حفل تنصيب لأميركا الجديدة

حطم اليمين الجمهوري سيطرة الديمقراطيين على وسائل الإعلام

حفل تنصيب لأميركا الجديدة

ساهم الطقس الجليدي في واشنطن بالتغيرات التي طغت على حفل تنصيب الرئيس الأميركي السابع والأربعين بنقل المراسم إلى قاعة مبنى الكابيتول بدلا من مدخل الكونغرس، المكان المعتاد لأداء الرؤساء الأميركيين القسم.

وهذا، لا ريب، أقل التغيرات أهمية في الحفل الذي دشن حقبة جديدة من تاريخ أميركا والعالم والمسار الذي سيمضيان فيه. العدد الكبير من القرارات التنفيذية التي وقعها الرئيس ترمب فور الانتهاء من حفل التنصيب، يشير إلى أن الخطة المعدة مسبقا "لجعل أميركا عظيمة مجددا" قد بدأت بالفعل ضمن تصور عن موقع أميركا في العالم شهد وسيشهد (التصور) نقاشا عميقا وعاصفا في بعض الأحيان، ظل الكثير من جوانبه في منأى عن اهتمام وسائل الإعلام العربية.

وقوف أربعة من أصحاب شركات التقنية المتقدمة في الصفوف الأمامية أثناء الحفل، يعلن أمرين: أن "أميركا الشركات" قد حققت انتصارا هائلا كانت آخر علاماته انضمام رئيس شركة "ميتا" مارك زوكربيرغ إلى منافسه في عالم السوشيال ميديا إيلون ماسك في "إزالة العقبات أمام حرية التعبير" على منصتي "فيسبوك" و"إنستغرام" ما ستكون له تبعات ضخمة في قولبة الرأي العام والأجيال الشابة. أيضا عملاقا التكنولوجيا الحاضران في الحفل، جيف بيزوس من "أمازون" وسوندار بيتشاي من "غوغل" يمثلان الخط الأيديولوجي (إذا صح التعبير) ذاته في النظر إلى المستقبل وعلاقات السوق والمستهلك والإنتاج والتوزيع. تراجعت فجأة ادعاءات الاهتمام بالبيئة وبعمالة الأطفال وبحقوق الإنسان التي حاولت أقلية من الشركات هذه رفعها، عندما خيرت بين السير مع ترمب أو مع "الموضة" الإنسانوية التي تشارف على الانهيار.

صورة كبار رجال التكنولوجيا (التي غاب عنها رئيس "آبل" التنفيذي، تيم كوك، الذي تؤدي شركته دورا مركزيا في التغيرات العميقة التي تشهدها أميركا) رمز واحد لما سيأتي. الانسحاب من "منظمة الصحة العالمية" ومن "اتفاقية باريس" للمناخ. من جهة ثانية، يقولان إن الولايات المتحدة التي احتفلت "بانتزاع السيادة على صحتها" تمضي في طريق خطير ليس من تقليل أهمية اللقاحات والوقاية المسبقة، بل أيضا على طريق جعل القطاع الصحي مكانا للسيطرة المطلقة لشركات التأمين الكبرى والصناعات الدوائية.

نجح الجناح الموالي لترمب داخل الحزب الجمهوري في إلقاء اللوم على الديمقراطيين في كل ما يعاني منه الأميركي العادي اليوم، من الجريمة إلى حرائق الغابات في كاليفورنيا

هذه الوقائع باتت غير ذات أهمية سياسية باستثناء لدى بعض النخب والأكاديميين، بعدما تحول الحزب الديمقراطي من قوة مؤثرة في حماية مصالح الفئات المهمشة والأضعف والأقليات، إلى جماعة همها صراع الهويات الجندرية والإثنية أو ما يسمى ظاهرة "الووك" التي انحصرت في مدن الساحلين الشرقي والغربي للولايات المتحدة والتي فشلت بدورها في تقديم نموذج يحتذى لأكثرية الأميركيين المتضررين من التضخم والضرائب المرتفعة وآثار وباء "كوفيد-19". ولا يحتاج المرء إلى بصيرة خاصة لرؤية أن الهوة الفاصلة بين الطبقة العليا من الحزب الديمقراطي المنغمسة في صراعاتها وحماية مصالحها وبين من تدعي تمثيلهم، تتحمل في نظر الأميركيين العاديين مسؤولية كل الأزمات القائمة بغض النظر عن فداحة أضرارها، كقضية المهاجرين غير النظاميين. فقد نجح الجناح الموالي لترمب داخل الحزب الجمهوري في إلقاء اللوم على الديمقراطيين في كل ما يعاني منه الأميركي العادي اليوم، من الجريمة إلى حرائق الغابات في كاليفورنيا.

وفي طريقه نحو النجاح المذكور، حطم اليمين الجمهوري سيطرة الديمقراطيين على وسائل الإعلام الجماهيرية. وأصبحت حلقات "تجربة جو روغان" من البودكاست التي تبث على السوشيال ميديا على سبيل المثال، أهم بما لا يقاس من برامج "سي إن إن" أو "إم إس إم بي سي" وما شاكلها. وتحولت نظرية المؤامرة التي تمتد من إخفاء السلطة لحقائق عن الكائنات الفضائية إلى الهوس بماض متخيل عن حضارات جبارة بائدة، إلى "حقائق بديلة" يجب أن تحظى بحقها في التعبير عن نفسها بل أيضا بالاحترام من قبل الجمهور.

كل هذا وغيره يجري على خلفية التبدلات في التركيبة الاجتماعية الأميركية المستمرة منذ ثمانينات القرن الماضي والتي نقلت أعدادا لا تحصى من المواطنين من الفئات ذات المساهمة الواضحة في دورة إنتاج تقليدية تقوم على الصناعة والزراعة والخدمات، إلى "مؤثرين" و"صناع محتوى" و"شخصيات على السوشيال ميديا" يصاب المرء بالذهول من حجم الثروات التي تملك، ناهيك عن العدد الضخم للشبان الذين يريدون الالتحاق بالعالم هذا وما يرافقه من انضواء في قيمه وعاداته ورؤيته إلى الواقع.

تضافر هذه المعطيات في مجتمع الولايات المتحدة "الما بعد صناعي" يشكل النموذج الذي يرغب جزء معتبر من دول الكوكب في تقليده والسير في ركابه، ويقدم صورة لعالم جديد مختلف، لا نعرف عنه إلا القليل.

font change