"إميليا بيريز" الأكثر ترشيحا لجوائز الأوسكار: حكاية خيالية عن تحوّل المجتمعات

13 ترشيحا بينها أفضل فيلم وإخراج وسيناريو

Amy Sussman / GETTY IMAGES NORTH AMERICA / Getty Images via AFP
Amy Sussman / GETTY IMAGES NORTH AMERICA / Getty Images via AFP
(من اليسار) أدريانا باز، إدغار راميريز، سيلينا غوميز، جاك أوديار، كارلا صوفيا غاسكون، وزوي سالدانا

"إميليا بيريز" الأكثر ترشيحا لجوائز الأوسكار: حكاية خيالية عن تحوّل المجتمعات

فرض الفيلم الغنائي الفرنسي الجنسية الإسباني اللغة "إميليا بيريز"، نفسه بقوة على المشهد السينمائي منذ أواخر العام الماضي، بعدما طرحته شبكة "نتفليكس"، المساهمة في إنتاجه على منصاتها في الخارج. قبل إتاحته للعرض الجماهيري، كان حصل على ثلاث جوائز من مهرجان كان السينمائي (أفضل ممثلة، وجائزة خاصة، وجائزة شريط الصوت)، ثم في "غولدن غلوبز" (أفضل فيلم غير إنكليزي، وأفضل أغنية وأفضل ممثلة مساعدة زوي سالدانا)، إلى جانب منافسته أخيرا في 13 فئة ضمن مسابقة الأوسكار، وغيرها من الجوائز والترشيحات.

الفيلم الذي يجذب ملصقه العين بألوانه الدافئة، وتصدر ثلاث نساء في بعض نسخه، من بينهن ممثلة عابرة جنسيا (ترانس) هي كارلا صوفيا غاسكون، يقدم عالما بصريا ونفسيا غريبا وحيويا، جاعلا من موضوعه الأساس حكاية تحول، نصف خيالية نصف حقيقية، لزعيم عصابة مخدرات في المكسيك، من رجل إلى امرأة.

انقسام حاد

لا منطقة وسطى بالنسبة إلى تلقي "إميليا بيريز"، فإما أن يكون الفيلم الأحب عند البعض، وإما الفيلم الأبشع عند البعض الآخر. تغذي هذه القطبية، وانقسام الآراء حوله، حالة من التطرف الفني الذي يمارسه مخرجه ومؤلفه السينمائي الفرنسي جاك أوديار. هو الذي يبدو هنا، كأنه ينفذ حلما رآه في منام، بتبذير تام، وشجاعة وإغراق. عالمه السينمائي يرسمه في بلد لا يعرفه، هو المكسيك، يؤسّس له في مدينة حقيقية إنما ليس تماما (مكسيكو سيتي)، ويختار ممثلين غير إسبان في مجملهم، مع أن الإسبانية هي اللغة التي تدور بها غالبية الحوار في الفيلم. أوديار المساهم في الإنتاج، اقتبس القصة من أوبرا بالعنوان نفسه، ورواية للكاتب بوريس رازون بعنوان Écoute.

لا منطقة وسطى بالنسبة إلى تلقي "إميليا بيريز"، فإما أن يكون الفيلم الأحب عند البعض، وإما الفيلم الأبشع عند البعض الآخر

ومع أن أفلامه السابقة، لا تسير على وتيرة واحدة، إلا أن "إميليا بيريز" يتصل إلى حد ما بفيلمه الشهير "نبي" Un prophète (2009)، الذي حاز جائزة كبرى في مهرجان كان آنذاك، وترشح للسعفة الذهبية. مالك في "نبي" يدخل سجن الرجال في فرنسا، رقيقا وأعزل، ليقع في قبضة عوالم المجرمين الذكورية المهيمنة بقوانينها، ويضطر إلى الخضوع لها، ويكبر تدريجيا فيها، إلى أن يصبح هو نفسه مركز قوى يخشى الآخرون الاقتراب منه. في المقابل، يظهر مانيتاس في بداية "إميليا بيريز" بوصفه أحد سادة تجارة المخدرات في مكسيكو سيتي، يملك أن يقتل من يريد، وأن يدفن ضحاياه بلا أدنى مساءلة قانونية، لكنه يغادر هذا العالم طوعا، ويتخلى عن معظم امتيازاته، مقررا الخروج من عالم الذكور الإجرامي هذا (حظيرة الخنازير كما يصفها وهو يتحدث مع الطبيب) ليصبح إيميليا بيريز، السيدة الجميلة، العاطفية، التي تنبعث كطائر الفينيق من ماضي الدم، إلى حاضر الحب. دور الرجل والمرأة لعبتهما كارلا صوفيا جاسكون. أي أن "إميليا بيريز" يظهر بشكل ما، كنسخة مقلوبة لفيلم جاك أوديار السابق "نبي".

اختفاء وانبعاث

ومع ذلك، فإن هذا الانبعاث، ومن قبله الاختفاء التدريجي لشخص مانيتاس، وهو في الآن نفسه زوج لسيدة شقراء جميلة جيسي (سيلينا غوميز)، وأب لطفلين، ليس ما يبدأ به الفيلم. إنه بالأحرى يبدأ عند المحامية ريتا (زوي سالدانا)، المجتهدة الصبورة، لكن الخاضعة بشدة لمنظومة الرأسمالية الكاذبة، التي تقلب الحقائق من أجل مصلحتها الخاصة. مثلا تدافع ريتا عن رجل أعمال قتل زوجته، دافعة بأن السيدة المقتولة انتحرت، وهي تعرف كذبها، لكن هذه إرادة ومصلحة من يدفع. كما تكتب هي المرافعات النيرة التي يلقيها زميلها المحامي الأكبر سنا، على أنها من بنات أفكاره، وتنكر نفسها، كي تستمر وسط هذه المنظومة الظالمة. ولذا فإن لقاء ريتا بمانيتاس، يصبح نوعا من لقاء الأضداد، في محاولة قدرية لإيجاد مخرج لكليهما. لأن مانيتاس الذكي يعرف قدراتها التي تتجاوز حقيقة وضعها، ويقرر عبر خطفها وتهديدها المباشر (اللغة التي يعرفها) أن يمنحها دورا في مسرحية انبعاثه، مقابل نقلها من وسط عملها الخانق إلى الثراء.

الأغنيات ليست كالأغنيات التي يمكن سماعها في أي مكان آخر، إنها جمل حوارية ترتقي إلى مستوى الأناشيد العفوية

لمن لم يشاهد "إيميليا بيريز"، ينبغي القول إن الفيلم موسيقي غنائي راقص في الأساس، وإن الكثير من الحوارات الأساسية في الفيلم، تقال عبر الأغنيات. كما ينبغي القول إن هذه الأغنيات نفسها ليست كالأغنيات التي يمكن أن نسمعها في أي مكان آخر، إنها جمل حوارية عادية يأخذها مؤلفا الكلمات والألحان (كليمون ديكول وكامي) إلى مستوى الأناشيد العفوية، من تعليق صغير، إيماءة، كلمة، أو حتى نقرة بالأصابع على طاولة معدنية. فهل هذا ما يجعل الأغنيات جزءا لا يتجزأ من لحم الفيلم، وتلتصق بالذاكرة بسهولة في الآن نفسه؟

Pathé
زوي سالدانا في "إميليا بيريز"

الأسلوب الفني

الغناء والرقص هما المساحة الوحيدة التي تمارس فيها امرأة مقموعة مثل ريتا حريتها، وتعبر فيها عن هواجسها، مخاوفها وخواء حياتها، بعد أن تحقق لمانيتاس هدفه، ويمسي شخصيتنا الرئيسة إيميليا بيريز، وتمسي هي ثرية. وكأن الثراء ليس الإجابة الكافية. وكأن هناك استياء وجوديا مزمنا يصيب بعض النساء في المجتمعات الشديدة البطريركية والرأسمالية، كالمجتمع الذي عاشت فيه إميليا بيريز.

ملصق فيلم "إميليا بيريز"

بينما تبدو إميليا أقدر مرات على الشعور بجرعات من السعادة الفائرة، وهي التي قالت لطبيبها خلال ماضيها الذكوري: "إما هذه العملية، وإما الانتحار، ليس لدي حلول أخرى". ولا تتعلق مسألة التحول هنا فقط بالشعور بالجسد والهوية الجنسية، إنما هي في الأصل موقف إنساني من الوجود والعالم والنظام، الذي قد لا نصدق بداية أن رجل عصابة مثل مانيتاس قادر على اتخاذه. وعي نبيل، مفهوم أنه يفرض عليه أيضا تضحيات: "سيكون عليّ التخلي عن الكثير"، عن طفليه وزوجته. لا تفهم ريتا هذا الخيار، لكن الخوف، والحاجة، يدفعانها إلى تحقيق هدف مانيتاس، بنجاح كبير، ما يبني لاحقا هذه الثقة خاصة بينها وبين إيميليا. وجائز أن نقول أيضا، هذا الشعور بالأختية والتعاطف بينهما، حين تقرر إميليا الظهور مجددا في حياة ريتا، بشخصها الجديد، ومحاولة استعادة طفليها من جيسي.

لا تتعلق مسألة التحول هنا فقط بالشعور بالجسد والهوية الجنسية، إنما هي في الأصل موقف إنساني من الوجود والعالم والنظام

تتماشى الموسيقى والغناء والرقص، كأسلوب فني يروي به جاك أوديار حكايته التي تشبه نوعا حكايات الجنيات، مع خيالية القصة، ربما لأنه يصعب على إنسان عادي، أو رجل له كل تلك السلطة على الرقاب، أن يتخلى عنها بحثا عن مجرد الشعور بحقيقته. على الأقل لا يحدث هذا في العالم الذي نعرفه. مما يتماشى مع سعي أوديار لأسطرة إميليا بيريز، إذ لن تعبر بين العوالم فقط، بل ستقود أيضا مؤسسة خيرية تحاول مساعدة ضحايا العصابات القديمة، بما في ذلك عصابتها، كأنها بهذا تحاول التكفير عن ذنبها. من جديد تلعب ريتا دورا في حياة إيميليا الزاهرة، وهي لا تكاد تتحرك من مكانها.

Pathé
كارلا صوفيا غاسكون وأدريانا باز في "إميليا بيريز"

إلى هذا يخطر السؤال السينمائي: هل يمكن بهذه السهولة الصعبة، إن جاز التعبير، أن تتحول حياة المرء، وبالتالي المجتمعات، بلا آثار جانبية، إلا من اضطرار إميليا مثلا لتقديم نفسها لطفليها، لا على أنها الأب القديم، بل على أنها العمة التي ظهرت من العدم، وستتولى رعايتهما؟ هنا يكمن التحول في السيناريو، الذي ينقل الفيلم من خانة الخيالية الأسطورية، إلى خانة الواقعية السوداء لعالم الجريمة.

سؤال الواقع

كثيرون ممن هاجموا الفيلم مالوا إلى محاكمته وفقا لقواعد الواقع. اعترض بعض المؤثرين المكسيكيين على لسان بعض الشخصيات الإسبانية، بأنها ليست دقيقة بما يكفي. وحاجج آخرون بأن أوديار لا يعرف شيئا عن المكسيك، وبأن الصورة التي قدمها لمكسيكو سيتي في الفيلم بعيدة عن الواقع، وهو ما لم ينفه في طبيعة الحال، بل قال إنه حاول تقديم صورة كاريكاتورية مبسّطة من الشخصيات وعالمها. علاوة طبعا، على أن ظهور ممثلة متحولة جنسيا في دور بطولة في الفيلم، قد يكون محفزا على التشنج، أو على إطلاق خطابات كراهية، تشعر بالاستفزاز المسبق من مضمون الفيلم.

يقدم "إميليا بيريز" تجربة مشاهدة سينمائية أقرب إلى الحلم الملوّن الذي يتخلله الكثير من الظلام، لكن أيضا احتمالات عديدة للأمل

ومع هذا، فإن "إميليا بيريز"، لا يمكن محاكمته واقعيا، إنه عمل خيالي، وإميليا نفسها شخصية أشدّ إخلاصا وإنسانية من أن تبقى على قيد الحياة. لم يمت مانيتاس القديم تماما. الأبجدية التي يملكها عن العنف كانت واسعة، يسهل استدعاؤها، لا سيما حين تقرر جيسي أن ترحل مع عشيقها السابق، رفقة طفليها، وهما طفلا إمليا، وتندلع حرب عنيفة بين الطرفين. لا تطفئها حتى قصة الحب التي عاشتها إيميليا، مع امرأة أخرى ضحية انتهاك سابق، هي إبيفانيا (أدريانا باز). وكأن شيئا في هذا العالم لا يستقيم بلا اللجوء إلى العنف، وإن كان ثمنه، هذه الحياة الهشة الجميلة التي اختبرتها إميليا بيريز، واختبرناها معها.

Pathé
سيلينا غوميز في "إميليا بيريز"

إضافة إلى أفكاره التقدمية والإنسانية الناقدة للمجتمعات المعاصرة، يقدم "إميليا بيريز" تجربة مشاهدة سينمائية أقرب إلى الحلم الملوّن الذي يتخلله الكثير من الظلام، لكن أيضا احتمالات عديدة للأمل. الأداء الممتع لجميع الممثلين، لا سيما النساء الأربع اللواتي أدّين الأدوار الأساسية. أما مسألة أن تجري الأحداث في المكسيك، وهو فيلم فرنسي، فربما لأن المرأة في المجتمعات الفقيرة والنامية، في البلاد التي تعاني من ضعف القانون وسيادة الإجرام والفساد، تعاني أكثر وفي طبيعة الحال من نظيرتها في المجتمعات الأوروبية، التي تتسم بحد أدنى من حقوق النساء، ومن خطابات تحررية يشجعها تطبيق القانون. من هنا فقط كان يمكن أن تصبح إميليا بيريز بطلة، ومن هنا أيضا تحولت إلى أسطورة، ثم وبالاصطدام بالواقع إلى قديسة، أيقونة تذكرنا بالدم الذي ننزفه، بكل الحب الذي ليس في وسعنا أحيانا أن نحسه إلا في القصص الخيالية.

font change