التاريخ الدستوري لسوريا: المواثيق السابقة والآفاق المستقبلية

مع سقوط الأسد سقط دستور عام 2012

ويكيبيديا
ويكيبيديا
ترأس الرئيس هاشم الأتاسي ثلاث مرات صياغة أول ميثاق لسوريا في عام 1920، والثاني في عام 1928، والثالث في عام 1950، مما أكسبه لقب "أبو الدستور"

التاريخ الدستوري لسوريا: المواثيق السابقة والآفاق المستقبلية

في حديثه مع قناة "العربية" في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، قال أحمد الشرع، قائد العمليات العسكرية في سوريا: "إن كتابة دستور جديد للبلاد قد يستغرق ما لا يقل عن ثلاث سنوات. أما الانتخابات البرلمانية فقد تستغرق أربع سنوات، والحوار الوطني حتى منتصف فبراير/شباط المقبل".

الأولويات بالنسبة للشرع كانت واضحة جدا: استعادة الأمن في سوريا، حل الفصائل المسلحة، النهوض بالاقتصاد السوري، وتحسين الخدمات والأوضاع المعيشية. تعود "المجلة" إلى تاريخ سوريا الدستوري، وأبرز المحطات والمواد التي وقف عندها المشرعون منذ سنة 1920.

البداية كانت مع الدستور العثماني

كان إقرار الدستور العثماني حدثا كبيرا في مطلع العهد الحميدي (عهد المشروطية الأول)، ولكن السلطان عبد الحميد، وافق عليه مجبرا وعلى مضدد، وصادق عليه يوم 13 ديسمبر سنة 1876. ثم عاد وتراجع بعد هزيمة بلاده في حربها مع روسيا سنة 1878، قبل أن يُعيد العمل بالدستور في أعقاب الانقلاب العثماني سنة 1908، الذي قيّد صلاحيات عبد الحميد الثاني قبل الإطاحة به بشكل نهائي في أبريل/نيسان 1909. ولكن الشعب السوري احتفل كثيرا بالدستور، وتبارى في مجده الخطباء، وعدّوه نقلة نوعية في تاريخ البلاد. قالوا للناس، وتحديدا البسطاء منهم الذين لم يسمعوا بكلمة "دستور" في حياتهم، إنه سيصون حقوقهم وحقوق أولادهم، ويؤسس لبلد ديمقراطي وتعددي، متين من الداخل وغير قابل للاختراق. ولكن كل هذه الوعود ذهبت أدراج الرياح بعد إزاحة السلطان عبد الحميد عن العرش سنة 1909 وأثناء فترة حكم "جمعية الاتحاد والترقي" في إسطنبول، التي شهدت اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 والثورة العربية الكبرى عام 1916، مرورا بالإعدامات العثمانية في بيروت سنة 1915، وفي دمشق وبيروت سنة 1916.

شترستوك
الملك فيصل 1921

دستور الملك فيصل الأول

بعد انتهاء الحرب العظمى، وتنصيب الأمير فيصل بن الحسين حاكما عربيا على سوريا ثم تتويجه ملكا في يوم 8 مارس/آذار 1920، دعا الأخير إلى وضع أول دستور ملكي للبلاد، وترأس اللجنة الدستورية "رئيس المؤتمر السوري العام" (البرلمان) هاشم الأتاسي، أحد أبرز الشخصيات السورية نزاهة ووطنية وحكمة. ضمّت هذه اللجنة نائب حلب سعد الله الجابري (الذي أصبح رئيسا للحكومة سنة 1943)، وزميله نائب حمص وصفي الأتاسي، وأستاذ القانون في معهد الحقوق عثمان سلطان، ومعهم الوجيه المسيحي ثيودور أنطاكي (نائب حلب أيضا) وسعيد حيدر (نائب بعلبك)، والشيخ عبد القادر الكيلاني (نائب حماة).

بعد الإطاحة بالملك فيصل، وفرض الانتداب الفرنسي على سوريا سنة 1920، أوقف العمل بالدستور حتى سنة 1928، يوم دعت السلطات الفرنسية لانتخاب جمعية تأسيسية لكتابة دستور جديد للبلاد

قيّد دستور عام 1920 من أحلام وطموحات الملك فيصل الأول، وحوّله من حاكم مطلق- كما أراد البعض له أن يكون- إلى ملك دستوري بصلاحيات محدودة، خاضع للمساءلة من قبل مجلس النواب السوري المنتخب. جاء في الدستور أنه يحق لثلث أعضاء المجلس اختيار خليفة للملك عند وفاته، في حال عدم وجود ولي للعهد من أبنائه، وبأنه بات بحاجة لموافقة غالبية أعضاء المجلس التشريعي، قبل إعلان الحرب أو إبرام الاتفاقيات الدولية. ولكن رئيس السلطة التشريعية الشيخ رشيد رضا، الذي خلف الأتاسي في رئاسة المؤتمر السوري العام في مايو/أيار1920، لم يعترض على المادة 13 من الدستور، التي نصت على حرية المعتقد والأديان، ولم يُصر على أن تكون الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع في المملكة السورية الوليدة. الذكر الوحيد لدين الإسلام كان في مادة دين الملك، وهي المادة الثالثة من الدستور التي جاء نصها: "حكومة المملكة العربية السورية، حكومة ملكية مدنية نيابية، عاصمتها دمشق، ودين ملكها الإسلام". وقد دافع الشيخ رشيد رضا عن موقفه أمام المحافظين، قائلا: "إنه وبتحييد الدين عن الدستور كان يسعى لسحب ذريعة التدخل الأوروبي في شؤون سوريا المستقبلية بحجة حماية الأقليات، كما حدث في دمشق بعد فتنة عام 1860". وكان يُشير طبعا إلى إرسال قوات فرنسية إلى السواحل السورية يومها لحماية المسيحيين، بعد تعرضهم لمذبحة كبيرة في يوليو/تموز1860. غضب فيصل من هذا الدستور، وقال لرئيس المجلس: "من أنتم؟ أنا الذي خلقت سوريا". فرد الشيخ رضا عليه بغضب مماثل: "أأنت خلقت سوريا؟ سوريا خُلقت قبل أن تُخلق".

دستور عام 1928

بعد الإطاحة بالملك فيصل، وفرض الانتداب الفرنسي على سوريا سنة 1920، أوقف العمل بالدستور حتى سنة 1928، يوم دعت السلطات الفرنسية لانتخاب جمعية تأسيسية لكتابة دستور جديد للبلاد، بدلا من الدستور الملكي. حددت الانتخابات في يومي 10 و24 أبريل 1928، وتحالف هاشم الأتاسي- بصفته رئيسا للكتلة الوطنية هذه المرة- مع رئيس الحكومة تاج الدين الحسني، تجنبا لأي فعل أو تعطيل قد يقوم به الأخير من خلال وزارة الداخلية المشرفة على تلك الانتخابات. تقرر تقديم لائحة مشتركة بين الطرفين في كل الدوائر الانتخابية: 6 مرشحين عن الحكومة، و4 مرشحين عن الكتلة الوطنية. فازت الكتلة الوطنية بسبعة مقاعد من أصل تسعة مقاعد عن العاصمة السورية، وفاز الشيخ تاج بمعهده، وكان المقعد الأخير عن مدينة دمشق للمرشح اليهودي يوسف لينادو، وهو من وجهاء الطائفة الموسوية. في حلب نجحت قائمة عميد الكتلة الوطنية إبراهيم هنانو كاملة، علما بأن نسبة الاقتراع في عاصمة الشمال لم تتعد (35 في المئة)، وكانت المشاركة أعلى في حمص (50 في المئة)، حيث فازت قائمة هاشم الأتاسي كاملة، وكذلك في حماة (50 في المئة) أيضا.

وفقا للمادة 68، حدد دستور عام 1928 ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات، التي طالب مجموعة من النواب بتعديلها في مطلع عهد الاستقلال للسماح بولاية ثانية للرئيس شكري القوتلي المنتخب سنة 1943

الجمعية التأسيسية

عقدت الجمعية التأسيسية اجتماعها الأول بحضور 70عضوا في 9 يونيو/حزيران 1928، وانتُخب هاشم الأتاسي رئيسا، وفتح الله أسيون وفوزي الغزي نوابا له. كما انتخب إبراهيم هنانو رئيسا للجنة صياغة الدستور، يعاونه فوزي الغزي وفائز الخوري، وكلاهما من ألمع أساتذة القانون في الجامعة السورية. ووضعوا دستورا عصريا للدولة السورية، مستلهما من الدساتير الأوروبية الحديثة، ولكن الفرنسيين اعترضوا على ست مواد متعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية، وحدود سوريا الطبيعية. رفضت المادة الثانية من الدستور الاعتراف بحدود اتفاقية "سايكس بيكو" المبرمة أثناء الحرب العالمية الأولى بين حكومة فرنسا ونظيرتها البريطانية، وأعطت المادة 73 صلاحيات إعلان العفو العام إلى رئيس الجمهورية، والمادة 74 نصت على حق الرئيس السوري في إبرام الاتفاقيات الدولية، التي أراد الفرنسيون أن تبقى في يد المفوض السامي. وجاء في المادة 112 حق رئيس الجمهورية في إعلان الأحكام العرفية، كما لم تتطرق مسودة الدستور إلى سلطة الانتداب، فطالب الفرنسيون بتعديل هذه المواد وإضافة المادة رقم 116 للاعتراف بشرعية الانتداب في سوريا، ولكن أعضاء الجمعية التأسيسية رفضوا الانصياع لهذا المطلب وفي 11 أغسطس/آب 1928 صوتوا على الدستور دون أي تعديل، ووافقوا عليه بالإجماع. فكان رد الفرنسيين في تعطيل الجمعية التأسيسية إلى أجل غير مسمى اعتبارا من 5 فبراير 1929، ثم حلّها بشكل نهائي في 14 مايو/أيار من العام نفسه. ثم عاد الفرنسيون وفرضوا الدستور بمرسوم اعتبارا من 22 مايو، مع تعديل المواد الإشكالية، وفرض المادة 116 التي عرفت بمادة المفوض السامي. 

الرئيس شكري القوتلي

التعديلات الدستورية

وفقا للمادة 68، حدد دستور عام 1928 ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات، التي طالب مجموعة من النواب بتعديلها في مطلع عهد الاستقلال للسماح بولاية ثانية للرئيس شكري القوتلي المنتخب سنة 1943. وقد أدى هذا التعديل إلى ولادة معارضة منظمة ضد حكم القوتلي في حلب، انبثق عنها تأسيس "حزب الشعب" سنة 1948، ومن أبرز التعديلات أيضا كان تعديل المادة المتعلقة بالجيش السوري بعد تأسيسه في 1 أغسطس/آب 1945، وإسقاط المادة 116، مادة المفوض السامي، بعد جلاء الفرنسيين في 17 أبريل/نيسان 1946.

وضع مهندس الانقلاب وقائد الجيش حسني الزعيم دستورا جديدا للبلاد، كان أبرز ما جاء فيه إعطاء المرأة السورية حق الانتخاب. ولكن عهد الزعيم كان قصيرا للغاية، ولم يستمر أكثر من 137 يوما

أبو الدستور

بقي دستور عام 1928 ساريا طيلة مرحلة الانتداب وحتى مطلع عهد الاستقلال، ثم جاء الانقلاب الأول ليطيح به، وبالرئيس شكري القوتلي في 29 مارس/آذار1949. ووضع مهندس الانقلاب وقائد الجيش حسني الزعيم دستورا جديدا للبلاد، كان أبرز ما جاء فيه إعطاء المرأة السورية حق الانتخاب. ولكن عهد الزعيم كان قصيرا للغاية، ولم يستمر أكثر من 137 يوما، وبعد الإطاحة به ومقتله في 14 أغسطس 1949، عاد هاشم الأتاسي إلى الحكم ودعا إلى انتخاب جمعية تأسيسية جديدة مكلفة بوضع دستور جديد لسوريا، بدلا من دستور حسني الزعيم، على أن تتحول فور إتمام مهامها إلى مجلس نيابي بصلاحيات تشريعية كاملة. وبهذا يكون هاشم الأتاسي قد أشرف على ثلاثة دساتير سورية، في الأعوام 1920 و1928 و1949، ما جعله ينال لقب "أبو الدستور"، علما بأن البعض أطلق هذا الاسم على فوزي الغزي الذي اغتيل سنة 1929، ورفع في جنازته شعار: "مات أبو الدستور.. فليحيا الدستور".

دستور عام 1950 وجدلية دين الدولة

انتخب الدكتور مصطفى السباعي عضوا في الجمعية التأسيسية، وقد سعى إلى تعديل المادة الثالثة من الدستور، المتعلقة بدين رئيس الجمهورية، وتوسيعها لكي تشمل دين الدولة أيضا وتقول جهارة إنه الإسلام. وقد وقف خلف هذه الحملة نواب الإخوان المسلمين، ونشروا على الصفحة الأولى من جريدتهم "جريدة المنار"، مقالا افتتاحيا بعنوان: "نريد أن يكون الإسلام دين الدولة الرسمي"، متذرعين بوجود هذه المادة في دستور الدولة العثمانية، وفي دستور المملكة المصرية الذي وضع في عهد الملك فؤاد الأول. 
وعند استشارته في تعديل الدستور، قال وزير العدل أسعد الكوراني: "إنه يفضل شطب مادة دين رئيس الجمهورية ليتم انتخاب العلامة فارس الخوري رئيسا للبلاد، تكريما لخدماته الوطنية، ولأنه يستحق هذا المنصب".
وخلال مناقشة موضوع دين الدولة سنة 1950، قام وفد من المشايخ بزيارة رئيس الحكومة خالد العظم، أملا بالحصول على دعم منه، لأجل تعديل المادة الثالثة، ولكنه ردهم خائبين، وقال: "إن السلطة التنفيذية لا تتدخل في هذا الأمر". كما حذرهم العظم قائلا: "أي ضغط يوجه من أي جهة كانت على اللجنة الدستورية سيقابل بحزم من الحكومة". 
كان دين الدولة قد نوقش خلال جلسات صياغة دستور عام 1928، واعترض يومها النائب نقولا خانجي على مادة دين رئيس الجمهورية، معتبرا أن فيها خرقا لمبدأ المساواة بين السوريين. نادى بحيادية الدولة تجاه كل الأديان ونوه إلى "حقوق المسيحيين في سوريا" الذين لهم فيها "حق ابن السيد لا ابن الجارية" أيده يومها نائب دمشق فائز الخوري، وتساءل كيف يمكنه الدفاع عن هذه المادة أمام المسيحيين عندما يقولون له: "إن إخوانكم المسلمين يضعون أمامكم سدا منيعا، أنت وسائر المسيحيين وسائر الأقليات". وقد دعا الخوري للوصول إلى يوم يسأل فيه المواطن عن دينه ويكتفي بالقول: "أنا سوري". 

أرشيف سامي مبيض
الشاه الشاب أثناء توليه منصب ولي العهد في إيران خلال زيارة قصيرة إلى دمشق في مارس 1939. ويقف بجانبه الرئيس هاشم الأتاسي ووزير الخارجية السوري فايز الخوري

تحدث يومها مطران حماة للروم الأرثوذوكس أغناطيوس حريكة، داعيا إلى "علمانية الدولة السورية" وقال: "إننا كثيرا ما كنا نعلن للأجنبي أن لا أقلية في البلاد إلا أقلية الخونة والمارقين. فماذا نقول لهم غدا إذا وجدوا في صلب دستورنا مادة تسجل علينا نحن النصارى أقلية؟". وكتب صاحب جريدة "القبس" نجيب الريس، وهو مسلم سنّي من مدينة حماة، مقالا مطولا في جريدته بعنوان "البلاد ليست لنا وحدنا".
شكل الرئيس هاشم الأتاسي لجنة لدراسة موضوع دين الدولة، وكان بين أعضائها العلماني أكرم الحوراني، والشيخ معروف الدواليبي (ممثلا عن حزب الشعب)، وكل من محمد مبارك ومصطفى السباعي (ممثلين عن الإخوان المسلمين). طالب الخوارنة والمطارنة بوضع دستور "يحترم الخالق" دون الدخول في قضية الأديان، وأثنى على "المؤتمر الأول لطلاب المدارس الثانوية"، المنعقد في حلب، والذي عرّف جمهورية سوريا بأنها: "جمهورية عربية مستقلة ديمقراطية تحترم جميع الأديان". ثم جاء رأي فارس الخوري، بصفته كبير الفقهاء القانونيين، الذي أدلى بحديث صحافي لجريدة "القبس" الدمشقية يوم 9 فبراير 1950، أكد فيه أن عدم فرض دين الدولة على الدستور لا يعني براءة الحكومة من الأديان. قال الخوري: "صحيح أن الغالبية تدين بالإسلام ولكن هناك من يعتنقون دينا آخر وهم أهل البلاد الأصليون". وقد ختم الخوري كلامه بالقول: "الدين لله والدولة للجميع، وجعل الإسلام دينا للدولة يعرضهم (أي المسيحيين) إلى الحرمان من الاشتراك في الأعمال الحكومية على مستوى واحد مع إخوانهم في هذا الوطن".

في سنة 1953، وضع دستور جديد مع انتخاب العقيد أديب الشيشكلي رئيسا للجمهورية، وبعد سقوط حكمه، أعيد العمل بدستور عام 1950 ولغاية قيام الوحدة مع مصر سنة 1958

بناء على اجتهاد فارس الخوري، بدأ أعضاء اللجنة الدستورية بالتفكير جديا بإسقاط مادة دين الدولة من النص، وأشاعوا ذلك في الصحف والمجالس السياسية. تدخلت دول إقليمية لمنع ذلك، وأرسل الملك الأردني عبد الله الأول برقية إلى الرئيس الأتاسي، عبّر فيها عن قلقه من إسقاط هذه المادة من دستور سوريا. ويبدو أن هذه التدابير نجحت، فصدرت مسودة أولى للدستور في يوم 16 أبريل 1950، وفيها المادة الثالثة التي تنص بوضوح على أن دين الدولة هو الإسلام. اعترض النواب المسيحيون كافة، وطلبوا من اللجنة إعادة النظر في المادة الثالثة. انتفض نائب إدلب الشيخ عبد الوهاب سكر، معتبرا أن اللجنة قالت كلمتها، ولا يجب العدول عن المادة الثالثة بأي شكل من الأشكال. أيده القول نائب دمشق زكي الخطيب، الذي استنكر محاولات تعديل المادة الثالثة وقال: "إن العروبة إذا جُرّدت من الدين، فلا يبقى منها شيء". 
هنا حصل تدخل مباشر من كنائس سوريا، ومن رؤساء الطوائف المسيحية كافة، الذين عبروا عن استيائهم برفض قبول التهاني بعيد الفصح، حتى من رئيس الجمهورية، إلى حين إعادة النظر بالمادة الثالثة. أرسلوا رسالة احتجاج رسمية إلى الرئيس الأتاسي، فاجتمعت اللجنة الدستورية واللجنة المصغرة المكلفة بصياغة المادة الثالثة، وقررت تعديل النص ليصبح دين رئيس الجمهورية هو الإسلام، وليس دين الدولة، مع إضافة فقرة تؤكد أن الفقه الإسلامي هو مصدر التشريع، وأن حرية المعتقد مصانة. كما تقرر أن يُضاف إلى مقدمة الدستور النص التالي: 
"ولما كانت أغلبية الشعب تدين بدين الإسلام، فإن الدولة تعلن تمسكها بالإسلام ومثله العليا، ويعلن الشعب عزمه على توطيد التعاون بينه وبين شعوب العالم العربي والإسلامي، وعلى بناء دولته على أساس الأخلاق القويمة التي جاء بها الإسلام والديانات السماوية الأخرى، وعلى مكافحة الإلحاد".

أ ف ب
الرئيس السوري شكري القوتلي (يمين) يستقبل الرئيس المصري جمال عبد الناصر في دمشق 18 يوليو 1958

دساتير لاحقة

في سنة 1953، وضع دستور جديد مع انتخاب العقيد أديب الشيشكلي رئيسا للجمهورية، وبعد سقوط حكمه، أعيد العمل بدستور عام 1950 ولغاية قيام الوحدة مع مصر سنة 1958. فرضت دولة الوحدة دستورها، وفي عهد الانفصال، عاد العمل بدستور عام 1950 لغاية مجيء حزب "البعث" إلى الحكم سنة 1963، الذي حلّ المجلس النيابي وفرض الأحكام العرفية وعطل الدستور. ثم جاء دستور عام 1973 الذي حاول فيه حافظ الأسد التلاعب بالمادة الثالثة وإسقاطها من النص، ولكنه لم ينجح، ولكنه فرض المادة الثامنة الكريهة التي نصت على أن حزب "البعث" هو القائد للدولة والمجتمع، وقام باعتقال كل من اعترض على هذا النص أو كتب ضده. وبقيت المادة الثامنة قائمة بالإكراه والغصب حتى سنة 2012، مع مواد أخرى أعطت حافظ الأسد صلاحيات استثنائية، وجعلته رئيسا لمجلس القضاء الأعلى، ولمجلس الوزاء، وللجيش والقوات المسلحة. 
بعد اندلاع الثورة السورية سنة 2011، شكّل بشار الأسد لجنة لتعديل الدستور، جاءت بالتعيين وليس بالانتخاب، وعلى الرغم من إسقاط المادة الثامنة، إلا أن "البعث" بقي مهيمنا على كل مفاصل الحياة في سوريا، وظل يحكم لغاية سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر الماضي. ومع سقوط الأسد، سقط حزب "البعث" وسقط معه دستور عام 2012.

font change