منذ اليوم الأول لإعلان سقوط النظام السوري السابق في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، وصلت قوات تابعة لغرفة عمليات "ردع العدوان" إلى محافظتي طرطوس واللاذقية، وهما المنطقتان اللتان توقع المراقبون أن تشهدا مشكلات وصراعات طائفية فور انهيار النظام. إلا أن هذه التوقعات لم تتحقق على أرض الواقع.
الهروب والأيام السعيدة الأولى
وفي مدينة اللاذقية تحديدا، ومع حلول ليلة السابع من ديسمبر، شهدت المدينة توافد آلاف المقاتلين التابعين للجيش السوري والقوى الأمنية الهاربين من ساحات القتال، وأيضا الملتزمين بمهام تابعة لوزارة الداخلية والضابطة الجمركية. وعلى عكس التوقعات، عمت المدينة مظاهر احتفال واسعة، وكان العلويون من أكثر المحتفلين بسقوط النظام، حيث قامت قرى عديدة بإطلاق النار والتوافد إلى مدينة اللاذقية للاحتفال. وقيل إن سعادتهم بذلك كانت واضحة، بدليل أنهم لم يلجأوا للقتال دفاعا عن النظام الذي فشل في استمالتهم للقتال دفاعا عنه منذ سقوط حلب، وفشلت أيضا محاولات التعبئة للجيش والقوى الأمنية، ويمكن قراءة المشهد من خلال غياب أي شعور بالتميز أو الدعم الذي كان يُفترض أن يشعروا به نتيجة القتال إلى جانب قوى الأمن والجيش منذ عام 2011. هذا الفشل يعكس تصدع العلاقة بين الطائفة والنظام، خاصة في ظل الإحساس المتزايد بالخذلان وعدم التقدير منذ عام 2017.
اقتصاديا، لم يكن للعلويين ميزة واضحة مقارنة ببقية السكان، باستثناء فئة صغيرة من الطبقة العسكرية والأمنية التي حظيت بامتيازات خاصة. وهذا الواقع يعكس ملامح نظام ريعي طائفي، حيث استحوذت هذه الفئة على موارد الدولة وتمتعت بامتيازات اقتصادية وأمنية، في حين بقيت الأغلبية العظمى تعاني من التهميش الاقتصادي والاجتماعي. هذا التفاوت خلق شعورا بالاستياء داخل الطائفة نفسها تجاه الفئة المستفيدة الملتصقة بالعائلة الحاكمة، التي يُنظر إليها على نطاق واسع بأنها مرتشية وفاسدة.
بدأت مظاهر الهيمنة الرمزية من العناصر المسلحة والموالين لانتصار حركة "ردع العدوان"، تتصاعد مع اكتشاف ما جرى داخل سجون النظام السوري
في الأيام التي تلت سقوط النظام، برزت مظاهر احتفالية شملت جميع الطوائف. رغم الانفلات الأمني الذي شهدته المدينة وظهور بعض الانتقامات الطائفية هنا أو هناك، كالانتقام من المخبرين والشبيحة، إلا أن احتفال ساحة الشيخ ضاهر باللاذقية، شهد تجمع السكان من العلويين والمسيحيين وغيرهم في أجواء تعكس رغبة صادقة في تجاوز الماضي. هذه الاحتفالات كانت مصحوبة بمحاولات عفوية للتآلف والتكيف مع الواقع الجديد، حيث ساهمت الظروف الاقتصادية القاسية التي عانى منها السوريون على اختلاف طوائفهم في تقليل أي شعور بالتمايز بينهم. وبرز بين أفراد الطائفة العلوية إدراك متزايد لانهيار النظام وفساده وإفقاره للناس بشكل لم يعد محتملا، مما عزز الرغبة في طي صفحة الماضي والانخراط في مرحلة جديدة.
حملة السلاح والغرباء والانتقامات
اخترق هذا مئات التصرفات المرعبة بالنسبة للعلويين، خاصة في الاعتداءات اللفظية وبعض أعمال العنف داخل القرى العلوية التي دخلها مسلحون مجهولو الهوية وقاموا بتصرفات مسيئة للسكان. هناك وصمة لفظية حاول بعض المسلحين نشرها عن العلويين عبر السوشيال ميديا، وأحيانا كانت تتعدى الاعتداءات الألفاظ ويجرى عمليات إذلال بدنية في ساحات القرى.تواصلنا مع لجان سلم أهلي كمجموعة "سوريون" التي تأسست في اللاذقية، أكدوا لنا أن القيادة العسكرية ساعدت وأخلت مسؤوليتها عن التصرفات المشينة لبعض العناصر المسلحة، وكثيرا ما أرسلت عناصرها الملتزمين بها لضبط أي مخالفات تجاه السكان العلويين.
في هذا السياق، وجد سكان الساحل أنفسهم عالقين في علاقة معقدة مع القوى المسلحة المنتشرة على الأرض، والتي باتت تمثل الشكل الوحيد للسلطة على المستوى المحلي. غياب مظاهر الدولة بشكل كامل أدى إلى حالة من الضياع الاجتماعي والسياسي والأمني، حيث لم تستطع أي جهة ملء الفراغ الناجم عن انهيار النظام، مما ترك الساحل في مواجهة فراغ بنيوي لم يتم حتى اليوم ملؤه بشكل جيد.
الفراغ السياسي والاجتماعي وعدم قدرة القيادة العسكرية على ضبط المسلحين المنتشرين في المحافظات، انعكس في الشارع وذلك للقحط السياسي والاجتماعي بين السكان، فسريعا ما انتقل الفرح في الثورة إلى تساؤلات كبرى لدى العلويين عن اليوم التالي ومصيرهم السياسي والاجتماعي، فتجلى غياب أي بنية عمودية أو أفقية داخل المجتمع السوري، جراء العنف الممنهج الذي مارسه النظام، والذي منع أي شكل من أشكال التواصل بين السكان.
هذا القمع المنظم فرض قيودا سلطوية معطلة على الحراك الاجتماعي والسياسي، مما جعل من استيعاب التحولات التي طرأت أمرا مستحيلا، وأدى إلى انتشار الفوضى والعمليات التخريبية في اليوم الأول لسقوط النظام. ثم جعل العلويين في حالة من الضياع النفسي في معرفة المصير، أو التمثل الذي عليهم أن يمارسوه داخل الكيان الاجتماعي السوري.
ظهرت هشاشة ما كان يُعتقد أنه هيكلية مجتمعية متماسكة داخل الطائفة العلوية، حيث كشفت الأحداث عن عجز هذه البنية عن تنظيم الجماعة أو مواجهة التغير وضبطه داخل أفراد الطائفة. بدت هذه الهياكل التي بناها النظام خلال خمسين عاما وكأنها مجرد هيكلية وهمية، غير قادرة على الصمود أمام الأزمات أو دعم المجتمع في أوقات التحول.
هيمنة رمزية وتصاعد الغضب الشعبي في سوريا
بدأت مظاهر الهيمنة الرمزية من العناصر المسلحة والموالين لانتصار حركة ردع العدوان، تتصاعد مع اكتشاف ما جرى داخل سجون النظام السوري، حيث انتشرت الصور والفيديوهات والمقابلات التي كشفت فظائع التعذيب والتمييز الطائفي. المقاطع المصورة والمقابلات مع المعتقلين وأهاليهم أظهرت ممارسات قاسية ارتكبها النظام، غالبا على أيدي عناصر من الطائفة العلوية.
ما زاد من حدة الغضب الشعبي هو قيام مجموعات كبيرة بنشر مقاطع فيديو عبر وسائل التواصل توثق تصرفات طائفية وتمييزية لعناصر النظام، تُظهر إذلال المواطنين والضحايا بشكل ممنهج. هذه المواد تضمنت مشاهد تعذيب مروعة، مع تركيز واضح على انتماء المنفذين للطائفة العلوية، مما أثار جدلا واسعا وزاد من الشحن الطائفي.
بات العنف الرمزي وسيلة فعالة لتكريس الانقسام المجتمعي وتعزيز الشعور بالعزلة لدى الطائفة. كما أن هذه الممارسات عمقت الجراح النفسية والمجتمعية
بالإضافة إلى ذلك، تم نشر أسماء الكثير من الضباط المتورطين بأشكال عشوائية، فقوائم الضباط والمطلوبين لم يتضح مصدرها، وجلهم حسب البيانات والاتهامات متورطون في عمليات القصف والتعذيب، مما عزز الشعور بالرغبة في الانتقام لدى شرائح واسعة من السوريين والدعوة لاقتصاص من المتورطين في تلك الأعمال. هذا الاستخدام المكثف للصور والأسماء والمقاطع المصورة خلق سياقا من الإدانة العلنية، حيث باتت الرموز المرتبطة بالنظام تمثل هدفا مباشرا للانتقام الرمزي والمادي.
هيمنة رمزية وتداعيات نفسية واجتماعية في الطائفة العلوية
ما ميز هذه الهجمات هو طابع التشفي النفسي الذي ظهر جليا من خلال استعراض الإهانة والإذلال العلني أمام الملأ، مما جعل الهدف يتجاوز مجرد الإذلال الفردي ليصبح رسالة رمزية تهدف إلى كسر الروح المعنوية للطائفة بأكملها. وتم توثيق هذه المشاهد عبر مقاطع فيديو، مما عزز تأثيرها النفسي والدعائي، حيث استُثمرت هذه المواد في إعادة تشكيل السرديات حول المسؤولية والمظلومية.
انتشار هذه المقاطع أثار ردود فعل متباينة؛ حيث أبدى البعض مشاعر شماتة وابتهاج، معتبرين ما حدث عقابا مستحقا لرموز ارتبطت بالقمع، بينما عبّر آخرون عن استنكارهم، رافضين فكرة العقاب الجماعي والإهانة العلنية. هذا العنف الموجه يعكس تحولا في ديناميكيات القوة، إذ أصبح الإذلال العلني أداة رمزية لإظهار الهيمنة وتأكيد التفوق.
إلى جانب ذلك، تركت هذه المقاطع أثرا نفسيا عميقا داخل الطائفة العلوية، مما زاد من حالة القلق والتوتر، وقلل من قدرتها على التعاون مع القيادة العسكرية. ورغم الجهود التي بذلها ممثلو "هيئة تحرير الشام" لعقد لقاءات وطمأنة السكان، ظل الاحتقان قائما ولم تعالج هذه المبادرات الجروح العميقة أو تقلل من المخاوف بشأن مستقبل الطائفة.
في ظل هذه الظروف، بات العنف الرمزي وسيلة فعالة لتكريس الانقسام المجتمعي وتعزيز الشعور بالعزلة لدى الطائفة. كما أن هذه الممارسات عمقت الجراح النفسية والمجتمعية، مما يجعل التعافي وبناء الثقة أكثر صعوبة مع استمرار هذا النهج.ما دفع "الهيئة" إلى أن تصدر قرارا في السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، بعدم تصوير الاعتقالات ورفعها على الإنترنت، وجعلها تحت طائلة العقوبة.
الفراغ وصعوبة التعامل والاتصال مع العلويين
تبرز فجوة خاصة في الطائفة العلوية مقارنة بغيرها من المكونات السورية. فعلى عكس الطوائف الأخرى التي تعاملت "الهيئة" معها بشكل عضوي ومتناسق، فتعاملت مع المرجعيات الدينية دونا عن أي مستوى عمومي وسياسي، أي لم يوجهوا خطابا للفضاء العام، بل مع مكونات طائفية وممثلي طوائف، لكن افتقرت الطائفة العلوية إلى آلية تنظيمية واضحة في التعامل مع "الهيئة". هذا النقص يعود إلى سياسات الأسد، التي منعت تشكيل مجلس علوي أو هيئة جامعة بهدف الإبقاء على الانضباط والتبعية تحت سيطرة مؤسسة مركزية وغامضة. نتيجة لذلك، ظهرت العشرات من البيانات واللقاءات المفتتة بدلا من أن تكون جامعة وممثلة للعلويين، مما عمّق عدم الانسجام بين أفراد الطائفة ومشايخها، وتركها عاجزة عن بناء موقف موحد أو صيغة تنظيمية فعالة.
تركزت مطالب المتظاهرين على حماية المراكز الدينية العلوية ومنع الاعتداء عليها، والتزام القيادة العسكرية بتقديم وعود بعدم إيذاء العلويين لفظيا وإهانتهم دينيا. كما رفضوا تسليم العسكريين والأمنيين في مناطقهم
رغم الهيمنة الثقافية والسلطوية التي مارسها العلويون على الكثير من أشكال الوجود السوري، فإنها بقيت أشكالا سطحية لم تُرسَّخ بتجارب تاريخية سياسية متجذرة يمكن البناء عليها من أجل التقدم بخطوات تنظيمية للمشاركة في الفضاء العام. هذه الهيمنة السطحية انهارت مع سقوط النظام، حيث عاش العلويون، كغيرهم من مكونات الشعب السوري، في ظل عقد اجتماعي فرضه الأسد الأب وورّثه لابنه. كان هذا العقد قائما على سيطرة مركزية لا تمنح مجالا لفعل سياسي حقيقي أو لتفاعل متكافئ بين مكونات المجتمع السوري.
ساهم نظام الأسد في تغييب خبرات الطائفة العلوية في التاريخ السياسي القريب. وتم تهميش تجارب بارزة مثل الثورة على الفرنسيين، ومواقف الشباب المسلم العلوي الرافض لتقسيم سوريا إلى كنتونات طائفية. كما تم تجاهل العلاقة مع سامي الحناوي خلال مرحلة تشكيل المحاكم الشرعية في الخمسينات، حين رفض العلويون تشكيل محكمة شرعية خاصة بهم وأصروا على الانضمام للمحاكم الشرعية السنية. بدلا من إبراز هذه التجارب كجزء من النضال الوطني، عمد آل الأسد إلى تقديمها كمواضيع غامضة وغير وطنية، ضمن إطار الهوية الوطنية الموجهة التي فرضها النظام.
ركز النظام على صياغة إرث وطني مصطنع، يعزز فكرة ارتباط الطائفة بهويته السلطوية، مع التركيز على تجربة الثمانينات التي أعاد فيها صنع وتشكيل الطائفة، ونبذ أي شقاق عقائدي أو ديني، أو إعطاء مرجعية دينية للعلويين في مواجهتهم لخطاب ديني جرى العمل عليه من الإخوان المسلمين في ذلك الوقت، وانخرط العلويون مع النظام بوصفه هويتهم وممثلهم الأخلاقي والديني، مع تهميش التعددية السياسية والاجتماعية، مما أدى إلى عزل الطائفة عن سياقها التاريخي وإلغاء دورها في بناء هوية وطنية شاملة.
تعامل القيادة العسكرية مع الطائفة العلوية
لم تتمكن القيادة العسكرية الحاكمة وما يُعرف بغرفة قيادة العمليات من التعامل بوضوح أو كفاءة مع الطائفة العلوية، باستثناء بعض جهود السلم الأهلي التي قادها ناشطون وحملة سلاح وممثلون عسكريون وسياسيون. هذا الغموض زاد من حالة الرعب وعدم اليقين داخل الطائفة، حيث لم يتمكن العلويون من إيجاد طريقة للتواصل أو تشكيل هيئات ناظمة تجمعهم وتنظم شؤونهم، بل تشرذمت البيانات التي صدرت عنهم.
في الوقت ذاته، بدأت عمليات عسكرية تستهدف البنى الأمنية والعسكرية التابعة للنظام السابق، حيث أعلنت "الهيئة" أنها ستلاحق كل من لم يسلم نفسه أو يخضع لتسوية. وقبل بدء هذه العمليات، انتشر فيديو يظهر حرق مقام الحسين بن حمدان الخصيبي في حلب، وهو مقام ذو مكانة كبيرة لدى العلويين. أثار الفيديو غضبا واسعا، مما دفع الطائفة إلى الخروج في مظاهرات في حمص، واللاذقية، وريف اللاذقية، وجبلة.
تركزت مطالب المتظاهرين على حماية المراكز الدينية العلوية ومنع الاعتداء عليها، والتزام القيادة العسكرية بتقديم وعود بعدم إيذاء العلويين لفظيا وإهانتهم دينيا. كما رفضوا تسليم العسكريين والأمنيين في مناطقهم، داعين إلى تسوية أوضاعهم دون اللجوء إلى العنف. وطالب المحتجون أيضا بوقف ما أصبح يُسمى "الأخطاء الفردية"، التي تشمل التعامل المهين والمستفز مع أبناء الطائفة.
بعض الاحتجاجات ترتبط بالتأخر الكبير لـ"الهيئة الحاكمة" في إبراز خطة للمجتمع السوري بما يخص العدالة الانتقالية
هذه الاحتجاجات عكست احتقانا عميقا وحالة من الانفصال بين العلويين والهيئة الحاكمة، التي لم تفلح في تهدئة الأوضاع أو تقديم حلول مُرضية. بعض شعارات المظاهرات حملت بُعدا دينيا تمثل في التمسك برمزية مقام الخصيبي، مما أضفى على الاحتجاجات طابعا طائفيا واضحا. ولأول مرة في سوريا، يتلفظ متظاهرون علويون بشعارات خاصة بالطائفة بهذا الشكل العلني. قاد هذه المظاهرات عدد من المشايخ، مع غياب كامل لأي تمثيل سياسي أو مدني، مما عزز التصور بأنها تعبر عن هوية دينية وطائفية أكثر من كونها حركة مطلبية جامعة، وذلك لشعورهم بأن ما يحصل في سوريا يستهدفهم.
واجه رجال السلطة الحاكمة بعض هذه المظاهرات بالعنف في حمص، مما أدى إلى تصاعد التوتر وفرض حظر للتجول في حمص، واللاذقية، وطرطوس. وتزامن ذلك مع اتهامات من أوساط متعددة بأن هذه الاحتجاجات تمثل بقايا النظام أو "فلوله"، وأنها تسعى لتعطيل الإجراءات المتعلقة بتسليم العسكريين والأمنيين. في المقابل، خرجت في اللاذقية مظاهرة مضادة تدعو لتوحيد الصفوف والتأكيد على الاقتصاص من القتلة، إلا أن عناصر القيادة العسكرية منعوا استمرارها خوفا من تحولها إلى مواجهات أهلية وطائفية.
السرديات المشوهة والفجوة السردية
خرجت بيانات كثيرة واستبيانات إعلامية ومقاطع فيديو تدعو من جهة العلويين إلى التهدئة ودعوات للتظاهر، بينما حملت مقاطع أخرى هجوما على الحراك العلوي واتهام المتظاهرين بأنهم مدعومون من إيران، وبالطائفية والعمالة لإيران. هذه الاتهامات تفتقر إلى أي إثبات جدي، خاصة أن العلويين لم يميلوا أبدا للانخراط في المشروع الإيراني. على العكس، عملوا بشكل متواصل منذ عام 2017 على طرد الإيرانيين من قراهم وحماية الطائفة من أي تأثير ديني خارجي.
تبدو هذه الاتهامات جزءا من السرديات المشوهة التي تهدف إلى تبرير استهداف الطائفة وتقديم صورة مغلوطة عن طبيعة مواقفها وأسباب الاحتجاج التي تمارسها. كما برزت الفجوة السردية بشكل واضح بين الواقع الفعلي والاتهامات الموجهة، حيث عجز الخطاب الإعلامي العدائي عن تقديم أدلة تثبت تلك الادعاءات. وهذا التناقض يعكس محاولة مستمرة لتشويه صورة الطائفة، وتحويل الصراع إلى مواجهة طائفية، مما يعمق الانقسام داخل المجتمع السوري.
شيء من الاحتجاجات مرتبط بالتأخر الكبير لـ"الهيئة الحاكمة" في إبراز خطة للمجتمع السوري بما يخص العدالة الانتقالية، والساحل السوري ذو الأغلبية العلوية فوق ما يعانيه من بطالة أسوة بباقي سوريا، يعاني اليوم من بطالة جديدة سببها قوى الأمن والموظفون العسكريون والجنود وقوات الأمن، حيث من لم يخضع لتسوية قد هرب جراء المشاهد التي واجهها، وعدم وجود مسار عدالة انتقالية يعزز فكرة الاختفاء أو الهروب أو محاولة المقاومة.
مع تزامن المظاهرات وانتشار أسماء المطلوبين، وفشل الاحتجاجات في إيقاف حملات القبض على المتهمين، بدأت تظهر في البيئة العلوية، خاصة في الأرياف، حركات مسلحة تنصب الكمائن، ممتدة من ريف حمص إلى ريف اللاذقية. وأدت هذه الكمائن إلى مقتل عناصر تابعين للقيادة العسكرية، مما دفع قيادة "الهيئة" إلى شن حملة عسكرية كبيرة تهدف إلى نزع السلاح والقبض على المتهمين.
القيادة العسكرية لم تغير تعاملها مع المجتمع السوري الذي ما زال يُنظر إليه كمكونات طائفية، مما يعرقل أي اندماج حقيقي في مرحلة ما بعد النزاع
في ظل هذه التطورات، تراجع الكثير من البيانات الصادرة عن الطائفة العلوية بشأن مطالبها، نتيجة إدراك استحالة موافقة أي طرف سوري على وقف ملاحقة المطلوبين. ومع ذلك، يبرز غياب آليات قانونية وأخلاقية لتحقيق العدالة، حيث بدا أن فلسفة العقاب الانتقامي أصبحت أكثر حضورا من كونها مسارا لتحقيق عدالة قانونية منظمة.
الفراغ القانوني الانتقالي أسهم في إشعار الطائفة بعزلة نفسية عن باقي المجتمع، حيث لم تتم دراسة صعوبات تأقلمها مع المجتمع المحيط. بالإضافة إلى ذلك، تفاقم الشعور بالعزلة نتيجة بروز أشكال العدالة التعسفية التي استهدفت المجندين وأفراد الطائفة العلوية بشكل خاص.
صعوبات الانتقال وأزمة الطائفة العلوية
مع غياب خطة انتقالية واضحة، يواجه الملايين من السوريين، وخصوصا العلويين، أزمة اقتصادية خانقة بفعل إيقاف رواتب العاملين في المؤسسات العسكرية والأمنية. وقد تعمقت هذه الأزمة بفعل انتشار مقاطع الفيديو التي توثق عمليات القبض على المتهمين، مما أدى إلى شعور الطائفة بحصار نفسي جماعي وخوف مكتسب نتيجة انهيار السردية الفخرية التي اعتبروها جزءا من هويتهم لأكثر من أربعين عاما.
طوال عقود، ارتبطت الطائفة العلوية بسردية فخرية تقوم على حماية الوطن عبر المؤسسة العسكرية والأمنية. لكن القيادة الجديدة فتتت هذه السردية، مما أدى إلى شعور الطائفة بفقدان الشرعية التاريخية لهذه الهوية. تفاقم الوضع مع إقصاء اقتصادي ممنهج واستبعاد واضح من أي دعم أو تعويض، مما زاد من شعور العزلة النفسية والاجتماعية. وفي هذا السياق، لا بد من تعويض العلويين رمزيا على الأقل، بما يتناسب مع مقدار التضحيات التي قدمها أبناؤهم، ولو كانت في سياق انخراط في حرب أهلية. ويُعد هذا هو الحد الأدنى من العدالة المطلوبة لإعادة بناء الثقة والحد من حالة الانفصال النفسي والمجتمعي التي يعيشونها.
في ظل هذا الواقع، يبرز غياب سياسات العدالة الانتقالية التي تعوض هذه الفئات أو تعيد دمجها. كما يعكس هذا المشهد عمق الانقسامات داخل الطائفة وبين مكونات المجتمع السوري المختلفة، مع استمرار غياب الحركات السياسية أو منظمات المجتمع المدني القادرة على قيادة التحولات. والحاجة الآن إلى التعليم السياسي التشاركي ومبادرات بناء المجتمع المدني لتوفير بيئة تفاعلية تدمج الطوائف في سردية وطنية جديدة تعزز القوننة وحقوق التجمع والتنمية.
القيادة العسكرية لم تغير تعاملها مع المجتمع السوري الذي ما زال يُنظر إليه كمكونات طائفية، مما يعرقل أي اندماج حقيقي في مرحلة ما بعد النزاع. ويتطلب هذا الواقع التحول نحو عدالة انتقالية شاملة، تكون جامعة لكل أطياف المجتمع السوري دون تحويل أقلياته إلى رعايا.