"عباقرة وأشباح" يدحض وهم "اضمحلال" الأدب الروسي

مسيرة إبداعية تواصلت في زمن "الستار الحديدي"

AlMajalla
AlMajalla

"عباقرة وأشباح" يدحض وهم "اضمحلال" الأدب الروسي

لطالما تساءل المهتمون بالأدب عموما، والأدب الروسي بشكل خاص، عن أسباب اضمحلال هذا الأدب في العهد السوفياتي، وانحسار أو انعدام ظهور أدباء عمالقة كالسابق. تساؤل أو افتراض كهذا، يجيب عنه كتاب "الأدب الروسي عباقرة وأشباح"، الصادر حديثا عن "دار جبرا" في الأردن، للكاتب والمترجم المتخصص بالأدب الروسي د. جودت هوشيار. والكتاب بمقالاته الثرية التي فاقت العشرين، يدحض بشكل غير مباشر زعم أو وهم اضمحلال هذا الأدب. وهو يتقصى بتشويق وإمتاع، وقبل كل شيء بدراية، مراحل وأطوار الأدب الروسي في مختلف اتجاهاته وألوانه، كاشفا في الوقت ذاته الكثير من خفاياه وخلفيات آثاره المهمة والذائعة لبعض كبار كتابه.

في مقدمته المكثفة والمعنونة بـ"لماذا أكتب كثيرا عن الأدب الروسي؟"، يشير الكاتب إلى الأهمية الفائقة لهذا الأدب، فقد كان القرن التاسع عشر هو قرن الأدب الروسي على صعيد العالم ككل، مؤكدا أن قوة هذا الأدب امتدت آثارها إلى آداب الشعوب الأخرى، حتى "أبعد زاوية من عالمنا الفسيح"، حسب تعبيره، ناقلا إلى القارئ ما شهده هو شخصيا حينما كان طالبا في موسكو خلال حقبة الستينات المنصرمة، من وفود أعداد كبيرة من الطلبة الغربيين لدراسة اللغة الروسية في جامعة موسكو وسواها من معاهد، رغم صعوبتها، لا لشيء إلا ليقرأوا باللغة الأصل "روايات تولستوي، ودوستويفسكي، وقصص تشيخوف، وشعر بوشكين، وليرمنتوف، وماياكوفسكي، وتسفيتايفا، ويسينين".

وعلى الرغم من إقرار الكاتب بواقع انعدام الحريات الشديد الذي عرفته الحقبة السوفياتية، خاصة في عهد ستالين، إلا أن الشعب الروسي بقي يقدم إلى العالم أدباء مرموقين، كما هو الحال، مثلا، مع يوري نجيبين (1920 1994) الذي يصفه الكاتب بأنه واحد من أنبغ الكتاب الروس في العهد السوفياتي و"يقف على قدم المساواة مع كبار الكتاب الكلاسيكيين"، ولودميلا أولتسكايا (1943-) التي انتقلت للعيش في برلين بعد بدء الحرب على أوكرانيا. وكانت انتقدت علنا، وفي أكثر من مناسبة سياسة بوتين. كذلك هناك سيرغي دوفلاتوف (1941ـ 1990)، القاص والروائي الذي حظي بمقالين في الكتاب. والمجال يضيق بذكر جميع الكتاب المميزين الذين تناولهم الكتاب وناقش أعمالهم.

ما خفي على القارئ

في سياق تسليط الضوء على خلفيات بعض الأعمال الأدبية الشهيرة، يتناول الكاتب، إضافة إلى عملين لتولستوي، هما "آنا كارينينا" و"الحاج مراد"، رواية "الشياطين" لدوستويفسكي، وكان توقف بداية معها مبينا اعتماد هذه الرواية على وقائع حقيقية حدثت عام 1870 وكان بطلها العدمي الروسي سيرغي نيتشايف، مؤسس تنظيم "انتقام الشعب" وذلك لقتله الطالب إيفان إيفانوف بوحشية لتشكيكه بالطروحات الثورية له. فقد كان نيتشايف بمثابة الديكتاتور في منظمته التي أراد أن يخضع فيها الجميع لطاعته. وكان لمحاكمته أصداء كبيرة في المجتمع الروسي، وقد أبدى دوستويفسكي اهتماما بالقضية ومتابعة فصول المحاكمة، ومن ذلك ولدت فكرة رواية "الشياطين"، أو "المجانين" في ترجمة أخرى. غير أن هذه الرواية المنشورة بين عامي 1871 ـ 1872، استقبلت بفتور في روسيا، في الوقت الذي حظيت فيه بالتقدير في الوسط الثقافي الغربي لبعديها "الاجتماعي والأخلاقي"، وقد أثرت بشكل كبير في كل من كامو ونيتشه، مثلما يشير الكاتب، الذي يؤكد أيضا أن الرواية كانت بمثابة نبوءة، إذ وصفت بدقة "الكارثة" التي حلت بروسيا، بعد خمس وأربعين سنة من نشرها، والحديث هنا عن ثورة أكتوبر 1917.

يقر الكاتب بواقع انعدام الحريات الشديد خلال الحقبة السوفياتية، خاصة في عهد ستالين، إلا أن الشعب الروسي بقي يقدم إلى العالم أدباء مرموقين

في "الشياطين" يخلع دوستويفسكي كل صفات الشر على بطله فيرخوفنسكي، فهذا لا يتورع عن القيام بأي عمل دنيء ولا يعترف بأي مقدس وسام، متخذا من الفكر الثوري وسيلة، وهو لا يؤمن بسوى القوة والسعي إلى وضع الناس، بأرواحهم وعقولهم، تحت سيطرته. وفي هذا توصيف للحكم الشمولي الذي عانى منه الروس لاحقا. غير أن كاتبا عبقريا آخر يكاد يكون مطموس الاسم، قياسا إلى دوستويفسكي، هو يفغيني زامياتين (1844ـ 1937) طرح مسألة النظام الشمولي كثيمة محورية في روايته "نحن"، الرواية "الرائدة عالميا في أدب الديستوبيا" والمكتوبة في باريس عام 1920، التي هاجر إليها بعد تعرضه للسجن لفترة قصيرة عقب ثورة 1917.

JOEL SAGET - AFP
الكاتبة الروسية لودميلا أوليتسكايا

وفي المقال المكرس للرواية، يضيء هوشيار عليها، مقارنا إياها برواية جورج أورويل الشهيرة "1984". وفي الوقت الذي حققت فيه رواية أورويل الشهرة والنجاح المعروفين، بقيت رواية زامياتين وكاتبها، في الظل بشكل أو آخر. وهو ما يدعو إلى التساؤل مع أورويل الذي تساءل بدوره من قبل وهو في معرض حديثه عن تأثر ألدوس هكسلي في روايته "عالم جديد شجاع" (1932)، برواية زامياتين، عن سرّ إغفال الإشارة إلى ذلك تماما، مع أن رواية زامياتين هي الأفضل. ولا يني الكاتب يعقد المقارنة بين "نحن" و"1984"، ليخلص ومعه القارئ إلى أن رواية زامياتين كانت الأساس لرواية جورج أورويل من خلال شواهد جوهرية عديدة من داخل الروايتين، وهي من الكثرة يتعذر معها الإشارة إليها جميعا، فضلا عن إشادة أورويل بالرواية وكتابته مقالا عنها نشره عام 1946.

يقارن الكاتب بين "نحن" و"1984"، ليخلص إلى أن رواية زامياتين كانت الأساس لرواية جورج أورويل

ومما كتبه أورويل: "إن أعضاء المجتمع الذين وصفهم زامياتين فقدوا فرديتهم إلى درجة أنهم يختلفون بالأرقام فقط. إنهم يعيشون في بيوت زجاجية لتسهيل مراقبة الشرطة لهم. الحب ممنوع والعلاقات الجنسية مقننة بشكل صارم... والدولة يحكمها رجل معروف باسم الراعي". تبين الفقرة السابقة بوضوح من بين أدلة أخرى، مدى تأثر أورويل برواية زامياتين.  

Dimitar DILKOFF - AFP
رجل يقرأ الترجمة الروسية لكتاب جورج أورويل "1984"

اضمحلال أم قمع؟

يكنّ غالبية القراء قدرا هائلا من التبجيل للأدب الروسي المكتوب قبل ثورة أكتوبر 1917، والإعجاب به، عبر قاماته الأدبية الكبرى المعروفة. على العكس من ذلك، صار ينظر إلى أدب العهد السوفياتي على أنه رديف لما هو دعائي، بفعل سيادة تيار الواقعية الاشتراكية. لكن هل يمكن الأخذ بهذا الانطباع أو الحكم، كحقيقة مسلم بها، أم أن الصورة أكثر تعقيدا وعمقا من ذلك بكثير؟ مع الإيغال في قراءة الكتاب وما يكشف عنه، يتيقن القارئ أن مشكلة خفوت وهج الأدب الروسي في الحقبة السوفياتية لا يعود في أساسه إلى نضوب معين هذا الأدب كما هو شائع، بل إلى مسألة جوهرية معروفة اتصف بها نظام الستار الحديدي، وهي قمع الحريات والتضييق عامة، وبشكل خاص على أصحاب القلم من أدباء ومفكرين، مما جعل من أعمال أدبية على درجة كبيرة من الأهمية والتميز، محجوبة من السلطات ومطاردة، فيما تُحتضَن أعمال عديمة الأهمية والقيمة الأدبية والترويج لها لانسجامها مع برنامج السلطة، وغني عن الشرح ما يمكن أن يتسبب به مناخ كهذا.

shutterstock
عرض عسكري لقوات حامية موسكو في الساحة الحمراء خلال احتفالات عيد العمال

ولعل زامياتين المخضرم الذي عاش العهدين القيصري والسوفياتي، مثل على حالة الإقصاء والتضييق، وإن لم يكن الوحيد. فعلى أهمية عمله الروائي المذكور آنفا، إلا أنه لم يستطع نشره في وطنه، حد أنه تشكى من "أن الكتابة لم تعد أمرا ممكنا" كما كتب ذلك في رسالة إلى ستالين عام 1931، بعد أن منعت روايته "نحن" من النشر وكذلك بعض أعماله الأخرى. وعلى إثر هذه الرسالة سمح له بالمغادرة إلى أوروبا، ليتوفى بعد ذلك في باريس عام 1937 (كما يذكر مترجم رواية "نحن" يوسف حلاق، في مقدمته للرواية الصادرة عن "دار أثر" عام  2016). وبسبب منع نشر الرواية في روسيا، نشرت في نيويورك مترجمة إلى الإنكليزية عام 1924، وبعد ثلاث سنوات نُشرت للمرة الأولى بلغتها الأصل في نيويورك أيضا (ولم تنشر كاملة باللغة الروسية إلا في عام 1988).

خفوت وهج الأدب الروسي في الحقبة السوفياتية لا يعود إلى نضوب معين هذا الأدب بل إلى مسألة جوهرية معروفة اتصف بها نظام الستار الحديدي، وهي قمع الحريات

وليس بعيدا عن مثال زامياتين، ما حدث للكاتب أناتولي مارينغوف (1897ـ 1962) صاحب رواية "الساخرون" التي رفضتها الرقابة السوفياتية فكان مضطرا إلى نشرها لدى دار نشر ألمانية عام 1928، وهوجم الكاتب بضراوة، بحجة "الانحياز إلى الحقائق التي تشوه عصر الشيوعية" وجند النقاد أقلامهم ضده، في الوقت الذي نجحت الرواية نجاحا كبيرا خارج الاتحاد السوفياتي. ففي ألمانيا وحدها صدرت منها خمس طبعات، إضافة إلى ترجمتها إلى أهم اللغات، وقال عنها الشاعر جوزيف برودسكي، في مقدمته للطبعة الفرنسية: "... تحفة فنية ومن أكثر الأعمال الروائية ابتكارا في الأدب الروسي في القرن العشرين". مع ذلك لم تنشر "الساخرون" في روسيا إلا في فترة البيريسترويكا، أي بعد ستين عاما.

Leonardo Cendamo/Getty Images
الكاتب الروسي ساشا سولكوف

وسوف يتكرر مثالا زامياتين ومارينغوف مع الأجيال اللاحقة، كما سنرى. فها هو الكاتب ساشا سوكولوف (1943- ) الذي يقارنه النقاد بجيمس جويس، واصفين أعماله بالثراء اللغوي، كما ينظر إليه كآخر الكتاب الروس الكبار، يكتب بعد محاولته الهرب عام 1962 من البلاد وسجنه، ومن ثم تظاهره بالجنون، تجنبا للتجنيد الإجباري، ليودع مصحة للأمراض العقلية "هذا هو المكان الأكثر حرية في البلاد، هنا يمكن المرضى أن يظهروا معارضتهم للنظام السوفياتي دون خوف من الملاحقة والاضطهاد". كما قال في لقاء صحافي معه: "اعتقدت أنه بما أنني أردت أن أكتب ما أريد، فيجب أن أغادر هذا البلد". في بعض تفصيل حياة وأقوال سوكولوف الذي عرف عالميا برواية "مدرسة الحمقى"، وهي "رواية عن الحرية التي سعى الكاتب دائما من أجلها ـ وهي أيضا ـ رواية عن قوة الخيال والأحلام"، وفي صدور هذه الرواية عن دار نشر أميركية عام 1976 كما في نشرها أول مرة في روسيا عام 1990، دلالة وإجابة إضافية تقول إن الأدب الروسي لا يعاني الاضمحلال، بمعنى التلاشي، بل هو يعاني التبعثر والشتات. وهو ما أوحى بغيابه، في حين أنه وعبر ما يعرض إليه الكتاب ويستعرض من نماذج النصوص والكتاب الموهوبين، بما بدوا عليه من ثراء وتنوع على صعيد الأبعاد الأدبية كافة، يتبين للقارئ استمرار زخم هذا الأدب وتواصله عبر الأجيال، وإن العلة الأساس تكمن في الظروف المحيطة التي يفرضها المناخ السياسي.

TASS - AFP
الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف

بريجنيف والكاتب الشبح

 للقارئ أن يتساءل عن موقع ودلالة كلمة "أشباح" في عنوان الكتاب مدار الحديث، ومن ثم في هذا المقال. فهي لا بد أن تستوقف القارئ، خاصة الذي ليس لديه فكرة مسبقة عن مفهوم الكاتب الشبح. وإذا كانت التسمية معتادة للقارئ الغربي، فهي ليست كذلك للقارئ العربي. والكاتب الشبح هو الذي يكتب بالنيابة لآخر يظهر اسمه على الكتاب أو النص، أيا كان، مقابل أجر، فيما اسم الكاتب الشبح يبقى طي الكتمان والسرية. وظاهرة الكاتب الشبح لافتة للنظر في روسيا، وفقا للمقال الذي تصدى لتناول هذه الظاهرة، بإلمام، والمعنون "أشباح الكتابة في الأدب الروسي المعاصر"، ليتضح من ذلك أن دور النشر التجارية الخاصة التي تأسست بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، هي التي تتبنى صناعة الكاتب الشبح ونقيضه الاسم المستفيد، وقد يكون هذا حقيقيا أو وهميا، وفي حالة الأخير فإن الكاتب الشبح يصبح مركبا.

هذا هو المكان الأكثر حرية في البلاد، هنا يمكن المرضى أن يظهروا معارضتهم للنظام السوفياتي دون خوف من الملاحقة والاضطهاد

ساشا سوكولوف

وكما يتضح، فنحن إزاء صناعة ضخمة جدا ولها تقاليدها وكواليسها على الرغم من هشاشة المحتوى الأدبي الذي يوصف بالخفيف والسطحي الذي يطرح، عادة، للقارئ غير المثقف، الباحث عن الإثارة والتسلية. وقد يكون الكاتب الشبح كاتبا موهوبا، لكن في الأخير هو ليس سوى موظف لدى دار نشر أو مؤسسة صحافية حكومية لا يمكنه رفض ما يطلب منه، وهو ما كان عليه الحال مع أشباح بريجنيف. لكن للحقيقة، ووفقا لهوشيار، فإن "ليونيد بريجنيف (1906ـ 1982)، رئيس الدولة وزعيم الحزب الشيوعي السوفياتي لم تخطر له مسألة الكتابة أو الانتحال. لكن تشيرنينكو مساعد السكرتير العام للحزب الشيوعي، هو من طرح، زيادة في الهيبة، فكرة كتابة مذكراته عن جبهات القتال والإعمار وأقنعه بذلك. وكلف، بعد قبول بريجنيف، مدير وكالة أنباء "تاس" اختيار الأنسب من صحافيي الوكالة لهذه المهمة، فاختار ثلاثة صحافيين أكفاء "لصياغة المذكرات بأسلوب أدبي مشرق"، هذه التي كان كتبها بريجنيف بشكل أولي في صفحات معدودة. وصدرت المذكرات عام 1979 في ثلاثة أجزاء فاخرة الطباعة، وهي على التوالي "الأرض الصغيرة" و"النهضة" و"الأراضي البكر"، لكن لم يكن من أحد يصدق أن بريجنيف هو من كتب الثلاثية، وقوبل الأمر بسخرية، حتى أن زوجته قالت له "وهل أنت كاتب؟". مع ذلك اقترح رئيس اتحاد الكتاب السوفيات منحه جائزة لينين، الجائزة الرفيعة المعروفة، وهذا ما حصل عام 1980. ولا عزاء للكتاب الأشباح الذين بقوا يتنصلون من فعلتهم هذه بعدما كُشف عن الكثير من الأوراق، في فترة البيريسترويكا، وانفراج الستار الحديدي، ذلك الذي عزل روسيا لعقود عن العالم وعزل معها طاقات أدبية جبارة، مما أعطى صورة خاطئة عن واقع وطبيعة حراك هذا الأدب وقوته. والحديث هنا بخصوص الأدب في مفهومه الرصين المتقدم، وإلا فالمشهد الأدبي عامة في روسيا اليوم، كما في أي مكان، ينطوي أيضا على أدب الجانب الآخر بما يعنيه من وهن وألاعيب الكتاب ودور النشر والنقاد المتواطئين. وهو ما فصّل فيه الكاتب ونقَده بشجاعة. 

font change