سوريا وسيناريو "العرقنة"

المرحلة الانتقالية غير واضحة المعالم

أ.ب
أ.ب
مقاتل من المعارضة السورية يمزق لوحة تصور بشار الأسد ووالده الراحل حافظ الأسد في مطار حلب الدولي، 2 ديسمبر 2024

سوريا وسيناريو "العرقنة"

يؤسفني وأنا عراقي أن أكتب عن تجربة تغيير نظام دكتاتوري، وبلادي لا تزال تراوح مكانها ولم تنجح في تجاوز آثاره لا على الدولة ولا على المجتمع. وأثناء إذاعة خبر "سوريا من دون بشار الأسد" التي أعلنها مذيع قناة "العربية- الحدث" حسين الشيخ، بنبرة يجتمع فيها الفرح وهول الصدمة من خبر انهيار نظام دكتاتوري، في هذه اللحظة عادت بي الذاكرة إلى 9 أبريل/نيسان 2003، وشاركت السوريين فرحة سقوط الدكتاتورية التي تأخرت عليهم كثيرا. وفي الوقت ذاته، بدأت أستحضر دوائر مخاوف المرحلة الانتقالية التي مر بها العراق، ولا يزال بسبب أخطاء البدايات وتراكماتها.

نقاط التشابه والاختلاف

يتشابه العراق وسوريا بسيطرة حكم دكتاتوري شمولي قبل التغيير، وكلاهما كانا يحكمان بأيديولوجيا قومية عنوانها "حزب البعث العربي الاشتراكي". ولعل من مصادفات التاريخ أن يكون هناك تشابه بين عدد سنوات الاضطرابات وسقوط النظام بعدها، فنظام حكم صدام حسين سقط بعد انتفاضة الوسط والجنوب في 1991، والتي تمكن من دحرها وفرض سيطرته على مناطق التمرد، ولكن هذه السيطرة استمرت 13 عاما، حتى تم إسقاطه بالتدخل العسكري الأميركي. أما في سوريا فقد بدأت حركات الاحتجاجات في 2011، وتمكن نظام الأسد من مواجهتها وإعادة فرض سيطرته على مناطق التمرد الرئيسة، لكن بشار الأسد ترك البلاد وهرب بعد 13 عاما أيضا.

التشابه الثاني، أن المعارضة التي أثبتت وجودها في مواجهة نظامي حكم "البعث" في سوريا والعراق، تمثلت بحركات إسلامية وقومية كردية. القوى الإسلامية في العراق كانت تتصدرها حركات الإسلام الشيعي، وهي كانت تنادي بالحكم باعتبارها تمثل الأغلبية الطائفية. أما في سوريا فإن حركات الإسلام السياسي السني كانت تعلن معارضتها لنظام حكم تسيطر عليه الأقلية العلوية. ولذلك كان البعد الطائفي في التوجه نحو معارضة نظام الحكم عاملا أساسيا، ونجح في استثمار الاختلاف المذهبي في معارضة سطوة حكم صدام حسين في العراق وحكم الأسد في سوريا.

أما نقطة التشابه الثالثة، فهي بقايا النظام الشمولي وترسباته وثقافته السياسية. ففي المرحلة الانتقالية يتم استذكار مرحلة الدكتاتورية باقتران وجودها بتحقيق الاستقرار والقوة للنظام السياسي. وتجاهل أن قوة النظام واستقراره كانا على مستوى البناء الفوقي فقط. لأن الأنظمة الشمولية تنجح فعليا في زرع بذور التفكك وانعدام الثقة بين فئات المجتمع، ولذلك تنتج الدكتاتوريات "مجتمعا جماهيريا" حسب توصيف حنة آرندت، يتحول فيه الإجماع الوطني إلى قضية شعاراتية وشكلية تتمظهر بهتاف "بالروح بالدم نفديك يا زعيم". وعندما يغيب ذاك الزعيم وحزبه الحاكم، نجد أنفسنا فجأة في مجتمع يفتقر تماما إلى مرتكزات الإجماع السياسي الوطني. فالمجتمع الجماهيري فارغ ومفكك، أعضاؤه ذرات منعزلة، يفكر كل منهم بمفرده، وينظر للآخرين كذئاب تسعى لاستغلاله أو كفرصة للاستغلال. ومن ثم عندما ينهار سقف الدكتاتورية يسعى الأفراد لضمان مصالحهم ومستقبلهم الشخصي بقوة السلاح لا القانون. ويعود المجتمع إلى حالة ما قبل الدولة التي وصفها توماس هوبز "حرب الجميع على الجميع". وهذه الحالة مر بها العراق مع بدايات تغيير النظام، وهناك مخاوف من تكراراها في سوريا.

مواجهة خطورة وتهديدات المرحلة الانتقالية، تحتاج بالدرجة الأولى إلى مشروع عدالة انتقالية تكون أولوياته التعامل مع الماضي بروح القانون وليس بروح انتقامية مأزومة بالاقتصاص من كل متعلقات النظام السابق

لكن عملية التغيير السياسي في سوريا تختلف في أهم مفاصلها عن دراماتيكية ما حصل في العراق. فنظام صدام حسين ما كان له أن يسقط إلا بالتدخل العسكري الأميركي في 2003، أما نظام بشار الأسد فسقط منذ 2011 عندما حوّل سوريا إلى مسرح للدمى تتحكم بخيوطها إيران وروسيا وتركيا وأميركا، وأصبحت قوته العسكرية في مواجهة فصائل المعارضة المسلحة هي قوات "حزب الله" اللبناني وميليشيات مسلحة عراقية.

أيضا، القوى الفاعلة في التغيير تختلف بين العراق وسوريا. ففي العراق كانت غالبية الشخصيات المعارضة التي تصدت للحكم بعد إسقاط نظام صدام، تعمل في بلدان المهجر، وأتى بهم الأميركيون لقيادة  مرحلة ما بعد التغيير. ومن مفارقاتها أنها كانت مشتتة ولم تتفق على مشروع سياسي إلا في العناوين العريضة للمرحلة الانتقالية. لذلك بقى العراق تحت إدارة الاحتلال الأميركي حتى تم تسليم الحكم لحكومة انتقالية في 2004. وفي سوريا بدأت الفصائل المعارضة المسلحة السورية عمليتها العسكرية بقيادة أبو محمد الجولاني (قبل أن يتخلى عن هذا الاسم الحركي) حتى دخولها دمشق وتشكيل القيادة السورية برئاسته.

عُقدة الماضي

مواجهة خطورة وتهديدات المرحلة الانتقالية، تحتاج بالدرجة الأولى إلى مشروع عدالة انتقالية تكون أولوياته التعامل مع الماضي بروح القانون وليس بروح انتقامية مأزومة بالاقتصاص من كل متعلقات النظام السابق. في العراق، مع الأسف كان التفكير بالقصاص من الماضي حاضرا بقوة، ولذلك كانت وظيفة مؤسسات العدالة الانتقالية تعويض المتضررين ومحاسبة المتورطين بالانتماء لحزب "البعث" والمؤسسة العسكرية والأمنية باعتبارهم بقايا النظام السابق لا موظفين في الدولة العراقية. ومن هنا تم التعامل مع المؤسسات الأمنية وشخصيتها بطريقة انتقائية وانتقامية، وليس وفق منطق إعادة تأهيلها لتكون ضمن مرحلة نظام سياسي جديد. أما في سوريا، فحتى الآن لا تبدو ملامح مشروع العدالة الانتقالية واضحة المعالم، وكيف يمكن أن تستفيد من تجارب البلدان السابقة التي مرت بمرحلة انتقالية من نظام شمولي إلى نظام حكم جديد.

التخوف من عرقنة تجربة الانتقال السياسي في سوريا، هو متلازمة بديل الدكتاتورية في بلداننا أي الإسلام السياسي

التفكير في الماضي مشكلة لا تزال تسيطر على تفكير النخب الحاكمة في العراق، إذ لا تزال بعضها مأزومة بعقلية المعارضة التي لا تريد أن تتعايش مع واقع أنها الآن هي من تسيطر على البلاد، وعليها تحمل المسؤولية. وأيضا ترفض مغادرة التفكير بنظرية المؤامرة، وأن هناك من يتآمر على تجربتها في الحكم سواء من شركائها في السلطة أو من الدول الإقليمية! وأما النخب السورية الحاكمة فهي أمام واقع جديد يستوجب عليها مغادرة التفكير بأزمات المعارضة تلك وطرح مشروع سياسي يتركز على تحقيق الإجماع الوطني كركيزة لإعادة الثقة بين المجتمع والحاكمين الجدد، وتكون له الأولية على الأيديولوجيات.

في لحظة الإدراك المتأخر التي نعيشها الآن كعراقيين، يمكن الاعتراف بأن الاستعجال في كتابة الدستور والتوجه نحو الانتخابات، كانا من بين القضايا التي أنتجت منظومة حكم غير قادرة على إدارة البلاد بصورة صحيحة، فالاستقرار السياسي وتشذيب الخلافات السياسية يحتاج إلى عامل الزمن حتى تصل النخب الصاعدة للحكم إلى مرحلة النضج السياسي، بدلا من التخبط في دائرة الصراعات والأزمات والفوضى التي تتنج أعرافا سياسية تنتج لنا إقطاعيات سياسية حاكمة وليس دولة مؤسسات.

ويبدو أن القيادة السورية الجديدة تدرك خطورة الاستعجال في الانتقال نحو كتابة دستور وإجراء الانتخابات، وهذا ما أعلن عنه أحمد الشرع في لقائه مع قناة "العربية"، بقوله: "إعداد وكتابة دستور جديد في البلاد، قد يستغرق نحو 3 سنوات، وتنظيم انتخابات قد يتطلب أيضا 4 سنوات". ولكن ما وراء هذا التصريح قد لا يكون إدراك خطورة الاستعجال الذي وقعت فيه تجربة العراق، بل ربما يكون الهدف تمركز السلطة والسيطرة على المجال السياسي بيد النخب الحاكمة الجديدة، وهنا تكمن الخطورة والمخاوف على مستقبل سوريا بعد حكم الأسد، في أن لا تكون على طريق الانتقال نحو النظام الديمقراطي وليس فقط الانتخابات الشكلية.

التجربة الإسلاموية

التخوف من عرقنة تجربة الانتقال السياسي في سوريا، هو متلازمة بديل الدكتاتورية في بلداننا أي الإسلام السياسي. وهنا نجد هيمنة قوى الإسلام السياسي على المجال العام في الدول التي شهدت سقوط الدكتاتورية والتحول نحو تبني الديمقراطية. ففي العراق وفي بلدان الربيع العربي كان وصول حركات الإسلام السياسي إلى سدة الحكم أسهل الطرق في ظل التحول الديمقراطي، لأنها الأكثر فاعلية وتنظيما في تحشيد الأتباع في مواسم الانتخابات، لكنها عجزت عن تحقيق تغيير على المستوى السياسي والاقتصادي الذي يمنحها شرعية المنجز، والتي توثق علاقتها بالجمهور. واليوم في سوريا، بديل حكم بشار الأسد الدكتاتوري هو قوى الإسلاموية السياسية.

أحمد الشرع يعترف بأن "شكل التعيينات الحالي كان من ضرورات المرحلة وليس إقصاء لأحد... والمحاصصة في هذه الفترة كانت ستدمر العملية الانتقالية"، وهذا درس مهم من تجربة المحاصصة الطائفية والقومية في العراق بعد التغيير

ومشكلة تجربة حكم قوى الإسلام السياسي في العراق وفي البلدان العربية الأخرى، أنها تكون قادرة على التحشيد الجماهيري، ولكن لا تقدم نموذجا للحكم قادرا على إدارة الدولة ومواردها وعلاقتها الخارجية وفق واقعية سياسية توثق علاقتها بالمجتمع بمنجز سياسي واقتصادي وخدمي. والمأزق هنا يكمن في عدم قدرتها على مغادرة البيئة السياسية التي نشأت وعملت فيها في أيام المعارضة، والتي لم تساهم في إنضاج تجربتها السياسية، إذ إن هناك علاقة سببية وثيقة بين طبيعة وبنية النظام السياسي القائم ودور قوى المعارضة السياسية وسلوكها، ومن ثم تكون المعارضة امتدادا طبيعيا للثقافة والسلوك السياسي السائد في بلد معين. ولذلك فالمعارضة هي الوجه الآخر للنظم السياسية القائمة، حيث تتعلم أساليبها وتتبنى أطرها وآلياتها وسلوكها العام إذا وصلت إلى الحكم.

أ ف ب
تمثال محطم لحافظ الأسد ملقى خارج مكاتب حزب "البعث" في دمشق

والمشكلة التي وقعت فيها قوى الإسلام السياسي في العراق تكمن في أن مشروعها السياسي بدأ يتجه نحو أسلمة قوانين الدولة. وخسرت فاعليتها الاجتماعية القائمة على أساس معارضتها للدكتاتورية ومطالبتها بحقوق الطبقات المسحوقة، بعد أن تحولت ممارساتها في إدارة الدولة إلى الاستئثار بالسلطة والهيمنة عليها. وكما يقول كنعان مكية في كتابه "جمهورية الخوف": "إن ضحايا القسوة والظلم ليسوا أفضل من معذبيهم، بل إن وضعهم في العادة ليس أكثر من مجرد انتظار لتبادل الأدوار معهم".

الإسلاميون في سوريا، الآن بيدهم السلطة. وهم وحدهم من يديرون مؤسسات الدولة. وقائدهم أحمد الشرع يعترف بأن "شكل التعيينات الحالي كان من ضرورات المرحلة وليس إقصاء لأحد... والمحاصصة في هذه الفترة كانت ستدمر العملية الانتقالية". وهذه خطوة في الطريق الصحيح، ودرس مهم تعلمته سوريا من تجربة المحاصصة الطائفية والقومية في العراق بعد التغيير. لا سيما إذا لم تكن الغاية منها الاستئثار بالسلطة الذي يخيم على تفكير الإسلامويين عند وصولهم لسدة الحكم.

font change

مقالات ذات صلة