موسيقى الإسباني جوان بالنت... من الشعر إلى السينما

ألبومه الثامن "ولادة ثانية" يكرس مكانته بين الكبار

Tolo Balaguer / Alamy Stock Photo
Tolo Balaguer / Alamy Stock Photo
جوان بالنت

موسيقى الإسباني جوان بالنت... من الشعر إلى السينما

أصدر الموسيقار الإسباني جوان بالنت (Joan Valent) ألبومه الثامن بعنوان "ولادة ثانية" (Rebirth) ، الذي يحتفل بالتجدد والتحول الدائمين، عبر مزيج من الألحان المؤثرة والإيقاعات الموسيقية المبتكرة، حيث كل مقطوعة هي دعوة إلى الغوص في عالم شعري ساحر.

جوان بالنت هو من أبرز الموسيقيين المعاصرين الذين قدموا مساهمات كبيرة في عالم الموسيقى الكلاسيكية والسينمائية. أسلوبه الفريد الذي يمزج بين التقاليد الكلاسيكية والابتكارات الحديثة، جعله واحدا من الأسماء التي لفتت الأنظار في الساحة الموسيقية الدولية. توزعت أعماله بين التأليف للأوركسترا، العزف على الآلات والتأليف الموسيقي للأفلام، حتى صار من كبار المؤثرين في الموسيقى المعاصرة.

النشأة والتدريب الموسيقي

وُلد جوان بالنت عام 1964 في جزيرة مايوركا الإسبانية، التي تتمتع بتاريخ ثقافي موسيقي طويل، حيث امتزجت فيها التقاليد الإسبانية مع تأثيرات البحر الأبيض المتوسط. ومن خلال هذه البيئة الغنية بالمؤثرات الثقافية، اكتشف شغفه بالموسيقى في سن مبكرة. وكان من الطبيعي أن يتأثر بالملحنين الإسبان الكبار، مثل مانويلا دي فايا ورافاييل فارينا، ولكنه لم يقتصر على هذا النمط، بل سعى إلى الابتكار والتميز من خلال التوسع في دراسة موسيقى القرن العشرين، حيث استلهم العديد من تقنيات التأليف الحديثة.

بدأ مسيرته الموسيقية بالدراسة في بالما دي مايوركا، قبل أن يتدرج مع أساتذة بارزين مثل كارليس غينوفارت وجوان غينجوان ودافيد بادرونس في برشلونة. بدأ بتعلم العزف على الآلات الموسيقية المختلفة، ثم سرعان ما تحول إلى دراسة التأليف والقيادة الأوركسترالية، مما شكل الأساس لموهبته التي برزت لاحقا، خصوصا حين انتقل إلى لوس أنجليس لتطوير معارفه، حيث أظهر شغفا كبيرا بالبحث والتجريب الفني. ولم يقتصر نشاطه على الموسيقى الكلاسيكية، بل تعاون كملحن ومنسق مع فنانين من أنماط موسيقية متعددة. كما كتب موسيقى للأفلام والمسلسلات التلفزيونية، وشارك في عروض الفنون المسرحية بموسيقى العزف المباشر. وفي عام 2007، اختير لتأليف الموسيقى الرسمية لحكومة جزر البليار، وهو إنجاز يعكس مكانته كموسيقار مهم في بلده.

الشعر والشعراء في أعمال فالنت

تُظهر أعمال بالنت كيف أن الشعر والموسيقى يمكن أن يتحدا لخلق تفاعل غير تقليدي بين الأشكال الفنية المختلفة، حيث يستفيد من تجارب الشعراء الإسبان والعالميين ليعيد صوغها من خلال صوته الموسيقي الفريد. في أعماله، يدمج الشعر بشكل حيوي مع الموسيقى، فيمكننا ملاحظة تأثير عدد من الشعراء الإسبان والعالميين في مقطوعاته. على سبيل المثل، في ألبومه Insula Poética (2007)، يمكن ملاحظة تأثيرات شعراء مثل فرناندو بيسوا وأنطونيو ماتشادو في بنية الألحان، إذ يحاول بالنت ترجمة الجوهر العاطفي للشعر إلى لغة موسيقية. في هذا الألبوم، تتناغم موسيقى بالنت مع التأملات الوجودية العميقة التي تناولها بيسوا في قصائده، وأيضا مع التوجس والشعور بالعزلة اللذين غالبا ما يبرزان في شعره.

لم يقتصر نشاطه على الموسيقى الكلاسيكية، بل تعاون كملحن ومنسق مع فنانين من أنماط موسيقية متعددة

كما أن هناك تأثيرا كبيرا لشعراء آخرين مثل خوسي هرنانديز وبابلو نيرودا في أعماله، فتتمازج الكلمات الشعرية مع الألحان لإنتاج تآلف موسيقي يحاكي التجربة الإنسانية في أبعادها المختلفة. في ألبوم Poetic Logbook (2019) مثلا، تتجسد العلاقة بين الشعر والموسيقى على نحو أكثر وضوحا، إذ يستلهم بالنت من تقاليد شعرية غنية ويترجمها إلى ألحان موسيقية تنبض فلسفة وعواطف إنسانية. وعلى الرغم من أن هذه الأعمال تظل قريبة من الفكرة العامة للشعر، إلا أنها تقدم منظورا موسيقيا فريدا يتفاعل مع الألفاظ ويأخذها إلى آفاق جديدة.

Insula Poética

المزج بين الموسيقى الكلاسيكية والحديثة

يتميز أسلوب بالنت بتنوعه وابتكاره، حيث يدمج بين الموسيقى الكلاسيكية والتقاليد الشعبية الإسبانية، مع إدخال عناصر حديثة من موسيقى الجاز والموسيقى الإلكترونية. فمن خلال دراسته العميقة للعديد من الأساليب الموسيقية، أصبحت لديه القدرة على دمج المكونات المختلفة في أعماله. وهذا ما جعله يتمتع بقدرة خاصة على تحويل مفردات الموسيقى الكلاسيكية إلى أعمال تحمل بصمة شخصية واضحة، إذ يستخدم الأنماط السمفونية في سياقات حديثة تدمج بين أنماط موسيقية متعددة. وقد ظلت هذه القدرة على المزج بين الأنماط المختلفة محورية في تطور موسيقاه، فتمكن من الوصول إلى جمهور واسع من عشاق الموسيقى في أنحاء مختلفة من العالم.

إحدى السمات الأكثر إثارة للاهتمام لدى جوان بالنت هي قدرته الرهيبة على دمج العناصر التقليدية والحديثة في مؤلفاته. يتجلى ذلك بشكل خاص في ألبومه Poetic Logbook (2014)، الذي يعتبره كثيرون تحفة فنية. في هذا الألبوم، يخلق بالنت مشاهد صوتية تتدفق عبر الزمن والمكان، باستخدام مزيج من الآلات الكلاسيكية وتقنيات التأليف الحديثة. يشير عنوان الألبوم إلى رغبة بالنت في إنشاء نوع من اليوميات الموسيقية، وهي مجموعة من القطع التي تسجل اللحظات والمشاعر والتأملات الشخصية. كل قطعة هي بمثابة صفحة من اليوميات، تحمل سردا خاصا ونسيجا عاطفيا مميزا. هذا النهج يجعل موسيقى بالنت شخصية وعالمية في آن واحد، حيث يدعو المستمع إلى إسقاط تجاربه الخاصة على كل مقطوعة.

Poetic Logbook

كما تعكس أعمال بالنت أيضا ارتباطا عميقا بمسقط رأسه، مايوركا. فكثير من مقطوعاته يستحضر مناظر الجزيرة الطبيعية، من جبالها إلى شواطئها، بالإضافة إلى التقاليد الثقافية التي تشكل جزءا من هويتها. هذا الارتباط بالمحلية يضفي على موسيقاه طابعا خاصا يميزها عن أعمال غيره من المؤلفين المعاصرين.

بصمة في عالم موسيقى الأفلام

من جهة أخرى، يُعدّ جوان بالنت واحدا من أبرز المؤلفين الموسيقيين الذين تركوا بصمة واضحة في عالم السينما، إذ ساهمت موسيقاه في تعزيز السرد السينمائي وخلق أجواء درامية فريدة. تعاون مع مخرجين مرموقين في إسبانيا وخارجها، مثل أليكس دي لا إغليسيا الذي ساهم معه في فيلم شهير بعنوان "Las Brujas de Zugarramurdi" في عام 2013، وهو فيلم كوميديا ورعب، ساهمت موسيقاه في تعزيز الجو الغريب والمثير فيه.

تتمازج الكلمات الشعرية مع الألحان لإنتاج تآلف موسيقي يحاكي التجربة الإنسانية في أبعادها المختلفة

هذا العمل أكسبه ترشيحا لجائزة أفضل موسيقى تصويرية في جوائز غويا 2014، مما يؤكد تأثيره في إثراء تجربة المشاهدين​. ثم هناك أفلام أخرى بارزة مثل "El Bar"، وهو فيلم درامي مثير تناول قصة مجموعة من الأشخاص المحتجزين في حانة، حيث ساهمت موسيقى بالنت في تصعيد التوتر ودعم السرد البصري. كما أبدع في تأليف موسيقى فيلم "Mi gran noche"، الذي عكس فيه حس الفكاهة والفوضى في أجواء كوميدية ساحرة. وكل هذه الأعمال تظهر مرونته وقدرته على التكيف مع أنواع متعددة من الأفلام، من الرعب إلى الكوميديا وصولا إلى الدراما​.

ولعل من أبرز إنجازاته العالمية مشاركته في الفيلم الأميركي الحائز الأوسكار "Birdman"، وفيه قدم موسيقى مختلفة عن المعتاد باستخدام الطبول الإيقاعية فقط، مما أكسبه جائزة الـ"غولدن غلوب"، ورُشح لجائزة الأوسكار. هذه الموسيقى أصبحت عنصرا سرديا يعبر عن الاضطراب النفسي للشخصيات، وقد نالت إشادة النقاد لجرأتها وتجديدها في مجال الموسيقى السينمائية.

Fox Searchlight Pictures
مايكل كيتون في فيلم "بيردمان"

لم يقتصر تأثيره على الأفلام الدرامية فقط، فعمل على أفلام وثائقية مثل How Much Does Your Building Weigh, Mr. Foster?، واستطاع أن يجسد بنغماته الموسيقية العلاقة بين الهندسة المعمارية والحياة. كما ترك بصمته في مشاريع أخرى مثل فيلم Mararía، الذي أكسبه ترشيحا لجوائز غويا الإسبانية. ومن بين أعماله البارزة أيضا El Rey de La Habana، الذي نال جائزة غاودي، وCarta a Eva، الذي شهد براعة بالنت في تقديم الموسيقى بأسلوب ملحمي ينسجم مع طبيعة القصة​.

من أبرز إنجازاته العالمية مشاركته في الفيلم الأميركي الحائز الأوسكار "Birdman" وفيه قدم موسيقى مختلفة عن المعتاد باستخدام الطبول الإيقاعية فقط

وإلى جانب عمله في الأفلام، تعاون فالنت مع فنانين في مجالات مختلفة، مثل عروض الرقص الفلامنكو مع رافائيل أمارغو وأعمال مسرحية مثل Troya و Siglo XXI، مما يدل على قدرته على التكيف مع مختلف أشكال الفن. هذه الأمثلة تظهر بوضوح كيف استطاع بالنت أن يصبح رمزا للموسيقى السينمائية الإسبانية، إذ تتسم أعماله بالابتكار والتنوع، مع احتفاظها بجاذبية عالمية. ولهذا لم يكن من المستغرب أن يحصل على تكريم خاص في مهرجان Terror Molins عام 2022 عن مسيرته المهنية، وهو تقدير مستحق لسنوات من العطاء في السينما الإسبانية والعالمية.

"ولادة ثانية"

أخيرا، تطلبت انتقالات فالنت بين الأنماط الموسيقية المختلفة، من الكلاسيكي إلى السينمائي، جهدا مميزا لاستيعاب الأساليب الجديدة دون التضحية بهويته الخاصة. ومع ذلك، أثبت هذا الموسيقار المتفرد جدارته الكبيرة في الإبداع والتجديد المستمر. فكان دائم البحث عن الابتكار في أعماله، وهو ما أكسبه القدرة على الحفاظ على أسلوب موسيقي أصيل، رغم التغيرات التي طرأت على عالم الموسيقى. هذه القدرة على "الولادة الثانية" جعلته مستعدا للتغلب على كل التحديات التي قد تواجه أي فنان في مختلف مراحل حياته.

font change