ماذا يقول النازحون الغزيون بعد وقف إطلاق النار؟

بعضهم فقد الأمل وآخرون ما زالوا يبحثون عنه...

رويترز
رويترز
صورة تظهر حجم الدمار في مخيم جباليا للاجئين، شمال قطاع غزة، في 20 يناير

ماذا يقول النازحون الغزيون بعد وقف إطلاق النار؟

رفح- بعد 467 يوما من حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة، أعلن التوصلَ إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين إسرائيل وحركة "حماس" بعد اجتماعات عدة في الدوحة مساء الأربعاء، 15 يناير/كانون الثاني، ليتم تطبيقه بعد ثلاثة أيام من لحظة الإعلان. فبدأ الغزيون النازحون من منازلهم إلى جنوب القطاع أو خارجه، التفكير فيما هو قادم، ولحظة العودة لمنازلهم وعائلاتهم وأقاربهم الذين افترقوا عنهم بسبب النزوح والحرب.

وفي الوقت الذي بدأ فيه النازحون التحضير لعودتهم، تخيل بعضهم شكل اللقاء كيف سيكون، وماذا تبقى لهم هناك. إلا أن الجيش الإسرائيلي كثف من عمليات القصف لمنازل وتجمعات سكنية مأهولة بالعائلات المدنية والتي راح ضحيتها العشرات وأفقد البعض ما تبقى لهم من أمل.

مأساة قبيل وقف النار

عامر السلطان، مصور صحافي من سكان جباليا شمال قطاع غزة، اضطر للنزوح جنوبا قبل قرابة عام لاستكمال عمله بعدما أجبره الجيش الاسرائيلي على إخلاء مُجمع الشفاء الطبي غرب مدينة غزة قبل اقتحامه خلال الأشهر الأولى من الحرب، حيث كان يعمل رفقة زملائه هناك وبعيدا عن أسرته ووالدته التي تكفلت بتربيته وأشقائه وشقيقاته بعد وفاة والده في عُمر مُبكر.

أغلق الاسرائيليون الطريق وفصلوا غزة وشمال القطاع عن وسطه وجنوبه، وأصبح التواصل بين السلطان وعائلته عن طريق الهاتف فقط. يقول: "كنا نقعد بالأسابيع والأشهر ما في تواصل بسبب انقطاع الاتصالات والإنترنت، كنت باستنى اللحظة اللي يرجع فيها الاتصال معهم واطمن عليهم وعندي أمل نرجع يلتم شملنا".

قتلت عشرات العائلات أو بعض أفرادها خلال العمليات البرية الموسعة والتي استهدفت جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، بعضهم تأكد من مقتل أفراد أسرهم ودفنهم، وآخرون لم تصلهم أي معلومات مؤكدة

مضت الأشهر والأسابيع والأيام، والتي لم تخل من الضغط النفسي بسبب استمرار العمليات العسكرية البرية على شمال القطاع، ومخاوفه على حياة والدته التي قال عنها: "أمي هي كل حياتي، ربتنا وكبرتنا، هي كل شيء بحياتي".

ومع إعلان التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، عادت الفرحة والأمل لدى السلطان باقتراب موعد اللقاء ولم شمله مع العائلة، إلا أن الجيش الإسرائيلي قتل هذا الأمل الوحيد المتبقي لديه بقصف منزل عائلته منتصف ليلة الجمعة بعد إعلان الدوحة.

كانت الأم، وابنها الثاني مع زوجته وأطفاله، وابنتها وزوجها وأطفالها، جميعا داخل منزلهم لحظة القصف، حيث قتلوا جميعا ودُمر المنزل، يقول السلطان: "راح البيت وراحوا صحابه، بقولوا بدنا نرجع، طيب أنا مين بده يستقبلني بعد ما ماتت اللي كان بدها إياني أرجع وتستقبلني".

تبدلت المشاعر واختلطت، بعدما كانت مشاعر الفرح وشوق اللقاء هي ما تسيطر عليه، أصبح حائرا، فلم يتمكن حتى من توديع أمه وعائلته قبل دفنهم، قتلت بداخله لهفة العودة إلى شمال القطاع ولم يعد الاتفاق يعني له الكثير.

المئات من النازحين من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، عايشوا تفاصيل ما حدث مع السلطان، لكن الفرق بينهم كان التوقيت، حيث قتلت عشرات العائلات أو بعض أفرادها خلال العمليات البرية الموسعة والتي استهدفت جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون، بعضهم تأكد من مقتل أفراد أسرهم ودفنهم، وآخرون لم تصلهم أي معلومات مؤكدة.

أحد هؤلاء، حسين عبد العزيز، من سكان بيت لاهيا، فقد الاتصال مع شقيقه قبل نحو شهر ونصف، حيث كان ما زال في منزلهم مع أسرته هناك، بينما هو وأسرته في وسط القطاع نازحين، يقول: "أنا مش عارف أخويا إذا قتل ولا تعرض لاعتقال، مش عارف حتى لو قتل هو وعيلته، هل قتلوا في المنزل أو أثناء نزوحهم، أنا بدي أرجع أبحث عنهم، بدي أي دليل على حياتهم أو مقتلهم".

رويترز
دخول عدد من شاحنات المساعدات إلى رفح جنوب قطاع غزة في 21 يناير

يوضح عبد العزيز، أنه ينتظر لحظة السماح لهم بالعودة "على أحر من الجمر"، هو مشتاق للحارة والمنزل للأقارب والجيران، مشتاق لاستعادة حياته السابقة حتى لو كان المكان مُدمرا يريد العمل على إعادة ترميمه بما يستطيع، لكن يكرر أن الأهم بالنسبة لهم، هو البحث عن شقيقه... "في كتير ناس فقدت أقاربها وقالوا عنهم قتلوا، وبعدين وصلهم معلومات إن الجيش الإسرائيلي اعتقلهم وما زالوا على قيد الحياة في السجون، وأنا بدي أعرف مصير أخوي".

قد تكون الغالبية من الفاقدين لمنازلهم وأقاربهم، لا زال لديهم بصيص من الأمل للعودة والبحث أو حتى توديع ذويهم بعد زيارة قبورهم، لكن هناك من اضطر إلى النزوح والسفر إلى خارج القطاع بعدما تعرض اليه من قتل وتدمير خلال الأشهر الأولى من الحرب.

ديما الثوابتة، تعرف نفسها بأنها شابة فلسطينية من غزة، درست القانون وزاولت المهنة حيث كانت تعمل كمحامية شرعية ونظامية قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تنتمي لأسرة فلسطينية بسيطة، وهي أكبر الأبناء.

استهدف الجيش الإسرائيلي بناية سكنية تتكون من سبع طبقات، ودمرها بالكامل فوق رؤوس السكان، أطفال ونساء وكبار سن، حيث أصبحت الغالبية منهم جثامين وأشلاء تحت الركام

مع بداية الحرب، اضطرت إلى النزوح مع أمها وشقيقاتها الصغيرات وأسرة والدها الذي كان يعمل صحافيا في الميدان، من منزلهم والتنقل بين منازل أقاربهم مرات عدة، وحتى استقر بهم الحال في شقة عمتها بعمارة سكنية مرتفعة شرق مخيم النصيرات وسط القطاع. تقول: "الكل كان خايف، وأنا باتنقل بينهم وباحاول أطمنهم، صحيح القصف كان في كل مكان حوالينا، وكانت أحزمة نارية لكن أنا بطبيعتي الكل كان يعتمد عليا في العائلة من زمان، وبحس إني مصدر أمان واطمئنان إلهم".

في يناير/كانون الثاني 2024، قبل عام، وردها اتصال من أصدقاء خارج غزة، خرجت إلى شرفة المنزل تحادثهم، انتهت المكالمة وجلست في مكانها وحيدة تتأمل ما يحيط بهم من قصف ودمار ليلا، حتى وجدت نفسها داخل إعصار يسحبها للأسفل، تقول: "أنا ما فهمت إيش صار، فجأة لقيت إشي زي إعصار سحبنى لتحت بالأرض، والدنيا صارت غبار وركام وناس بتصرخ وفي جثث حواليا".

خرجت الثوابتة من بين الركام بمساعدة من هبوا لنجدتها، صعدت الإسعاف وتم نقلها إلى مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح حيث يوجد والدها، وهناك صرخت وطلبت أن يحضروا والدها. كانت تعتقد وهي مصابة إصابات طفيفة والغبار يكسوا جسدها وملابسها، أن باقي أفراد أسرتها حضروا أو سيحضرون بعدها، تلقت رعاية طبية بأقل من الحد الأدنى كما تقول، وبدأت البحث على أفراد عائلتها لكنهم لم يصلوا.

كان الجيش الإسرائيلي قد استهدف البناية السكنية والتي تتكون من سبع طبقات، ودمرها بالكامل فوق رؤوس السكان، أطفال ونساء وكبار سن، حيث أصبحت الغالبية منهم جثامين وأشلاء تحت الركام. توالى وصول الجثامين أشلاء خلال الأيام الأولى للقصف وكلما وصل أحد كانوا يرسلون لها لتحاول التعرف عليهم في ثلاجات الموتى، فقد مكثت في خيمة والدها حيث يعمل.

مرت الأيام، وفقدت أمها وشقيقاتها الأطفال وجديها وعددا من أفراد عائلتها وعائلة والدها، بعضهم تم انتشالهم ودفنوا بينما ظل آخرون تحت الأنقاض، فيما تنقلت الثوابتة بين منازل وخيام الأقارب والأصدقاء، ومكثت يومين في منزلها قبل أن يتعرض لتدمير كامل وهو فارغ من السكان. ولم تكن الظروف النفسية التي اضطرت لمواجهتها وحيدة أمرا سهلا، تقول: "ما بحب أشوف نظرة الشفقة في عين الناس، ولا بحب معاملتي بشفقة، وكان لازم أبين إني قوية لكن أنا من داخلي مُدمرة".

قبل يوم من تعرض البيت للقصف ورحيل والدتها، أوصتها برسالة: "كنت قاعدة بدي أنام، ودخلت أمي عليّ بتقلي يا ديما لو اجتك المنحة، سافري وكملي تعليمك، ما توقفي حياتك بسبب الحرب". استغربت من حديث والدتها وأخبرتها كيف تسافر وتتركهم، لتجيبها: "يا ماما ما حد بعرف إيش بصير، وإنتي لازم تكوني قوية، يمكن كلنا نروح وتبقي لحالك"، وهذا ما حدث بالفعل.

رحلت الأم وبناتها الأطفال، وتركت بنتها البكر وحيدة مع والدها، حتى وصلها خبر الموافقة على سفرها عن طريق معبر رفح البري في مارس/آذار 2024. "سافرنا لكن كمان حسيت بصعوبة أكبر، نفسيا كنت مدمرة، ووالدي أكثر مني، ومش قادرة أختلط بالمجتمع كنت في البداية، واضطريت أروح طبيب نفسي، لكن كنت مُجبرة أكون قوية قدام والدي حتى نقدر نستمر وندعم بعض".

لمين بدي أقول في هدنة، الحرب خلصت، ما حدا كان موجود من عيلتي بعد ما كانوا دايما يسألوني، في هدنة يا ديما؟

نازحة

بعد فترة، حصلت على منحتها الدراسية لاستكمال دراسة الماجستير في القانون العام بتونس، سافرت وحيدة، وبدأت حياتها الدراسية، مُحاولة العمل على وصية الأم قبل رحيلها واستكمال حياتها وسط ضروف صعبة من الغربة والفقد، ومواجهة تحديات منها التعامل مع أفراد لم يعايشوا تجربتها وألمها، وتحديات اللغة واللهجة في مجتمع مختلف.

رويترز
فلسطينيون يسيرون أمام منازل مدمرة في مخيم جباليا للاجئين، شمال قطاع غزة، في 20 يناير

مع كل التجربة التي مرت بها ديما، فقد كانت تنتظر إعلان وقف إطلاق النار.. "كنت باستنى توقف الحرب لأنه في باقي عيلتي، أعمامي وخوالي، ما بدي أفقد حد منهم، أنا مش حتحمل فقد جديد، والإعلان سكنني نوعا ما لكن تذكرت باقي العيلة وأحلاهم"، جلست مع نفسها تتخيل الراحلين، بعضهم كان يحلم بالسفر، وآخرون بالعودة لمنازلهم واستكمال حياتهم، وقفت وحيدة وسألت نفسها "لمين بدي أقول في هدنة، الحرب خلصت، ما حدا كان موجود من عيلتي بعد ما كانوا دايما يسألوني، في هدنة يا ديما؟".

عندما سافرت وخرجت من غزة، كانت تسيطر عليها مشاعر الغضب نتيجة الفقد حتى إنها قررت معاقبة غزة بعدم العودة، لكن بعد أشهر من السفر والتنقل بين القاهرة وتونس، أيقنت أنها لا تنتمي إلا إلى غزة ومجتمعها "حكمل دراستي وأول إشي رح أعمله إني أرجع لغزة، أنا مكاني هناك بين ناسي وأهلي، خرجت فاقدة حزينة، لكن راجعة بشهادة لخدمة أهلي وناسي ومدينتي الأحب، غزة".

font change

مقالات ذات صلة