في زمن الكلاسيكيات الأدبية الروسية من القرن التاسع عشر، اعتبر نقاد ذلك الوقت، أهم أعمال المؤلفين أمثال دوستويفسكي وتشيخوف وتورجينيف وبوشكين وغيرهم من المبدعين، أنها بلا لون أو شكل، منتقدين نصوصهم، ليتم حظر بعض أعمالهم على أثر ذلك النقد، أما بعد تحرير كتبهم المحظورة في القرن العشرين، فإن ذلك يجعلنا نؤمن بأن رؤية النقاد تبقى محدودة، وصعوبة الرؤية أكثر مما يستطيعون، مثلما نؤمن بأنه لا يمكننا الطلب من الكاتب أو الفنان، أن يقدم أكثر مما يقدر.
استنادا إلى ما سبق، أتى القرن العشرون ومعه تلك القصص المحظورة إلى العلن، وتحول كل أولئك المؤلفين الروس أي بعد مئة عام من النشر، لتصنف أعمالهم إلى عظيمة، وبرأي النقاد الحاليين أنهم أفضل من كتب، وكأن النقد يتأرجح تذوقا من عصر إلى عصر، أو تناقضا باستنكاره أو طعنه أو تجميله، ولعلها حسب ثقافة كل عصر، انطلاقا من الظروف السياسية والاجتماعية، وليس النص وما يحمل من عمق ومعنى، ليبقى النقد قوة الضعفاء كما قال الشاعر لامارتين.
جميعنا يعرف دوستويفسكي ويعرف أعماله من "الجريمة والعقاب" و"الشياطين" و"الأبلة" و"الإخوة كارامازوف"، ويعرف أنه يتم تدريسها في مناهج معظم مدارس العالم، بالإضافة إلى أنها تعرض كمسرحيات وأفلام، ومع ذلك لديه عمل كان الأقل شهرة، وهو "المراهق" الذي نشر عام 1875م، وهو قصة لابن غير شرعي يملك أرضا ويحلم بالعدالة ويحكم بين الناس، بمشاعره المتضاربة التي تعذبه. يتعرض هذا العمل لانتقاد كبير من النقاد حينها، لكون البطل فوضويا وبلا شكل، ومع ذلك يتحول اليوم إلى أفضل أعماله، بوصفه يعالج المشكلة الأبدية بين الآباء والأبناء، واختبار قوتهم في هذا العالم، وهم يكونون شخصيتهم أثناء نموهم المؤلم.
تعتبر رواية تولستوي "القيامة"، إحدى أقوى رواياته، لأنه يُخضع الشخصيات فيها لإعادة تقييم، ويكشف الأسرار في دواخلهم الشرسة
وكذلك تشيخوف الأكثر شعبية في روسيا، كتب عام 1888 عملا بعنوان "السهوب"، استقبله النقاد عمله ببرود، متهمين تشيخوف بالافتقار إلى الأفكار، على الرغم أن القصة لرجل يأخذ ابن أخيه إلى رحلة، وطوال طريقهما يجدان الشخصيات المختلفة، لكن الواقع في محور القصة هو طبيعة السهوب الأصلية التي تدور ضمن الأحداث، والثروة الطبيعية والجمال التي لم تمس في الفن والأدب الروسي حينها.
أما توروجينيف فكان مهموما بمعرفة الروح الروسية، وقدرات الإنسان الروسي على إعادة كتابة الأدب المبهج بعيدا عن الحزن، فكتب عملا بعنوان "الدخان"، لم يبال به أحد، منهم تولستوي الذي أغضبته الرواية في هجائها المجتمع الراقي، والحكاية لمالك أرض شاب، يقضي وقته بعيدا عن وطنه، في بادن مع عروسه، بينما في روسيا يشعر بالملل بصحبة المثقفين من الطبقة الثرية، ليتم حظر كتاب الدخان.
وهذا لا يعني أن تولستوي لم يُحظر له كتاب، فقد حظر كتاب له بعنوان "القيامة"، وهو عبارة عن بانوراما اجتماعية مأساوية للحياة الروسية في القرن التاسع عشر، مُنع بسبب الضجة التي أحدثتها الرواية بسبب مشاعره المناهضة للكنيسة، وعدم فهم رجال الدين معنى المساواة بين الناس، وبعضهم رأى انتقاده للكاهن بأنه الإمبراطور، فتم نبذه، بينما اليوم تعتبر روايته "القيامة"، إحدى أقوى رواياته، لأنه يُخضع الشخصيات فيها لإعادة تقييم، ويكشف الأسرار في دواخلهم الشرسة، لنلاحظ كيف يتأرجح النقاد في آرائهم حسب الاعتقاد الديني والاجتماعي والسياسي.
وأخيرا ثمة عمل لنابوكوف بعنوان "أداء"، وهو من القرن العشرين، وكان أيضا محظورا، وهو عملٌ معقد، يوصف الآن بأنه تحفة فنية، انتظره المخرجون بفارغ الصبر، أولهم المخرج الفرنسي البولندي رومان بولانسكي، كما خصصت "مجلة تايم"عددا كاملا للعمل، كان فيما سبق مليئا بنظر النقاد بالتلميحات والألغاز المزعجة، فما أصعب تقدير الكتاب، وأغلب من نجلس معهم اليوم من الفئة المثقفة يعدون أنفسهم نقادا للأدب، فإذا لم يحب الكتاب يهدد المؤلف بنقده، واستخلاصا لما سبق، يحضر قول جورج ساند الذي يصلح لكل زمن: ما أسهل النقد وما أصعب الكتابة!