؤسسات قوة رديفة تمارس دورا موازيا لدور الدولة.

الأجهزة الأمنية

على طريقة الأنظمة البوليسية، كانت الأجهزة الأمنية إحدى الركائز الأساسية لهيمنة "الحزب" على المجتمع الشيعي.

انصرفت الأجهزة الأمنية إلى مراقبة الناس وتتبعهم، فسيطرت على الفضاءين العام والخاص، كما استندت إلى جيش إلكتروني مهمته مراقبة الفضاء الافتراضي، ونقل ما يكتبه رواد مواقع التواصل الاجتماعي خصوصا من الشيعة، إلى غرفة القيادة، ليفلتوا عليهم الذباب الإلكتروني.

توازيا، أنشأ "الحزب" جهازا أمنيا اسمه "الأهالي"، الذي ينفذ تعليمات الأمين العام ويتحرك بإشارة من إصبعه، وكان تحت تصرف "الحزب" كقوة مدنية شبه عسكرية تتحرك على الأرض لتفريق الاحتجاجات والمظاهرات مثل "17 تشرين"، أو إيصال رسائل استراتيجية أو سياسية مثل الاعتداءات على قوات الأمم المتحدة "اليونيفل" والجيش اللبناني أحيانا، وفي بعض المرات كان "الأهالي" مثلا، يمنعون إقامة أي احتفال أو مهرجان فني في مناطق الجنوب "لأنها ارتوت بدماء شهدائهم".

تقول منى (اسم مستعار) إن "الأجهزة الأمنية رسخت أجواء من الخوف والقمع في المجتمع الشيعي، ومنعت نمو أو توسع أي حركة اعتراض أو رأي مخالف، وفضل الكثيرون أن يعارضوا بقلوبهم".

المقاومة

دمج "الحزب" بين عمله السياسي والمقاوم، بشكل صعّب التفريق بينهما،  فصار السياسي الذي لم يقف يوما على الجبهة، النائب المقاوم أو الوزير المقاوم، لمجرد انتمائه إلى "الحزب"، في المقابل همش كل من سبقه إلى مقاومة إسرائيل وألغى تاريخه، بمجرد رفضه الانضواء تحت رايته.

أ.ف.ب
خلال عودة الناس بأمتعتهم إلى منازلهم في الضاحية الجنوبية لبيروت في 27 نوفمبر 2024، بعد سريان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله

 

على الصعيد العام، لم تبرز قوة سياسية استطاعت الوقوف بوجه "الحزب"، ويُؤخذ على معارضيه أنهم لم يطوروا خطابا سياسيا، يجمعهم في جبهة واحدة

يقول غالب إن "الحزب استطاع إقناع الشيعة بأن كل فعل له فيه مصلحة، هو فعل مقاوم، والاعتراض عليه اعتداء على المقاومة"، ويتابع: "المقتلة التي شارك فيها إلى جانب بشار الأسد في سوريا هي لحماية ظهر المقاومة، فرض ميشال عون رئيسا رغما عن إرادة اللبنانيين لحماية المقاومة، التحالف مع الفاسدين وانتخابهم هو حماية للمقاومة".

كما صنع "الحزب" مجتمعا مقاوما، بتحويل كل تفاصيل الحياة المعاشة إلى فعل مقاوم، فالسياحة والثقافة والفن والرياضة والإعلام كلها مقاومة.

يقول حسان إن "المقاومة كانت وما تزال، السيف المصلت على رقاب الشيعة، لكي تحافظ على هويتك يجب أن تسير خلف المقاومة، وإن حادت عن دربها الأساسي، أي مقاومة إسرائيل".

استطاع "الحزب" أن يسيطر على عواطف الشيعة، ويصنع من المقاومة كيانا مقدسا، ليمرر من خلالها، تماهيه مع الفساد وتدخله في حروب عابرة للحدود.

يقول غالب (اسم مستعار) إن "الحزب برع في خلق ثنائيات في المجتمع الشيعي، لفرض عقيدته السياسية وتصنيف الناس، ما سبب مزيدا من الضغط على الإنسان الشيعي، أشهر هذه الثنائيات: مقاوم/عميل، والمقاوم هو المطبع مع الحزب، أما المعارض فهو العميل".

المعارضة

شكل الشيعة المعارضون مجموعات احتجاجية مختلفة، لكنهم لم يتمكنوا من تشكيل تهديد حقيقي لـ"الحزب"، بسبب تشرذمهم وافتقارهم إلى قيادة موحدة، وإلى خطاب سياسي متماسك، يمكن أن يوفر بديلا موثوقا للناس.

كما أضعف "الحزب" أي إمكانية لتضامن الشيعة مع باقي المكونات الوطنية، من خلال استخدام سياسات التسلل إلى داخل المجموعات، وخطف البارزين فيها، على غرار ما فعل مع الشيعة من أعضاء لجنة أهالي شهداء المرفأ.

على الصعيد العام، لم تبرز قوة سياسية استطاعت الوقوف بوجه "الحزب"، ويُؤخذ على معارضيه أنهم لم يطوروا خطابا سياسيا، يجمعهم في جبهة واحدة، فمن بديهيات السياسة، أنه لا يمكن لأي قوة معارضة أن تصبح بديلا من دون خطاب مقنع. 

خلال أكثر من أربعة عقود، مر "الحزب" بكثير من التحديات، منها الحرب مع إسرائيل، واعتراضات سياسية وشعبية ضد سلاحه، وهيمنته على الدولة، وتدخلاته الخارجية، وتبعيته لإيران، لكنه تغلب عليها وقمعها واستمر في سياساته

تقول منى إن "المعارضة السياسية التي تشكلت بوجه (الحزب) باختلاف أطيافها، كانت متقطعة زمنيا وبلا رؤية، بمعنى آخر، كل شخصية أو جماعة كانت تعلن معارضتها وفق خارطتها وأهدافها الخاصة، من دون أن تنجح في تشكيل إطار سياسي أو خلق لغة مشتركة ومواءمتها مع الأهداف المرجوة. هذا التشرذم جعل المعارضة على المستوى الاجتماعي، غير قادرة على مواجهة (الحزب) أو تشكيل بديل له".

القمع

منذ تأسيسه، أرسى "الحزب" في المجتمع الشيعي نظاما قمعيا استبداديا، للسيطرة على عقول أفراد المجتمع هذا. وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، أظهر "الحزب" عدم رغبته في قبول الآخر أو الاعتراف بوجوده، ليس باللامبالاة أو الإهمال فقط، بل باستخدام أقسى وسائل القمع والإلغاء.

لم يجد "الحزب" نفسه ملزما يوما بالاستجابة لأي مطلب سياسي أو تنموي غير ما يرى فيه مصلحة له وللنظام الإيراني، ولم يتردد في استخدام سلاحه للتعامل مع أي حراك معترض، ولم يفكر يوما في إجراء مراجعة.

القمع الذي مارسه "الحزب" ضد معارضيه الشيعة نجح في إسكات غالبيتهم، ومنع ذلك نمو وتطور حركة معارضة حقيقة في المجتمع الشيعي، في الوقت نفسه، حرض بيئته على ممارسة الضغط النفسي عليهم، لتلاحقهم بتهم العمالة والخيانة والعداء للمقاومة، ومثل هذه التهم كانت كفيلة بتقليب الجو الاجتماعي على المعارضين، حد طردهم من الطائفة.

أما من كان شجاعا مثل لقمان سليم فدفع حياته ثمنا لشجاعته.

عدا القمع الداخلي، تدخل "الحزب" سرا وعلانية في الساحات الخارجية، باذلا كل ما اكتسبه من خبرات وقدرات قتالية، لتوسيع الهيمنة الإيرانية، متحالفا مع الميليشيات والعصابات الخارجة عن القانون، معاديا الشعوب، إلى أن تسببت هذه الاستراتيجيات في سقوطه أخلاقيا قبل أي سقوط آخر.

خلال أكثر من أربعة عقود، مر "الحزب" بكثير من التحديات، منها الحرب مع إسرائيل، ومنها اعتراضات سياسية وشعبية ضد سلاحه، وهيمنته على الدولة، وتدخلاته الخارجية، وتبعيته لإيران، لكنه تغلب عليها وقمعها واستمر في سياساته.

استخدم "الحزب" في كل ذلك سلاحه مصوبا إياه إلى رؤوس المعترضين، فاغتال من اغتال وأقصى من أقصى، واحتكر الساحات لمناصريه ومؤيديه والمطبلين له.

هل يمكن أن يتفادى "الحزب" المزيد من الانحدار قبل فوات الأوان؟

يجيب معارض شيعي عتيق: "هناك حل عقلاني أمام (الحزب): إعلان طلاقه من إيران، وتسليم سلاحه للدولة، والأهم التوقف عن اعتبار نفسه أبا للطائفة الشيعية".

font change