الكتابة دعوة، مَن يتلقاها ويصغي إليها لا يحتاج إلى راحة مادية لممارستها والتألق فيها، والدليل نجده في تجربة الكاتبة اليابانية فوميكو هاياشي (1903 ـــ 1951) التي لم تمنعها ظروف حياتها الرهيبة من كتابة عشرات الروايات والقصص والقصائد، ومن فرض نفسها كأحد أبرز وجوه الأدب الياباني الحديث، في زمن وبلد لم تكن المرأة تتمتع فيهما بأدنى الحقوق.
هذا الإنجاز لم يحل، مع الأسف، دون وقوع هاياشي في دائرة الظل بعد رحيلها، حتى في وطنها، على الرغم من أن العديد من رواياتها تحولت إلى أفلام على يد المخرج الياباني الكبير ميكيو ناروسي. ولرفع بعض من الغبن الذي لا يزال يلحق بها، وتسليط الضوء على مواهبها السردية والكتابية، أقدم الروائي والمترجم الفرنسي رينه دو سيكاتي، وهو أحد أبرز المتخصصين في الأدب الياباني، على نقل مختارات من قصصها إلى اللغة الفرنسية، صدرت حديثا في باريس تحت عنوان "ناي طائر الرهو" (دار "أرفوين"). إصدار نغتنمه للتعريف بمسيرة هذه الكاتبة المجهولة كليا في عالمنا العربي، وبمميزات عملها الأدبي، قبل التوقف عند قصصها المترجمة التي تفتن قارئها، شكلا ومضمونا، إضافة إلى منحها إياه فكرة دقيقة عما عاناه اليابانيون خلال العقدين الأخيرين من عهد الإمبراطور هيروهيتو.
حياة بوهيمية
من حياة هاياشي، نعرف أنها ولدت لعائلة فقيرة جدا، وأمضت سنوات طفولتها ومراهقتها على الطرق، لأن والدها بالتبني كان بائعا متجولا. في سن الثامنة عشرة، توجهت إلى طوكيو حيث عاشت حياة بوهيمية وعاشرت المحيط الأدبي والفني الطلائعي، بموازاة ممارستها مهنا صغيرة (عاملة في مصنع، نادلة، مغنية في ملهى...) لكسب قوتها وطرد الفقر الذي كان يلاحقها مثل ظلها، والذي طبع عملها الكتابي بقدر علاقاتها العاطفية الصاخبة. وفي تلك الفترة، نشرت قصائد في مجلة "فوتاري" الشعرية التي شاركت في إطلاقها، وقصصا كثيرة في مجلات أدبية مختلفة. لكن يجب انتظار صدور روايتها السيرذاتية، "متشردة" (1930) كي تعرف شهرة كبيرة في وطنها وتكسب ما يكفي من المال لتلبية رغبتها في السفر، فتزور الصين أولا، ثم تتجول في أرجاء أوروبا.