فوميكو هاياشي في جحيم اليابان الاستعماري

سردياتها تصوّر أهوال الحرب بريشة انطباعية

Shutterstock
Shutterstock
تمثال فوميكو هاياشي في أونوميتشي، اليابان

فوميكو هاياشي في جحيم اليابان الاستعماري

الكتابة دعوة، مَن يتلقاها ويصغي إليها لا يحتاج إلى راحة مادية لممارستها والتألق فيها، والدليل نجده في تجربة الكاتبة اليابانية فوميكو هاياشي (1903 ـــ 1951) التي لم تمنعها ظروف حياتها الرهيبة من كتابة عشرات الروايات والقصص والقصائد، ومن فرض نفسها كأحد أبرز وجوه الأدب الياباني الحديث، في زمن وبلد لم تكن المرأة تتمتع فيهما بأدنى الحقوق.

هذا الإنجاز لم يحل، مع الأسف، دون وقوع هاياشي في دائرة الظل بعد رحيلها، حتى في وطنها، على الرغم من أن العديد من رواياتها تحولت إلى أفلام على يد المخرج الياباني الكبير ميكيو ناروسي. ولرفع بعض من الغبن الذي لا يزال يلحق بها، وتسليط الضوء على مواهبها السردية والكتابية، أقدم الروائي والمترجم الفرنسي رينه دو سيكاتي، وهو أحد أبرز المتخصصين في الأدب الياباني، على نقل مختارات من قصصها إلى اللغة الفرنسية، صدرت حديثا في باريس تحت عنوان "ناي طائر الرهو" (دار "أرفوين"). إصدار نغتنمه للتعريف بمسيرة هذه الكاتبة المجهولة كليا في عالمنا العربي، وبمميزات عملها الأدبي، قبل التوقف عند قصصها المترجمة التي تفتن قارئها، شكلا ومضمونا، إضافة إلى منحها إياه فكرة دقيقة عما عاناه اليابانيون خلال العقدين الأخيرين من عهد الإمبراطور هيروهيتو.

حياة بوهيمية

من حياة هاياشي، نعرف أنها ولدت لعائلة فقيرة جدا، وأمضت سنوات طفولتها ومراهقتها على الطرق، لأن والدها بالتبني كان بائعا متجولا. في سن الثامنة عشرة، توجهت إلى طوكيو حيث عاشت حياة بوهيمية وعاشرت المحيط الأدبي والفني الطلائعي، بموازاة ممارستها مهنا صغيرة (عاملة في مصنع، نادلة، مغنية في ملهى...) لكسب قوتها وطرد الفقر الذي كان يلاحقها مثل ظلها، والذي طبع عملها الكتابي بقدر علاقاتها العاطفية الصاخبة. وفي تلك الفترة، نشرت قصائد في مجلة "فوتاري" الشعرية التي شاركت في إطلاقها، وقصصا كثيرة في مجلات أدبية مختلفة. لكن يجب انتظار صدور روايتها السيرذاتية، "متشردة" (1930) كي تعرف شهرة كبيرة في وطنها وتكسب ما يكفي من المال لتلبية رغبتها في السفر، فتزور الصين أولا، ثم تتجول في أرجاء أوروبا.

أصبحت هاياشي الكاتبة الأكثر شعبية في وطنها، على الرغم من الانتقادات التي تعرضت لها جراء مشاركتها في الدعاية الحربية التي روّج لها نظام هيروهيتو

انطلاقا من عام 1938، انضمت هاياشي إلى حلقة من المراسلين الحربيين المؤيدين للنظام العسكري الياباني، وكتبت ريبورتاجات عن الحرب الصينية ــ اليابانية لصحف ومجلات مختلفة. عام 1941، توجهت مع مجموعة من الكاتبات اليابانيات إلى منشوريا التي كانت تحت الاحتلال الياباني، قبل أن تقصد في العام التالي جنوب شرق آسيا، فتمضي ثمانية أشهر بين جزر أندمان وسنغافورة وجاوا وبورنيو.

Kyodo News Stills via Getty Images
الكاتبة فوميكو هاياشي

بعد الحرب العالمية الثانية، كرست هاياشي معظم وقتها للكتابة، فوضعت روائعها الأدبية الثلاث: "زهور الأقحوان الأخيرة" (1948)، "غيوم عائمة" (1950)، "الوجبة" (1951)، ونصوصا سردية وشعرية كثيرة غيرها، وأصبحت الكاتبة الأكثر شعبية في وطنها، على الرغم من الانتقادات التي تعرضت لها من جراء مشاركتها في الدعاية الحربية التي روّج لها نظام هيروهيتو، ومن عدم تقديمها أي اعتذار أو تبرير لسلوكها هذا.

غلاف رواية "غيوم عائمة"

لكن عام 1951، عاجلتها المنية إثر إصابتها بنوبة قلبية ناتجة من إفراطها في العمل، وكانت لا تزال في سن الثامنة والأربعين. رحيل مبكر تأسف عليه صديقها، الكاتب الكبير ياسوناري كاواباتا، في الكلمة التي ألقاها خلال جنازتها، ودفع بلدية طوكيو إلى تحويل منزلها في هذه المدينة إلى متحف، وبلدية مدينة أونوميشي، حيث نشأت، إلى نصب تمثال برونزي في أحد شوارعها تخليدا لذكراها. تكريم لن يحول دون تلاشي شهرتها قبل بلوغها العالم الخارجي، على الرغم من ترجمة أبرز أعمالها إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإيطالية ولغات أخرى.

AFP
الكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا

حرية واضطراب

في روايات هاياشي وقصصها، ثمة غالبا نساء متحررات يختبرن حياة عاطفية مضطربة، مثلها. وفي الدراسة التي وضعتها حولها، تشير الباحثة الأميركية جوان إريكسون، التي ترجمت روايتيها "متشردة" و"نرسيس" إلى الإنكليزية، إلى أن قيمة هذه الكاتبة تكمن في الشفافية الذي تنقل بها، ليس فقط إنسانية أولئك النساء، بل أيضا أشخاص آخرين يقبعون في الجانب المعتم للمجتمع الياباني. وفي هذا السياق، تشكّك إريكسون في الطابع السيرذاتي لأعمالها، وتعبّر عن وجهة نظر مخالفة لآراء الجامعيين والنقاد الذين قرأوا هذه الأعمال من هذه الزاوية فقط، ولم يروا الخيال الفاعل فيها، الذي يحوّل تجربة هاياشي الشخصية ويتلاعب بها بعمق. وجهة نظر تؤيدها الشاعرة اليابانية نوريكو ميزوتا، ومواطنتها المترجمة كيوكو إيريي سيلدن، اللتان تعتبران أن الروايات والقصص التي وضعتها هذه الكاتبة خلال مرحلة نضجها هي "أعمال خرافية خالصة ومنجزة بإتقان فني مدهش". وهو ما أكدته بنفسها، حين أوضحت أنها لجأت إلى الخيال لفصل نفسها عن "الالتباس المثير للغثيان" الذي تسببت به رواية "متشردة" المستوحاة بشكل كبير من سنوات صباها.

في مرحلة نضجها لجأت إلى الخيال لفصل نفسها عن "الالتباس المثير للغثيان" الذي تسببت به رواية "متشردة" المستوحاة من سنوات صباها

القصص الـ 11 التي نقلها دو سيكاتي حديثا إلى الفرنسية، كتبتها هاياشي بين عامي 1930 و1948، وصدرت بمعظمها في مجلات وهي حيّة، قبل أن يأخذ بعضها مكانه في كتب صدرت بعد رحيلها. قصص نكتشف فيها بلدا مدمرا جراء الحرب، وشخصيات تقضي وقتها في البحث عن عمل ومأوى وطعام، في استحضار تجربة الحرب التي عاشتها أو شاركت فيها، من دون أن تفهم دوافعها، وفي تذكر أطفال، زوجات أو أصدقاء تواروا بسببها. لكن على الرغم من أجواء الأسى والخراب الطاغية، نستشعر في هذه القصص شكلا غريبا من الصفاء والطمأنينة. كأن الأقدار الفردية فيها تبقى أقل أهمية من لحظة جمال أو من ابتسامة طيبة على وجه. كأن نشيد الناي الغامض الذي يرتفع في بعضها هو وحده المهم لتجنب فقدان الأمل.

Shutterstock
حديقة قاعة فوميكو هاياشي التذكارية

واقعية سحرية

من بين هذه القصص، ثمة ثلاث كتبتها هاياشي على شكل حكايات للأطفال، بأسلوب واقعي سحري. في الأخرى، تلجأ تارة إلى صيغة المتكلم، وطورا إلى صيغة المجهول، لسرد فصول من تجربتها الشخصية، لكن بعد تمريرها في مرشح الخيال. ومع أن الحب والانفصال بين كائنين تائهين هو موضوع متواتر فيها، لكن الحرب تبقى كلية الحضور، ومعها العوز الذي رافقها أو تبعها، والخراب الذي تسببت به، خصوصا في طوكيو. وفي هذا السياق، يصور بعضها فرار معظم سكان هذه المدينة منها بسبب القصف اليومي الذي كانت تتعرض له، وبحثهم عن وسائل مختلفة للبقاء على قيد الحياة، من بينها التوجه إلى الريف حيث سيكتشفون نوعا آخر من الحياة، ويعيشون غالبا بين أيتام وعجزة وأمهات أو آباء فقدوا أطفالهم أو رفيق(ة) دربهم.

AFP
فرقة بحرية يابانية تستعد لهجوم على مدينة تنغهاي خلال الحرب الصينية اليابانية

اللافت أيضا في هذه القصص هو ترصيع هاياشي السرد الانطباعي فيها بقصائد لها، الأمر الذي يدرجها ضمن التقليد الأدبي الياباني. لكنها لا تكتفي بذلك، بل تثري أيضا نثرها باقتباسات من شعراء يابانيين آخرين، وبمراجع تعود إلى ممارسات أو معتقدات دينية، بوذية أو وثنية، وتلجأ إلى شكل الحكاية، وإلى الخارق، كوسيلتين لتطرح برهافة مشاكل اجتماعية أو سيكولوجية، كألم الانفصال عن حبيب، للشهادة على أهوال الحرب أو محنة النزوح، وخصوصا لتصوير هزيمة وطنها ونتائجها المدمرة على أبنائه.

سرد إيقاعي ورؤى خاطفة تظهر فيها حساسيتها الشديدة تجاه الأماكن الموصوفة، وقدراتها العالية على تصوير تيه شخصيات معزولة خلال الليل

من جهته، يلاحظ المترجم دو سيكاتي، في المقدمة التي وضعها لهذه القصص، تشابهات بينها وبين حكايات كينجي ميازاوا، المزامنة لها، وحكايات هانز كريستيان أندرسن التي كانت هاياشي أول من نقلها إلى اليابانية. يلاحظ أيضا آثار ولعها بالكتّاب الروس، في قصصها ذات الطابع الـتأملي، خصوصا أنطون تشيخوف الذي تظهر بصمته بوضوح في جوقة الأصوات التي ترتفع داخل قصة "البحث عن وظيفة". وإذ يصيب في استشفافه عنصرا تعاطفيا وإنسانيا توازن الكاتبة به وصفها لانحدار المجتمع الياباني خلال الحرب وبعدها، ويتجلى عن طريق صداقة أو سلوك تضامني يلطف مشاعر اليأس والعزلة والضياع لدى شخصياتها. لكننا لا نرى مثله تناقضا بين النفور من الأمومة الذي يتسلط على بعض قصصها، واهتمامها بأدب الأطفال، بل نتيجة منطقية لمن لم يختبر في طفولته سوى حياة البؤس والمعاناة وعدم الاستقرار، ولم يكن يملك سوى مخيلته للفرار من واقعه الرهيب، على غرار الكاتبة.

غلاف رواية "متشردة"

نرى أيضا أن القصص التي اختار دو سيكاتي ترجمتها وجمعها في كتاب، تستمد قيمتها من مواصفات كل منها، وأيضا من تسلسلها الذي، بتغطيته جزءا كبيرا من مسيرة هاياشي، يسمح برؤية تطور عملها الكتابي ونظرتها إلى العالم والعلاقات البشرية. فبينما تشكل قصتا "خراب" و"عودة إلى الريف"، اللتان تفتحان هذا الديوان، امتدادا لرواية "متشردة"، تتميز قصة "وسط المدينة" التي تختمه بتشييد يتجاوز في إحكامه وسحره حبكات القصص السابقة، كما تتميز بتقديمها صورة أقل سلبية وتشاؤما للعلاقات العاطفية. قصة يتجلى فيها نضج بصيرة هاياشي في نهاية دربها، ومعه تلك الشعرية المتنامية في نثرها، التي يعكسها اقتصاد كبير في الكلمات، سرد إيقاعي ورؤى خاطفة تظهر فيها حساسيتها الشديدة تجاه الأماكن الموصوفة، وقدراتها العالية على تصوير تيه شخصيات معزولة خلال الليل، في أحياء كانت قبل الحرب مرصودة للملذات أو في مناطق مهجورة، على شاطئ البحر أو على ضفة نهر، في بيئة مدينية أو فضاء ريفي، وعموما، في أماكن قوّضها البؤس ومزّقها عنف البشر.

تصوير بلغة شديدة الحيوية، تتأرجح نبرتها بين إحباط وفجاجة وتأمل حلمي، وبين سخرية وغنائية، وتنفتح بأسلوبها المتبدل على أنواع أدبية مختلفة تمتد من الحكايات الأسطورية إلى الرؤى الحديثة لنهاية العالم، مرورا بسرديات التشرد الشهيرة في التقليد الأدبي الياباني.

font change