يؤسفني وأنا عراقي أن أكتب عن تجربة تغيير نظام دكتاتوري، وبلادي لا تزال تراوح مكانها ولم تنجح في تجاوز آثاره لا على الدولة ولا على المجتمع. وأثناء إذاعة خبر "سوريا من دون بشار الأسد" التي أعلنها مذيع قناة "العربية- الحدث" حسين الشيخ، بنبرة يجتمع فيها الفرح وهول الصدمة من خبر انهيار نظام دكتاتوري، في هذه اللحظة عادت بي الذاكرة إلى 9 أبريل/نيسان 2003، وشاركت السوريين فرحة سقوط الدكتاتورية التي تأخرت عليهم كثيرا. وفي الوقت ذاته، بدأت أستحضر دوائر مخاوف المرحلة الانتقالية التي مر بها العراق، ولا يزال بسبب أخطاء البدايات وتراكماتها.
نقاط التشابه والاختلاف
يتشابه العراق وسوريا بسيطرة حكم دكتاتوري شمولي قبل التغيير، وكلاهما كانا يحكمان بأيديولوجيا قومية عنوانها "حزب البعث العربي الاشتراكي". ولعل من مصادفات التاريخ أن يكون هناك تشابه بين عدد سنوات الاضطرابات وسقوط النظام بعدها، فنظام حكم صدام حسين سقط بعد انتفاضة الوسط والجنوب في 1991، والتي تمكن من دحرها وفرض سيطرته على مناطق التمرد، ولكن هذه السيطرة استمرت 13 عاما، حتى تم إسقاطه بالتدخل العسكري الأميركي. أما في سوريا فقد بدأت حركات الاحتجاجات في 2011، وتمكن نظام الأسد من مواجهتها وإعادة فرض سيطرته على مناطق التمرد الرئيسة، لكن بشار الأسد ترك البلاد وهرب بعد 13 عاما أيضا.
التشابه الثاني، أن المعارضة التي أثبتت وجودها في مواجهة نظامي حكم "البعث" في سوريا والعراق، تمثلت بحركات إسلامية وقومية كردية. القوى الإسلامية في العراق كانت تتصدرها حركات الإسلام الشيعي، وهي كانت تنادي بالحكم باعتبارها تمثل الأغلبية الطائفية. أما في سوريا فإن حركات الإسلام السياسي السني كانت تعلن معارضتها لنظام حكم تسيطر عليه الأقلية العلوية. ولذلك كان البعد الطائفي في التوجه نحو معارضة نظام الحكم عاملا أساسيا، ونجح في استثمار الاختلاف المذهبي في معارضة سطوة حكم صدام حسين في العراق وحكم الأسد في سوريا.
أما نقطة التشابه الثالثة، فهي بقايا النظام الشمولي وترسباته وثقافته السياسية. ففي المرحلة الانتقالية يتم استذكار مرحلة الدكتاتورية باقتران وجودها بتحقيق الاستقرار والقوة للنظام السياسي. وتجاهل أن قوة النظام واستقراره كانا على مستوى البناء الفوقي فقط. لأن الأنظمة الشمولية تنجح فعليا في زرع بذور التفكك وانعدام الثقة بين فئات المجتمع، ولذلك تنتج الدكتاتوريات "مجتمعا جماهيريا" حسب توصيف حنة آرندت، يتحول فيه الإجماع الوطني إلى قضية شعاراتية وشكلية تتمظهر بهتاف "بالروح بالدم نفديك يا زعيم". وعندما يغيب ذاك الزعيم وحزبه الحاكم، نجد أنفسنا فجأة في مجتمع يفتقر تماما إلى مرتكزات الإجماع السياسي الوطني. فالمجتمع الجماهيري فارغ ومفكك، أعضاؤه ذرات منعزلة، يفكر كل منهم بمفرده، وينظر للآخرين كذئاب تسعى لاستغلاله أو كفرصة للاستغلال. ومن ثم عندما ينهار سقف الدكتاتورية يسعى الأفراد لضمان مصالحهم ومستقبلهم الشخصي بقوة السلاح لا القانون. ويعود المجتمع إلى حالة ما قبل الدولة التي وصفها توماس هوبز "حرب الجميع على الجميع". وهذه الحالة مر بها العراق مع بدايات تغيير النظام، وهناك مخاوف من تكراراها في سوريا.