هالة القوصي لـ"المجلة": صناع السينما العرب لا يمتلكون الحرية الكاملة

فيلمها الأحدث "شرق 12" عرض في "البحر الأحمر السينمائي"

Tristan Fewings/Getty Images for The Red Sea International Film Festival
Tristan Fewings/Getty Images for The Red Sea International Film Festival
هالة القوصي في استوديو التصوير بمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي 2024

هالة القوصي لـ"المجلة": صناع السينما العرب لا يمتلكون الحرية الكاملة

من بين الأفلام العربية التي شاركت في "مهرجان كان السينمائي" في 2024، كما في "مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي"، كان الفيلم الهولندي المصري "شرق 12" للفنانة المصرية هالة القوصي الذي يمكن أن يحمل في سياق الحديث عنه حكايات عن الصناعة السينمائية العربية راهنا.

في فيلم القوصي القصير "لا أنسى البحر" نشاهد عصارة فكرة فيلم "شرق 12". يعتبر الفيلم أيضا أن الخيال لا يموت، بل يهرب. يقيم مواجهة خطابية مباشرة بين البحر والخوف، وما الذي يجعلهما في تضاد؟ يعطي الخيال صاحبه مدى أبعد من لحظته الراهنة، يعطيه الأمل في ممارسة حياة أكثر آدمية. ما يجعل الأمل والرغبة في الحياة فعلا رغم كل شيء، هو عطاء البحر غير المحدود. يقف البحر في مواجهة مع الضيق، البحر ضد كل ما هو ضيق ولا يمكنه احتواء الآخر. ليبدو البحر تعبيرا مثاليا عن خيالات أصحابه ورغباتهم الأصيلة.

موسيقى التمرد

أما في "شرق 12" فثمة قصة رمزية عن الشاب الموسيقي عبدو الذي يتمرد على شيوخه من كبار السن، باحثا عن الحرية من خلال آلاته التي اخترعها وكتب لها موسيقى الفنان أحمد الصاوي. خلق موسيقى من أشياء مثل العصا والحذاء وأشياء أغرب. كل ذلك في عالم خارج الزمان وربما المكان.

اختارت القوصي الأبيض والأسود في فيلمها الأحدث، وهو ما ساعد في إبراز راديكالية خطابها البصري الذي يبدو محملا عوالم الفن التشكيلي

جس نبض الخطاب البصري والمكتوب في هذا الفيلم يبدأ من إعادة النظر في تسميته ذاتها East of Noon التي تُرجمت إلى "شرق 12" بعد أن كان اسمه أساسا "شرق الظهيرة". تقف تلك التسمية نسبيا على مساحة ما من الزمان والمكان بينما تطرح خطابها خارجهما تماما. "الشرق" الذي نعيش فيه. "12" في منتصف النهار أو عز الظهر كما نقول. نشاهد أبطالا داخل مستعمرة لا تبدو تماما عربية أو في زمن يمكن أن يعلمه المشاهد.

يخرج الفيلم الطويل هنا عن تحديد البحر كمكان موجِه للأحداث. يسبح في مسارات متعددة، جميعها لا تدلنا على شيء واحد. بل تصبح تسمية الفيلم نفسها مساحة تورط ولعب مع المتفرج العربي وغير العربي، إذ يمكن تأويل كل الأحداث السوريالية في الداخل إلى حقيقة يراها الجميع. بل إنها تحاول الفرار حتى من لهجة الأبطال العربية إلى كلمات لا يفهمها أي متفرج ولا تمثل أي لغة في بعض المشاهد.

فيلم "شرق 12"، دراما كوميدية سوداء من إخراج هالة القوصي

من الفن التشكيلي إلى السينما الوجودية

اختارت هالة القوصي الأبيض والأسود في فيلمها الأحدث، تماما كما في فيلمها القصير، وهو ما ساعد في إبراز راديكالية خطابها البصري الذي يبدو محملا عوالم الفن التشكيلي الذي جاءت منه. الفيلم بمثابة لوحات بصرية متحركة دسمة بشكل يجعل فهمها الكلي صعب التحقق من المرة الأولى.

تقول القوصي في حوارها مع "المجلة": "تصوراتي تتجسد في كل أعمالي على اختلاف الوسيط لكنني أراعي إلى حد كبير اختلاف أسلوب التلقي بين العمل التشكيلي والسينمائي. للسينما أساسيات كان عليّ أن ألمّ بها، فعلى سبيل المثل، البناء المحكم للسرد ضمن الخط الزمني، والتصاعد الدرامي وبناء الشخصيات وتطورها ووضوح أهدافها ووضوح التحديات التي تواجهها. هذه الأساسيات ليست بالضرورة أساسية ونحن في صدد إنتاج فيديو في معرض فنون بصرية. لكنني بالتأكيد احتفظت بمساحة تجريب واسعة عندما انتقلت إلى السينما، فعندما بدأت في هذا المجال لم أترك خلفي العالم الذي شكلني وهو عالم الفنون الرحب الذي يتمتع فيه الفنان بحريات عظيمة. لطالما كنت مشغولة بالمساحة بين الواقع والخيال والتراوح بينهما وطرق التعبير عنهما، وأخذت هذا معي إلى عالم السينما. أنا لا أصنع السينما كشخص آخر بل بوصفي الشخص نفسه مع مراعاة متطلبات الوسيط الفني".

فيلم "شرق 12"، دراما كوميدية سوداء من إخراج هالة القوصي

تقول القوصي إن فيلمها لم يجد تمويلا عربيا على مدار سنوات بل نال تمويله الأساسي من هولندا. هذا الواقع يبدو في صميم حديث عن التجريب السينمائي عموما، إذ يبدو أن الاختبار الذي تقسو خلاله هالة القوصي على ذاتها للوصول إلى أقصى مساحات استخدام الخيال، كان السبب في العقبات الإنتاجية التي واجهت الفيلم.

لطالما كنت مشغولة بالمساحة بين الواقع والخيال والتراوح بينهما وطرق التعبير عنهما وأخذت هذا معي إلى عالم السينما

تشرح ذلك بأنها "مثل كل صانع سينما عربي لا أمتلك الحرية الكاملة، فنحن جزء من المجتمعات العربية ومن الصناعة التي ننتمي إليها ومن الجمهور الذي نتوجه إليه. الصانع يهدف إلى أن يوسع نطاق حريته إلى أكبر حد ممكن في لحظة تاريخية معينة، مع الحفاظ على قدرته على الوصول إلى الجمهور. لذلك ما يعد حرية، نسبي، ونسبيته راجعة إلى وجود الصانع في لحظة ما وليس في غيرها. ما كان متاحا من خمسين عاما، بعضه لم يعد متاحا. والعكس صحيح. أنت تصبو لأن تصنع في لحظتك منتجا مواكبا للحظته بما هو متاح لك".

فيلم "شرق 12"، دراما كوميدية سوداء من إخراج هالة القوصي

تبدأ القوصي من الخيال وتنتهي من خلاله في مشهد ختامي ملحمي يبدو السبب في طرح كل ما سبقه في هذا الشكل: نشاهد عالما متحررا تماما من السيطرة السابقة، متحررا حتى بصريا على اعتباره المشهد الملون الطويل. أناس يتطهرون بالماء من أرض ملوثة بالكامل. تأمل في عالم حقيقي. تطرح هالة أسئلتها وأحكامها خطابيا بشكل بصري لا يبدو مألوفا تماما لكنه لا يخلو من نضج.

طرح مغاير

تقول القوصي في حوارنا معها: "طموحي الأساسي أن أقدم طرحا مغايرا، أن أجرب وأغامر، مراهنة على أن الجمهور لا حدود لقدرته على تلقي أشكال مختلفة من الطرح السينمائي. النماذج التي تتبنى أشكالا مختلفة للطرح كثيرة ، فالطرح يتشكل ويتغير كل يوم، وفي رأيي أن لا قيمة كبيرة في إنتاج يتمسك بشكل معهود وقديم، ولا يُسائل وسيطه ولا يواكب لحظته التاريخية ولا يغامر".

فيلم "شرق 12"، دراما كوميدية سوداء من إخراج هالة القوصي

تضيف: "الرؤية الغالبة للسينما محدودة في كونها جزءا من عالم الترفيه وأن هدفها الأساس هو التسلية وتحقيق الربح المادي لمنتجيها. وحتى لا يساء فهمي، لست ضد الربح، لكن السينما فن، وهي ربما أعمق الفنون تأثيرا، ولذلك فإن إغفال قدرتها على التأثير بشكل أعمق من سطحية التسلية هو هدر كبير. الدول الغربية عموما وهولندا هنا ليست مختلفة، تدعم صنّاع السينما بشكل واسع: دعم مادي ودعم تقني ودعم في خلق قنوات التوزيع إلخ... كان الصناع في ما سبق في فترات ازدهار الصناعة في مصر يتمتعون بدعم الدولة وليس فقط الدولة بل كان الفنانون يشاركون بشكل واسع في مجال الإنتاج ويدعمون مخرجين في بداية مشوارهم السينمائي، وهو بالتأكيد مختلف عن الحال الذي نحن عليه الآن. الصناع الموهوبون موجودون، لكن ظروف الصناعة الحالية شاقة جدا مما يجعل الإنتاج لا يتناسب مع المجهود المبذول، لا على مستوى الكم ولا الكيف، وإن كان هناك دعم متزايد من جهات مانحة محلية، فإنه قليل بالمقارنة مع حجم الإقبال".

لا قيمة كبيرة في إنتاج يتمسك بشكل معهود وقديم ولا يسائل وسيطه ولا يواكب لحظته التاريخية ولا يغامر

على الرغم من ذلك، لا تتوقف المخرجة عن محاولة سرد طموحاتها سينمائيا، ففي فيلم "زهرة الصبار"، أول أفلامها الطويلة، تقدم خطابا يحمل بعض السوريالية التي لا تتنازل عنها في أفلامها المختلفة. عايدة ممثلة صاعدة منحدرة من خلفية قروية، تجد نفسها بين ليلة وضحاها، مطرودة من منزلها وتجول في شوارع القاهرة بصحبة جارتها البورجوازية المنطوية سميحة. ليس لدى المرأتين أي مال أو مكان تلجآن إليه. وبمساعدة شاب اسمه ياسين، تبدأ السيدتان رحلة البحث عن مأوى. وما بين أحداث عادية، وأخرى كارثية، يتحرك الثلاثة في رحلة لاستكشاف الذات، فيما تنمو بينهم صداقة استثنائية، مثل زهرة رقيقة تتفتح من بطن صبارة شائكة.

فيلم "شرق 12"، دراما كوميدية سوداء من إخراج هالة القوصي

تختار القوصي اختبار حدود الصورة والصوت أثناء سرد حكايتها، فنشاهد تخييلات تقاطع الواقع، فثمة تنازل تام عن الصوت أحيانا، وصراخ في كل مكان في أحيان أخرى. وثمة قيادة مثالية للمجموعات التي تظهر لتحكم المشهد السوريالي الذي يحكى من أجل إسباغ شعور عام على الحكاية: كيف يمكن الإنسان أن تصبح معجزته الكبرى هي الاستمرار في العيش؟

ومثلما تؤهل مشاهد "شرق 12" الى النهاية الملحمية، كذلك تؤهل حركات سلمى واختياراتها في المشاهد النهائية. في المشهد ما قبل النهائي، تترك أبطالها للبحر أيضا. التحرر والطهارة ذاتها التي تختارها لأبطال سحقهم العيش وعاندهم الظرف التاريخي.

فيلم "شرق 12"، دراما كوميدية سوداء من إخراج هالة القوصي

يبدو مشروع هالة القوصي عموما تحديا للأنماط السائدة للسرد السينمائي العربي. تختبر من خلاله حدود قدراته المختلفة. حتى إذا كان أنضجها على الإطلاق هو "شرق 12"، فإن نقطة قوة المشروع تكمن في السعي نحو استكشاف الفراغات أكثر من السعي الى الكمال. مشروع يحكي عن الخيال كما يفسر وجود الرقابة، هذه الرقابة على غير العادة هي الرقابة الإنتاجية التي يتحرك من خلالها الإنتاج العربي ويحدد مسارات صناعه نوعا ما. جرأة قد تنجح مرة وتتخبط مرات، لكنها تستحق الإبراز والتشجيع.

font change