إلى جانب التركة السياسية والمادية والسلطوية الكبرى التي خلفها النظام السوري السابق، حيث سيتزاحم ويتصارع سوريون كثيرون عليها طويلا، ثمة "إرث رمزي هائل" لا يقل أهمية وقيمة وفاعلية عن باقي "الثروات" تلك، يتمثل في القراءة والتفسير وتعريف هوية الحقبة الطويلة من النظام السابق. فالتعريف الرسمي/ السلطوي الذي ستختاره وتستقر عليه السلطة الجديدة حول "الماضي السياسي لسوريا"، سيكون بوابة لمجموعة من المنتجات والمحددات والقيم والرموز التي سيكون عليها النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي السوري مستقبلا.
خلال تاريخهم السياسي والعام طوال العقود الماضية، اختلف السوريون جذريا في تحديد هوية ومعنى وتعريف النظام السياسي الذي حكمهم لأكثر من نصف قرن. وغالبا ما كانت تفسيراتهم خاضعة لمصالحهم ونزعاتهم الأيديولوجية ومواقعهم من سدة النظام، ولم تكن هوياتهم الأهلية بعيدة كثيرا عن الآليات والأدوات التي كانوا ينتجون بها ذلك التحديد والتعريف للسلطة الحاكمة.
الدقيق في ذلك، أن السلطة الجديدة فيما لو استقرت على واحد من تلك التعريفات، خصوصا لو كان مطلقا ومغلقا وغير قابل للنقاش والشراكة، فإنها ستكون فعليا قد أعلنت "انتصار مجموعة سورية على أخرى"، لأنها ببساطة ستنتج نظاما سياسيا مستقبليا كاملا حسب تلك "الرواية الغالبة"، التي ستعني بالضرورة وجود "جماعة غالبة وأخرى مغلوبة"، طالما فرضت رؤيتها وقراءتها للتاريخ القريب والأكثر حيوية.
من بين ثنايا نقاشات السوريين العامة طوال العقود الماضية، كانت نوعية "تعريف النظام السوري" تتراوح على طيف من الخيارات.
جزء وفير من السوريين كانوا يجدونه "نظاما طائفيا"، يستند في هندسة حكمه على الحساسية الطائفية، يجذب واحدة وينبذ أخرى، لا يستأمن إلا أبناء جماعة طائفية واحدة فحسب، تحديدا في الأجهزة الأمنية والقيادات المفصلية في الجيش. كانت تلك المروية تفند من قِبل سوريين آخرين، يملكون حججا من مثل أن العائلة الأسدية لم تغير هوية الدولة السورية طوال نصف قرن من حكمها، وبقيت محافظة على توازن طائفي واضح ضمن أجهزة الدولة ومؤسساتها البيروقراطية والاقتصادية، والعالم الرمزي والمؤسسة القضائية والتعليمية كانت على الدوام لطائفة الأغلبية السكانية. أما البطش فقد كان يطال كل السوريين المعترضين على حكمهم، من أي طائفة كان هؤلاء المعترضون.
المروية الموازية كانت ترى في النظام "حكما بعثيا"، مبنيا ومعتمدا على تنظيمات حزب متغول في كل تفاصيل الحياة السورية، مستخدما أيديولوجيا قومية مطلقة، أغرقت البلاد بصراخ أيديولوجي مدوٍ، تسرب إلى كافة تفاصيل الحياة العامة في البلاد، من التعليم والرياضية والإعلام إلى كل شيء آخر، ومارس أنواعا من القهر القومي بحق السوريين المنتمين إلى قوميات أخرى، منعهم من استخدام لغاتهم وتنمية ثقافتهم الخاصة، بل بقي مشككا بهم طوال نصف قرن.
مناهضو ذلك التعريف/ التحديد للنظام السوري السابق كانوا يعتقدون أن الأسدية طغت تماما على البعثية في بنية النظام بالتقادم، وأن البعث بقي كبنية فلكلورية فحسب، جهازا دعائيا لصالح نواة النظام الحاكم، وفقط كذلك.
أي احتكار للمروية العامة الخاصة بما حدث في سوريا طوال هذه الحقبة الطويلة من الاستبداد، سيعني أن السلطة الجديدة تتجهز لتشييد مؤسسات ومواثيق وأجهزة قائمة على أسس الاستئثار
على جنبات المرويتين، ثمة آراء تعتقد أن النظام السوري مجرد شبكة من المصالح والعلاقات السلطوية، ذو طابع أوليغارشي واضح، يجمع "نخبة" من المستفيدين، من ضباط الجيش والأجهزة الأمنية بكبار التجار ورجال الأعمال، ومعهم طبقات مثل زعماء العشائر والمناطق ورجال الدين، كان التعاضد السلطوي يجمعهم، وينشطون سويا في سبيل استقرار واستمرار النظام الأبدي.
إلى جانب هؤلاء كان ثمة رؤى أقل اتزانا، مثل تصنيف النظام السابق كجهة "عميلة" للقوى الخارجية التي وكلتها حكم سوريا، بغية إضعافها وتفكيكها وإخراجها عن الصراع الإقليمي، مستلهمة عبارات سحرية من قاموس "الماسونية العالمية" و"حكومة العالم الخفية".
مثل كل السلطات والثروات العامة في بلادهم، يحتاج السوريون اليوم أن لا تكون مرويتهم العامة عن تاريخهم الحديث محتكرة ومملوكة حصرا لأي أحد، بل أن تكون فضاء عاما من الأحاديث والنقاشات والجدال المفتوح. لأن الحالة الأولى تعني فعليا إعادة إنتاج النظام السابق، الذي بفعل "احتكاره للحقائق"، وعلى رأسها "الحقائق السياسية"، تمكن من احتكار كل شيء، كل الثروات والسلطات والمؤسسات والقيم.
بهذا المعنى، فإن أي احتكار للمروية العامة الخاصة بما حدث في سوريا طوال هذه الحقبة الطويلة من الاستبداد، سيعني أن السلطة الجديدة تتجهز لتشييد مؤسسات ومواثيق وأجهزة قائمة على أسس الاستئثار والحصرية والاستثناء، وتاليا خصخصة متمادية لكل الممتلكات والفضاءات العامة لصالح الغالبين في هذا الصراع السوري.
هذه ليست قضية ثقافية أو جدالا مجردا، بل معطى سياسي شديد الحيوية، إذ ثمة فرق هائل مثلا بين أن تسمي السلطة الجديدة المنتصرين بـ"المجاهدين" وليس "الثوار"، وبين العبارتين فروق هائلة في المخيلة والإدراك حول الماضي، وتاليا حول المستقبل.