أجندة الثأر وتصفية الحسابات تتصدر جدول أعمال ترمب

لا يعرف بعد ما إذا كان "الحزب الجمهوري" سيدعم منحاه الانتقامي

رويترز
رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرد على سؤال حول خدمة اليوم الوطني للصلاة في الكاتدرائية الوطنية لدى عودته إلى البيت الأبيض في واشنطن، 21 يناير 2025

أجندة الثأر وتصفية الحسابات تتصدر جدول أعمال ترمب

لا تقف السمات الشخصية للرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب عند النزعات الاستعمارية والعنصرية التي تنضح بها كلماته وحسب، بل إن النزعة الانتقامية الملبوس بها لم تفتأ تتجلى بشتى الأوجه حتى قبل تنصيبه رسميا.

فقد استهل فريق ترمب عمله بالتحقيق مع العاملين في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض فيما يتعلق بمدى ولائهم للرئيس المنتخب واستجوابهم عمن صوتوا له وفحص حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي لاستبيان ما إذا كانوا قد نشروا أي تعليقات ضد ترمب، وأيضا الكشف عمن تبرعوا له أثناء الحملات الانتخابية.

وكشفت تقرير لـ"أسوشييتد برس" أن بعض العاملين في مجلس الأمن القومي بدأوا في جمع متعلقاتهم من مكاتبهم في البيت الأبيض بعد هذه الاستجوابات استعدادا للرحيل رغم تلقيهم تطمينات بأنهم سيظلون في مناصبهم في ظل الإدارة الجديدة.

ولم يخف ترمب رغبته في تطهير الحكومة الفيدرالية من أي مسؤول لا يعتبره ومساعدوه شديد الإخلاص لأجندته. وقد حاول في ولايته الأولى سن لوائح تجعل من السهل التخلص من موظفي السلك الحكومي إلا أن خطته باءت بالفشل، وهو ما حرص هذه المرة على أن يرى ثماره بمجرد توليه مهام منصبه. وتستهدف الحملة الانتقامية هذه المرة بشكل أساسي ما أطلق عليهم ترمب "عناصر الدولة العميقة" الذين عرقلوا مخططاته أثناء ولايته الأولى أو وجهوا إليه انتقادات بعد مغادرته البيت الأبيض. ويقود هذه الحملة مرشحه لرئاسة مكتب التحقيقات الفيدرالية كاش باتيل، الذي توعد بملء إدارته بالموالين لترمب وأيضا بتعزيز سلطاته للثأر من الخصوم المدرجين على القائمة السوداء لترمب. كما فوض ترمب كلا من صديقيه المليارديرين إيلون ماسك وفيفيك راماسماوي بتفكيك أركان الدولة العميقة.

وفي مطلع شهر يناير/كانون الثاني، صرح مستشار ترمب للأمن القومي مايك والتز بأنه يعتزم تصفية موظفي الأمن القومي، مضيفا أنه بحلول الساعة الثانية عشر ظهر العشرين من يناير سيستقيل جميع مسؤولي مجلس الأمن القومي. وأضاف أنهم يعملون على قدم وساق للانتهاء من إجراءات الفحص والتصاريح الأمنية لمن سيحلون محلهم. وأكد أن جميع من سيتم تعيينهم على كافة المستويات ينسجمون تماما مع أجندة الرئيس ترمب.

كان مجلس الأمن القومي قد تأسس إبان إدارة الرئيس الثالث والثلاثين هاري ترومان بهدف تقديم المشورة للرئيس ومساعدته في مسائل الأمن القومي والسياسات الخارجية والتنسيق بين مختلف الأجهزة الفيدرالية

وقد وقف جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي في إدارة جو بايدن، ضد الفصل الجماعي لموظفي إدارته، مؤكدا على ضرورة الاستعانة بخبرتهم وجهوزيتهم لمواكبة ما يحدث في العالم من أحداث شتى حاليا. ووصف سوليفان موظفيه المهددين بالفصل بالوطنيين الذين خدموا دون خوف أو محاباة لأي من الديمقراطيين أو الجمهوريين، وأبدى الكثير منهم استعداده للبقاء ومواصلة العمل. وحري بمعايير الولاء البحت دون الخبرة الكافية والكفاءة المهنية أن تحول دون مواجهة الرئيس بما يخالف آراءه أو يفصح عن مخاوف الموظفين الموالين.  
وأكثر هؤلاء الخبراء تمت استعارتهم لفترة محددة من مختلف الأجهزة الفيدرالية الأميركية، ومنها وزارة الخارجية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية والبنتاغون ووزارة المالية. وهذا يعني أنهم سيعودون إلى وظائفهم الأصلية بعد استجوابهم من قبل القيادات الجديدة لمجلس الأمن القومي. ويحاجج مسؤولو ترمب بأن الإدارة القادمة شعرت بأنه من اللائق الاستعانة بخبراء يشاطرون الرئيس رؤيته والتركيز على الأهداف العامة.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يسير مع الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في البيت الأبيض في يوم تنصيب ترمب لولاية رئاسية ثانية في واشنطن، 20 يناير 2025

وكان مجلس الأمن القومي قد تأسس إبان إدارة الرئيس الثالث والثلاثين هاري ترومان بهدف تقديم المشورة للرئيس ومساعدته في مسائل الأمن القومي والسياسات الخارجية والتنسيق بين مختلف الأجهزة الفيدرالية. وجرت العادة على استمرار المسؤولين المنتدبين من مختلف الأجهزة للعمل في مجلس الأمن القومي رغم تغير الإدارات الحزبية. ويؤكد سوليفان أن هؤلاء الخبراء لا يختارون على أساس انتمائهم الحزبي أو الأيديولوجي، بل على أساس خبراتهم وقدراتهم ومن ثم يشكلون تباينا في الرؤى والسياسات والخلفيات. وأوضح أن أغلب هؤلاء الخبراء موجودون منذ إدارات ديمقراطية وجمهورية سابقة، منها إدارة ترمب. واعتبر نواب ديمقراطيون أن الاستجوابات التي تجريها إدارة ترمب الجديدة لهؤلاء المسؤولين تهدد الأمن القومي وتحول دون القدرة على التعامل الفوري والفعال مع التهديدات العالمية الحالية.

يخشى الكثيرون من أن يفخخ ترمب وزارة العدل بعد أن توعد بتعقب معارضيه السياسيين فور توليه، ومن بينهم عائلة بايدن، والرئيس السابق باراك أوباما، ووزيرة الخارجية ومنافسته السابقة هيلاري كلينتون

ويبدو أن ترمب قد أسرّها في نفسه منذ أن قام اثنان من خبراء المجلس القومي بفضح مكالمته مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي عام 2019 والتي طلب فيها من الأخير التحري عن أنشطة بايدن ونجله هانتر، وهو ما أدى إلى إجراء التحقيق الأول بالكونغرس مع ترمب بغية إقالته. وقد حذر هذان الضابطان مؤخرا من أن أسلوب ترمب في ملء مناصب مجلس الأمن القومي ستكون له آثار كارثية على كبار مسؤولي السياسات في مختلف الأجهزة الحكومية. ولفتا إلى أن الموهوبين من هؤلاء الخبراء إما سيفرضون رقابة ذاتية على أنفسهم من أجل الاحتفاظ بوظائفهم وإما أنهم سيتركون هذه الوظائف تماما. وقد تم انتخاب أحد هذين الضابطين نائبا عن إحدى دوائر فيرجينيا الديمقراطية. 
ولا تنحصر عملية التطهير في البيت الأبيض فقط، بل قد تتسلل إلى دوائر أنصار ترمب أنفسهم نتيجة اصطدام السياسات المرتقبة لإدارته مع مصالح بعض من رموزهم وتوجهاتهم الفكرية. وقد تجسد ذلك في تصعيد مستشار ترمب السابق ستيف بانون لهجماته على إيلون ماسك وسط التزام الرئيس المنتخب الصمت إزاء هذا الشرخ في جدار حملته. فقد توعد بانون بإخراج ماسك من دائرة المقربين من ترمب بحلول موعد تنصيب الأخير وذلك بعد أن أبدى الملياردير دعمه لبرنامج تأشيرات "إتش-1ب" الذي يسمح باستقدام الكفاءات الأجنبية إلى الولايات المتحدة. بانون وصف ماسك بأنه "شخص شرير" وتعهد بأن يصبح تقليص نفوذه وتأثيره على ترمب هدفا شخصيا له. وقال بانون إنه تحمل ماسك في السابق بسبب الأموال التي ساهم بها لحملة ترمب، لكنه لم يعد مستعدا لتحمله أكثر من ذلك، متعهدا بمنعه من الحصول على بطاقة مرور حر إلى البيت الأبيض.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث مع نائبه جيه دي فانس، بجوار عقيلته ميلانيا، أثناء حضورهما قداس اليوم الوطني للصلاة في كاتدرائية واشنطن الوطنية في واشنطن، 21 يناير 2025

كما يخشى الكثيرون من أن يفخخ ترمب وزارة العدل بعد أن توعد بتعقب معارضيه السياسيين فور توليه، ومن بينهم عائلة بايدن، والرئيس السابق باراك أوباما، ووزيرة الخارجية ومنافسته السابقة هيلاري كلينتون، ومدير المعاهد القومية للأمراض المعدية والحساسية أنتوني فاوتشي، وكل من شارك في اتهامه أو التحقيق معه في جميع الدعاوى التي رفعت ضده. ولم يرسل ترمب أي إشارات على تهدئة هذه المخاوف بل إن اختياره لكاش باتيل يؤكد صحتها.  
مستشار ترمب السابق للأمن القومي جون بولتون حث مجلس الشيوخ على رفض ترشيح باتيل رفضا باتا، فيما أشارت صحيفة "واشنطن بوست" إلى أن باتيل لديه قائمة بالأعداء، بينما وصفته صحيفة "ذي أتلانتيك" بأنه مستعد لعمل أي شيء من أجل ترمب.    
وكان باتيل يحضر بعض جلسات التحقيق مع ترمب في المحاكم ويصرح بأن الرئيس السابق يتعرض للظلم وبأن البلاد أيضا تتعرض للظلم بسبب التفخيخ غير الدستوري لوزارة العدل. ولعب باتيل دورا في الأمن القومي أثناء ولاية ترمب الأولى، ويعد من أشد أنصار تفكيك ما يسمى الدولة العميقة، بما في ذلك جهاز التحقيقات الفيدرالي. ووفقا لباتيل، فإن بعض موظفي الدولة، والقيادات المنتخبة، ورجال الأعمال الذين يسميهم "العصابات الحكومية" يشكلون مراكز قوى بيروقراطية تكبح إرادة وأصوات المحافظين.     
ترمب أكد أنه لن يوجه جميع أفعال باتيل، بيد أن مراقبين يقولون إنه لا يحتاج لأن يشير لباتيل إلى الأهداف التي يصوب عليها في حملته الانتقامية. فقد أدرج بالفعل أعضاء اللجنة التي شكلها الكونغرس للتحقيق في دوره في هجوم أنصاره على مبنى الكابيتول يوم 6 يناير 2021، ومن أبرزهم النائبة الجمهورية السابقة ليز تشيني التي كانت تشغل منصب نائب رئيس اللجنة. وقد دعا ترمب في مقابلة تلفزيونية إلى سجن جميع أعضاء هذه اللجنة بسبب ما فعلوه معه.

ثمة تكهنات باحتمال استخدام ترمب لسلطاته في العفو عن مئات من أنصاره الذين أدينوا في الهجمات على الكونغرس، خاصة وأنه يعتمد نظريات المؤامرة التي يروجها اليمن المتشدد

وقد بلغ ولاء باتيل لترمب أن ألف ثلاث قصص للأطفال تحكي عن محاكمات الرئيس الجديد. وتضم هذه القصص شخصيات منها هيلاري كوينتون، إشارة إلى هيلاري كلينتون، و"جو النائم"، وهو اللقب الذي اعتاد ترمب إطلاقه عن الرئيس السابق جو بايدن، و"ملك الماغا" (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى)، إشارة إلى ترمب نفسه.    
كما توعد باتيل الصحافيين ممن كذبوا على الشعب الأميركي، وساعدوا الرئيس بايدن في تزوير نتائج الانتخابات، حسب زعمه. كما نادى ترمب في أول مؤتمر صحافي عقب فوزه بتصحيح مسار الإعلام الذي قال إنه فاسد كما الانتخابات، وذلك بعد أيام قليلة من موافقة شبكة "إيه بي سي" التلفزيونية على دفع 15 مليون دولار لتسوية دعوى تشهير رفعها ترمب ضدها. كما يقاضي ترمب شبكة "سي بي إس" بسبب فبركة مقابلة لم تجر في الأساس معه، كما يختصم عددا من المؤلفين في المحاكم بعد أن كتبوا عنه أشياء تشينه. ويقرع مراقبون أجراس الإنذار حول المخاطر التي ستحيق بالصحافيين والتهديدات التي سيواجهونها حتى لمجرد قيامهم بتغطيات روتينية. 
وقد بدأ مسلسل تصفية الحسابات في وزارة العدل بإرغام المحقق الخاص جاك سميث على الاستقالة بعد تهديدات ترمب بأن إقالته ستكون من أول القرارات التي سيتخذها عند توليه. وأعد سميث تقارير قضائية تدين ترمب في قضايا الاستيلاء على مستندات سرية عند خروجه من البيت الأبيض، وأيضا محاولاته تغيير نتائج الانتخابات عام 2020. كما سارع كريستوفر راي، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي بتقديم استقالته بعد ترشيح ترمب لباتيل ليكون خلفا له.   

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترامب يؤدي اليمين في يوم تنصيبه رئيسا في قاعة الكونغرس الأميركي في واشنطن، 20 يناير 2025

ويبدو أن دعوى ولاية جورجيا ضد ترمب بشأن محاولة قلب نتائج الانتخابات في طريقها إلى السقوط بعد تنحي نائبة عموم الدائرة القضائية بسبب الاشتباه في أنها على علاقة خاصة بأحد المحققين في الدعوى.

وكان ترمب قد أدين في نيويورك في 34 تهمة تتعلق بمعاملاته التجارية، ويحاول محاموه إسقاطها جميعا. 
وثمة تكهنات باحتمال استخدام ترمب لسلطاته في العفو عن مئات من أنصاره الذين أدينوا في الهجمات على الكونغرس، خاصة وأنه يعتمد نظريات المؤامرة التي يروجها اليمن المتشدد والتي يزعم فيها تورط مكتب التحقيقات الفيدرالي أو منظمات يسارية متطرفة أو حتى عناصر موالية لـ"حزب الله" اللبناني في تدبير هذه الهجمات. ويواجه ترمب أيضا ضغوطا هائلة من عائلات هؤلاء المدانين الذين يقدر عددهم بنحو 1400.  
واتهم نائب الرئيس جي دي فانس وزارة العدل باتهام بعض أنصار ترمب ظلما، لكنه في الوقت ذاته يرفض فكرة العفو عن الجميع. وقد تعهد ترمب في مؤتمره الصحافي في 8 يناير بإصدار عفو عن عدد كبير منهم. 
ولا يعرف بعد ما إذا كان "الحزب الجمهوري" سيدعم أجندة ترمب الانتقامية، وما إذا كانت درجة انتقامه سترضي قاعدته الانتخابية. ويرى خبراء جمهوريون أن جمهور ترمب المتشدد يتوق شوقا لهذا الانتقام، بينما الناخبون الذين صوتوا له من خارج حزبه أو "حملة ماغا" يرغبون في التركيز على الاقتصاد وكبح التضخم وإلا فإنه سيخسرهم.

font change