اين ستذهب موارد النفط في "سوريا ما بعد الأسد"؟

من الصعب التنبؤ كيف سيتعامل ترمب مع شرق الفرات

أ.ف.ب
أ.ف.ب
قصف تركي على منطقة الحسكة التي يسيطر عليها الأكراد في شمال شرقي سوريا، في 5 أكتوبر

اين ستذهب موارد النفط في "سوريا ما بعد الأسد"؟

هناك عدد لا يحصى من العوامل غير المعروفة التي تجعل من الصعب التنبؤ بكيفية تطور الأوضاع في سوريا ما بعد بشار الأسد. ومع استمرار غياب السيطرة الكاملة للحكومة الجديدة على مساحات كبيرة من الأراضي السورية، يبقى السؤال مطروحا حول ما إذا كانت السلطات المركزية في دمشق ستتمكن في نهاية المطاف من بسط سيطرتها على كامل أراضي البلاد.ويتعلق أحد المتغيرات الرئيسة في هذه المعادلة باحتياطيات النفط والغاز في سوريا، وأي جهة ستسيطر في النهاية على هذه الموارد الحيوية، وبالتالي تستفيد من عوائدها الاقتصادية والسياسية.

وبالنظر إلى تعدد الجهات الخارجية ذات المصالح المتشابكة في سوريا ما بعد الأسد، يصبح من الضروري دراسة تأثير هذه المصالح المرتبطة بموارد النفط والغاز على التوازن الجيوسياسي الأوسع في المنطقة.

حتى اندلاع الأزمة السورية في عام 2011، كان قطاع النفط والغاز يشكل ركيزة أساسية لاقتصاد البلاد. ففي ذلك العام، كانت 63 في المئة من صادرات سوريا النفطية تتجه إلى ألمانيا وإيطاليا، بينما كانت بقية الصادرات تقريبا توزع بين فرنسا وهولندا والنمسا وإسبانيا. وقد مثل النفط ربع الناتج المحلي الإجمالي لسوريا.ولكن، أدى اندلاع الصراع والعقوبات الغربية المفروضة على دمشق إلى منعها من تصدير مواردها الهيدروكربونية. نتيجة لذلك، أصبحت البلاد تعتمد بشكل كبير على النفط الإيراني، الذي أرسلته طهران لدعم سوريا، في تلبية احتياجاتها من الطاقة وسط الصراع. وخلال مراحل مختلفة من الأزمة السورية، تغيرت السيطرة على احتياطيات النفط والغاز بين عدة جهات.

فبين عامي 2014 و2017، استولى تنظيم "داعش" على معظم آبار النفط في سوريا. وعلى الرغم من انخفاض الإنتاج خلال تلك الفترة، جرى استهلاك جزء كبير من هذا النفط محليا، بينما جرى بيع ما قيمته من 2-3 ملايين دولار تقريبا يوميا عبر الأسواق السوداء لنظام الأسد وتركيا وحكومة إقليم كردستان العراق. ومنذ عام 2017، أصبحت معظم مناطق شمال شرقي سوريا تحت سيطرة تحالف من القوات الكردية والعربية بقيادة "وحدات حماية الشعب"المدعومة من الولايات المتحدة والتي تشكل العمود الفقري لـ"قوات سوريا الديمقراطية".في الوقت الحالي، تسيطر "قسد" والولايات المتحدة على نحو 70 في المئة من حقول النفط والغاز في سوريا.

زودت "وحدات حماية الشعب" نظام الأسد بالنفط خلال الأزمة، لكنها امتنعت عن القيام بذلك مع السلطات الحالية في دمشق. وفي الوقت نفسه، توقفت إيران عن تصدير النفط إلى سوريا منذ سقوط الأسد.

ومع استمرار خضوع سوريا للعقوبات الغربية، تواجه البلاد نقصا حادا في موارد الطاقة، وهو ما يشكل تحديا كبيرا أمام تحقيق الاستقرار ويهدد بتقويض أي فرص لانتقال سياسي سلس نحو حقبة ما بعد حزب "البعث".

في غضون شهرين من الإطاحة بالأسد، تظهر جميع المؤشرات أن تركيا هي "الرابح الأكبر"، حيث وجدت أنقرة نفسها في أفضل موقع للاستفادة من سقوط النظام أواخر العام الماضي

يسعى الزعيم السوري الفعلي أحمد الشرع وحكومته إلى التوصل لترتيب يتيح دمج وحدات حماية الشعب في الدولة السورية. كما تعارض الحكومة الجديدة في دمشق بشدة أي خطط تتضمن انفصال جيب كردي رسميا عن سوريا أو حتى إنشاء كيان فيدرالي يتمتع بحكم ذاتي على غرار حكومة إقليم كردستان العراق.يعكس هذا الموقف التزام حكومة الشرع الراسخ بالحفاظ على سلامة أراضي سوريا، وهو موقف مدفوع بعدة عوامل، من أبرزها تصميم الحكومة على تأمين السيطرة الكاملة على موارد الهيدروكربون في البلاد.وفي ظل هذا التوجه، لن يقبل المتمردون الذين تحولوا إلى حكام لسوريا بوجود أي جماعات مسلحة، مثل "وحدات حماية الشعب"، تعمل خارج نطاق سيطرة دمشق. ويعني ذلك أن رفض "وحدات حماية الشعب" الانضمام إلى هذه الرؤية لدولة سورية موحدة سيؤدي إلى تصاعد التوترات والصراعات بين السلطات المركزية والمنظمة.

وستكون لأفعال ومصالح القوى الأجنبية المهتمة بعملية الانتقال السياسي في سوريا تأثيرات كبيرة على الصراع المتعلق بحقول النفط والغاز في البلاد.

الولايات المتحدة

هناك عدة عوامل تفسر سبب استمرار الولايات المتحدة في إبقاء قواتها على الأرض في شمال شرقي سوريا. رسميا، منذ عام 2014، بررت واشنطن وجودها هناك بمبررات متعلقة بمكافحة الإرهاب، مؤكدة أن هذا الوجود يهدف إلى منع "داعش" من استعادة السيطرة على حقول النفط والغاز في سوريا.وفي الوقت نفسه، كان هناك مبرر آخر اعتمدته الولايات المتحدة، على الأقل حتى أواخر العام الماضي، وهو ضرورة إبقاء هذه الموارد الحيوية خارج سيطرة نظام الأسد.

ديانا استيفانيا روبيو

اليوم، تشكل سيطرة الولايات المتحدة و"قوات سوريا الديمقراطية" على غالبية حقول النفط والغاز في سوريا ورقة ضغط استراتيجية يمكن لواشنطن استغلالها في المفاوضات مع حكومة أحمد الشرع.ومن المتوقع أن توظف الولايات المتحدة هذه الورقة بشكل فعال في سياق المحادثات السياسية بين "قسد" ودمشق.

تركيا

في غضون شهرين من الإطاحة بالأسد، تظهر جميع المؤشرات أن تركيا هي "الرابح الأكبر"، حيث وجدت أنقرة نفسها في أفضل موقع للاستفادة من سقوط النظام أواخر العام الماضي. وترى القيادة التركية في هذا التحول فرصة ثمينة للقضاء على "وحدات حماية الشعب"، أو على الأقل إضعافها بشكل كبير، إذ تعتبر أنقرة هذه الوحدات مجرد فرع سوري لـ"حزب العمال الكردستاني"، وبالتالي تعتبرها تهديدا وجوديا للدولة التركية.

بينما تكثف تركيا تدخلها العسكري المباشر ضد "وحدات حماية الشعب" وتدعم "الجيش الوطني السوري"، الذي يُنظر إليه غالبا على أنه "وكيل" لأنقرة في سوريا، تسعى تركيا إلى تحقيق رؤيتها لدولة سورية موحدة وقوية تكون قريبة من أنقرة. من جهة أخرى، تتطلع الشركات التركية إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية الواعدة التي ستنشأ خلال مرحلة إعادة الإعمار في سوريا. وستصبح هذه الخطط أكثر واقعية إذا تمكنت حكومة دمشق من تأمين موارد مالية من حقول النفط والغاز السورية لدعم عمليات التنمية، إلى جانب رفع الغرب لعقوباته الخانقة.

رويترز
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يلتقي وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، تركيا في 15 يناير

تشكل هذه العوامل مجتمعة أساسا رئيسا لقدرة تركيا على تحقيق مكاسب طويلة الأمد من سقوط الأسد. ومن منظور التحالف الأميركي- التركي، من الصعب التقليل من أهمية القرارات التي ستتخذها إدارة ترمب الثانية بشأن قضايا حساسة، مثل التعامل مع "وحدات حماية الشعب"/"قوات سوريا الديمقراطية"، والوجود العسكري الأميركي في سوريا، وعقوبات "قانون قيصر".

بعد فترة قصيرة من الإطاحة بالأسد، حذر زعيم المعارضة الإسرائيلي، يائير غولان، من احتمال "هجوم تركي ضد الأكراد في سوريا"

وستكون إدارة ترمب القادمة مسؤولة عن اتخاذ قرارات تجاه "سوريا الجديدة،" وهي قرارات من شأنها أن تؤثر بشكل كبير على المصالح الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية لأنقرة في جارتها الجنوبية في ظل هذا الانتقال السياسي الحساس نحو حقبة ما بعد الأسد.

إسرائيل

مع استمرار الغموض الذي يكتنف المشهد في سوريا، تبدي إسرائيل قلقا متزايدا حيال تطورات ترى تل أبيب أنها تشكل تهديدا لأمنها القومي. في الوقت ذاته، تسعى إسرائيل إلى استغلال المرحلة الانتقالية في سوريا لتعزيز مكانتها الجيوسياسية، خاصة بعد الضربات التي تعرض لها "محور المقاومة" بقيادة إيران مؤخرا.

ورغم أن الحكومة الجديدة في دمشق لم تظهر حتى الآن أي عداء مباشر تجاه إسرائيل، فإن المسؤولين الإسرائيليين يشعرون بعدم اليقين حيال مستقبل العلاقات مع سوريا ما بعد الأسد. ففي السادس من يناير/كانون الثاني، أصدرت لجنة تقييم ميزانية المؤسسة الدفاعية وتوازن القوى تقريرا يحذر من أن سوريا المدعومة من تركيا في مرحلة ما بعد الأسد قد تشكل تهديدا أكبر على الأمن الإسرائيلي مقارنة بسوريا تحت حكم الأسد.

أ.ف.ب
جنود من الجيش الإسرائيلي يتفقدون دبابة قتالية للجيش السوري استولوا عليها في المنطقة العازلة في مرتفعات الجولان، بالقرب من قرية مجدل شمس الدرزية، في 21 ديسمبر 2024

وأشار التقرير إلى أن "إسرائيل قد تواجه تهديدا جديدا ينشأ في سوريا، والذي قد يكون في بعض الجوانب لا يقل خطورة عن التهديد السابق. وقد يتمثل هذا التهديد في قوة سنية متطرفة ترفض الاعتراف بوجود إسرائيل ذاته". وأضافت اللجنة أن المتمردين السنة، الذين سيحظون بالسلطة السياسية نتيجة سيطرتهم على سوريا، قد يشكلون تهديدا يفوق تهديد إيران، الذي تمكنت إسرائيل من الحد منه بفضل عملياتها المستمرة والقيود المفروضة على إيران من قبل الحكومة السورية السيادية.

كما حذر التقرير من أن هذا التهديد المحتمل قد يتفاقم إذا أصبحت الجماعات الإسلامية المتمردة التي وصلت إلى السلطة في سوريا "وكلاء" لأنقرة، لافتا النظر إلى "طموحات تركيا لإحياء أمجاد الإمبراطورية العثمانية".

في هذا السياق، تسعى إسرائيل إلى بقاء سوريا ضعيفة ومنقسمة، وهو ما يفسر اهتمام تل أبيب بمنع سيطرة دمشق على حقول النفط والغاز في شمال شرقي البلاد. كما ترى إسرائيل في وجود وحدات حماية الشعبالقوية حاجزا استراتيجيا أمام النفوذ التركي المتزايد عبر سوريا، مما يعزز موقفها تجاه المخاوف من تهديد تركي مزعوم.

بعد فترة قصيرة من الإطاحة بالأسد، حذر زعيم المعارضة الإسرائيلي، يائير غولان، من احتمال "هجوم تركي ضد الأكراد في سوريا". وصرح قائلا: "يجب على إسرائيل أن تأخذ زمام المبادرة وأن تستغل القنوات العلنية والسرية لدعم الأكراد". وأوضح غولان أن "وجود إقليم كردي قوي يعزز أمن إسرائيل".

قدرة الدولة السورية على استعادة السيطرة الكاملة على حقول النفط والغاز ستشكل عاملا مهماً في تحقيق آمال سوريا بإعادة الإعمار

وفي حال انسحاب القوات العسكرية الأميركية من شمال سوريا دون أن تتمكن "وحدات حماية الشعب" من التوصل إلى اتفاق شامل مع دمشق، ستصبح هذه الوحدات أكثر عرضة لتدخل عسكري تركي وهجمات الجيش الوطني السوري. وفي ظل هذه الظروف، يبرز تساؤل حيوي حول إمكانية تدخل إسرائيل لدعم "وحدات حماية الشعب".

وإذا قررت إسرائيل التدخل، فإن ذلك قد يؤدي إلى تصاعد مخاطر مواجهة عسكرية مباشرة بين إسرائيل وتركيا. هذا السيناريو من شأنه أن يخلق تعقيدات كبيرة للولايات المتحدة، التي تسعى إلى تجنب أي صدام بين حليفين رئيسين لها في سوريا.

الصورة الأكبر

في التحليل النهائي، فإن قدرة الدولة السورية على استعادة السيطرة الكاملة على حقول النفط والغاز ستشكل عاملا مهماً في تحقيق آمال سوريا بإعادة الإعمار. ومع سعي إسرائيل إلى إبقاء سوريا منقسمة وضعيفة وفقيرة، يُرجح أن تستغل تل أبيب نفوذها للضغط على الولايات المتحدة لدعم "وحدات حماية الشعب"وضمان بقاء الجزء الأكبر من ثروة سوريا الهيدروكربونية في يد هذه الوحدات. في المقابل، ترغب تركيا في رؤية سوريا قوية وموحدة، ولكن بشرط أن تكون متوافقة مع أنقرة.

ومع اقتراب ترمب من بدء ولايته الثانية، من المحتمل أن تسعى جماعات الضغط الإسرائيلية والتركية في واشنطن إلى إقناع البيت الأبيض بتنفيذ سياسات تجاه سوريا تخدم أجندتي تل أبيب وأنقرة على التوالي. ومع رئيس منتخب معروف بعدم القدرة على التنبؤ بتصرفاته وبتوجهاته القائمة على المعاملات، يبقى من غير الواضح كيف ستتعامل الإدارة المقبلة مع الأسئلة الحساسة المتعلقة بحقوق سوريا في حقول النفط والغاز.

font change