سميرة البوزيدي في "حكايات لا تتوقف عن الغرق": الشعر بلا ألاعيب لغوية

قصائد تحتفظ بحرارتها الأولى

سميرة البوزيدي في "حكايات لا تتوقف عن الغرق": الشعر بلا ألاعيب لغوية

أول ما ننتبه إليه، أو بالأحرى أول ما يجب أن ننتبه إليه، ونحن نقرأ مجموعة الشاعرة الليبية سميرة البوزيدي "حكايات لا تتوقف عن الغرق" الصادرة عن "دار كتب للنشر" في بيروت ضمن سلسلة "إشراقات"، هو أن الكثير من قصائدها مكتوب بعيدا عن "تريندات" الشعر الشائعة، بعيدا عن القصيدة اليومية أو قصيدة التفاصيل التي تحولت إلى نمط شبه موحد في السنوات الأخيرة، وبعيدا أيضا عن الانتشار المتسارع والمتشابه للمقاطع الشعرية القائمة غالبا على مفارقات مصطنعة ومتكررة، وبعيدا – وهذا هو الأهم – عن حمى السعي إلى كتابة قصائد ذات جودة مثالية على حساب روح التجربة الشخصية وانفعالاتها.

مسالك أخرى

القصد أن قصائد المجموعة تأخذنا إلى مسالك ومناطق أخرى باتت نادرة وغير مرتادة كثيرا. مناطق لا تزال فيها قابليات وممكنات شعرية تسري فيها روح الخيال بمعناه المفتوح على عفوية اللغة وثراء العاطفة والصور المتحررة إلى حد ما من التقنيات النمطية، ومن موضة اصطياد المفارقات والقوالب الجاهزة والاكتفاء باللعب عليها.

وهكذا، ما أن نقرأ أول قصيدة تحمل عنوان "تخريب" من الديوان حتى نعثر على سبيل جانبي لكتابة شعرية ذاهبة إلى منطقة أخرى:

"هذه أغنيتي،

صلاتي وخوفي،

مجوني، ونومي إلى نصف النهار.

الشاعر لا يحب النهار؛

يظل متعلقا بالليل، كحباحب ضوء.

ضوء يطير على العشب.

هل أبدو مبالغة،

وأنا أكتب كل يوم،

أسلق بيض الشعر على الفطور.

أمزج الأساليب، وأضع الحروف في النار؟

ربما تنبت في رأسي زهرة سوداء آخر الليل.

أنا في الحقيقة لا أكتب؛

أنا أخرب،

أكسر رأس الكلمة الطيعة والسهلة...".

مناطق لا تزال فيها قابليات وممكنات شعرية تسري فيها روح الخيال بمعناه المفتوح على عفوية اللغة وثراء العاطفة

لا نريد من هذا المثل أن نقول إن ما نقرأه هنا جديد ومختلف، بل هو موجود داخل المشهد الشعري الواسع نفسه، إلا أنه يحاول أن يحتفظ لنفسه بالقليل من الخصوصية، وهي خصوصية تتصف بنوع من العفوية والارتجال أكثر من كونها خصوصية يشتغل عليها بشكل مبالغ فيه أو مصطنعة بقصد أن تثير الإعجاب العمومي الشائع، بل إننا نكاد نغامر بالقول إن الشاعرة هنا كأنها تكتب لنفسها تقريبا، وهو ما يعني أن هذه الكتابة شبه معفاة من المنافسة ومن مجاراة ما يحدث في سوق الشعر. الشاعرة، كما تقول هي، لا يهمها "أن تكتب شيئا عظيما"، وأنها في الحقيقة "لا تكتب بل تخرب، وأنها مثل ربة منزل تسلق "بيض الشعر على الفطور"، وتمزج "الأساليب"، وتضع "الحروف على النار".

سميرة البوزيدي

بكارة اللغة

نقرأ ونقول إن بعض الصور هنا قادم من منطقة غير مستهلكة، ونسارع إلى القول إن هذه المنطقة قد تكون متخلفة عما وصل إليه الشعر من مناطق في الأمام. إنها منطقة في الخلف ولكنها لا تزال تحتفظ ببكارة ما للغة والاستعارات، ولا تزال هذه الاستعارات غير مؤلفة من مواد لغوية مسبقة الصنع أو فاسدة من كثرة الاستعمال، أو كما تقول الشاعرة: "رأيت الكلمة المشعة/ تلك التي لم يفسدها السابلة"، أو كما تكتب في مكان آخر: "الكتابة نار/ وكل ما كتبته سابقا/ ثلج حزين/ يعجب اليائسين مثلي".
ما تجرب سميرة البوزيدي كتابته هو كلمة أو كلمات لا تزال تحتفظ ببريق ما في داخلها، ولا تزال منطوية على مذاقها الساخن قبل أن يتم تبريده وبَسترته بذريعة التقنيات الشعرية. هناك مقاطع وسطور عدة هنا لا تزال خشنة ومحتفظة حتى بشوائبها الجيدة وغير الجيدة، ولم تدع بعد إلى عمليات الصقل التي من شأنها أن تطال ليس سطح الكلمات فقط بل أن تذهب بتلقائيتها وروحها غير الأليفة أيضا، حيث يمكن أن يسمع "صوت تحطم عظام القصيدة" (ص 81)، وحيث "مات الخيال مسموما/ سممه الكتبة المدعون/ كسروا قرنه العظيم/ وصبوا الظلام في روحه" (ص 108).

ما تجرب سميرة البوزيدي كتابته هو كلمة أو كلمات لا تزال تحتفظ ببريق ما في داخلها، ولا تزال منطوية على مذاقها الساخن

الفكرة التي يمكن أن تقال بقدر من الوجاهة هنا هي أن هناك فرصة لكي ينشأ الشعر من إهمال التقليم والتشذيب والتنقيح المفرط. أن يعفى بعض الشعر من شروط الصناعة العامة والتقنيات التي تجعله لامعا ومتذاكيا ولكن معقما وفاقدا أحشاءه الحارة. في هذا الشعر هناك فرصة "لطفولة النص الذي يرفض أن يكبر" (ص 90). إنه يريد أن يُمنح الفرصة للوصول إلى القارئ مع سخونة ماء ولادته وأخطاء نموه. إنه يريد أن يبقى شابا نزقا متهورا، حيث "الشعر الشاب يغني بلا توقف، وبين يديه تتفتح وردة الزمن الأبدية"، وحيث "يحتمل الشعر كل شيء، يحتمل الكذب والصفاء والخيبة، يحتمل أن نجره من أذنيه، أن نلوي ذراعه، أن نغرقه في شبر ماء وندعه يفطس، أن ندفنه في الرمل كرأس نعامة غبية، ونفكك أوصاله؛ نضع حروفه في النار ونسلق أصابعه في الماء الحار" (ص 105).

مديح اللا مثالي

ما نحاول أن نمتدحه هنا هو مجرد توصيف ضروري لمنح هذه الكتابة إنصافا ما، وتذكيرا بها وبكتابات أخرى قليلة ومشابهة لها لا تجد لنفسها مكانا كافيا أو مرئيا في المشهد الشعري العام. وينبغي أن نضيف هنا أن هذا المديح لا يعني أن كل ما نقرأه في هذه المجموعة هو على المستوى نفسه من الجودة، ولكنه -على الأقل – على المستوى نفسه من الإخلاص لكتابة حارة وخشنة، وإن كان ذلك من شأنه أن يجعلنا نقرأ سطورا عادية، وأن لا تعجبنا بعض القصائد، أو أن ننتبه إلى أن خواتيم بعض القصائد كان يمكن أن تُكتب بشكل أفضل. أحيانا نشعر ان بعض القصائد تحتاج إلى تدخلات تقنية من النوع السائد والمعروف، ولكننا في الوقت عينه نثمّن اكتفاء الشاعرة بما تتقن كتابته حتى لو بدا أحيانا غير مثالي من وجهة نظر التقنيات وبرودة المعايير الشائعة.
والحقيقة أن الكثير من هذه الملاحظات يهون ويتراجع كلما عثرنا على قصيدة جيدة أو على مجرد مقطع أو سطر أو استعارة، كأن نقرأ شيئا مثل: "إني أنسى/ أرمي كل شيء من نافذة دماغي/ أمسح ذاكرتي بالماء/ وألمع في اليوم التالي/ كخاتم فضة" (ص 12)، ومثل هذا أيضا: "بعد قليل ستموت الكلمة بداخلي/ ويخفت صوت الشعر/ سيكون من الصعب أن أجد تعبيرا مختلفا / لهذا أكتب وأمحو حتى يطلع الفجر/ وتغرد العصافير في النشيد المدرسي" (ص48 ).

font change

مقالات ذات صلة