العلاقات الروسية الإيرانية: شراكة استراتيجية أم تحالف ظرفي؟

 أ ف ب
أ ف ب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الايراني مسعود بزشكيان بعد توقيعهما معاهدة الشراكة في الكرملين في 17 يناير

العلاقات الروسية الإيرانية: شراكة استراتيجية أم تحالف ظرفي؟

على عكس الرسالة الأساسية المطلوب إيصالها، كشف جزء من تصريحات المسؤولين الروس والإيرانيين وبعض بنود معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين روسيا وإيران، عن وجود نقاط خلاف لا يستهان بها، وتشي بأن علاقات البلدين لا ترقى بالمطلق إلى طبيعة الشراكات الاستراتيجية، وأنها قد تكون مجرد تحالف ظرفي، يمكن أن يتبدل في ظل تحولات سريعة وعميقة، يشهدها العالم ومنطقتا الشرق الأوسط وجنوب القوقاز.

وبعد سنوات من الإعداد والتحضير، اختارت روسيا وإيران، التوقيع على معاهدة شراكة استراتيجية شاملة في الكرملين، قبل أيام من تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وحلت المعاهدة، التي بدأ الحديث عنها منذ 2013، وتكثف العمل عليها منذ 2022، محل اتفاقية التعاون الموقعة بين البلدين في 2001. ومن الطبيعي أن تعكس المعاهدة الجديدة تطور علاقات البلدين، التي شهدت منعرجات كثيرة أهمها: زيادة الاعتماد الروسي على إيران للحصول على أسلحة لمواصلة الحرب في أوكرانيا، وزيادة التنسيق بينهما للالتفاف على العقوبات الغربية القاسية عليهما، ومحاولة التخفيف من آثارها. كما جاء التوقيع على خلفية تراجع الدور الإقليمي لإيران بعد قرابة أربعين يوما من سقوط نظام بشار الأسد، والضربات الموجعة لـ"حزب الله" اللبناني، وحركة "حماس"، وعودة ترمب ووعوده بممارسة "ضغوط قصوى" على طهران، مقابل تعهدات بإنهاء الحرب الروسية على أوكرانيا، وفق شروط ربما تكون أقرب إلى الرؤية الروسية، حسب تصريحات وتسريبات سابقة من مستشاري ومرشحي ترمب لتولي مسؤوليات في الإدارة الجديدة.

شعارات ضرورية

ووصف الرئيس فلاديمير بوتين المعاهدة بأنها "اختراق حقيقي"، وأكد في حفل التوقيع، يوم الجمعة الماضي، أن البلدين "متحدان في نقل علاقاتنا إلى مستوى جديد". وشدد بوتين أن "بلدينا يدافعان بحزم عن مبادئ سيادة القانون الدولي ومبادئ السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. ويتبعان مسارا مستقلا على الساحة العالمية، ويقاومان بشكل مشترك الضغوط الخارجية، وممارسة فرض العقوبات غير المشروعة ذات الدوافع السياسية". من جهته، قال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان: "إن روسيا وإيران فتحتا فصلا جديدا في العلاقات، لا سيما في التجارة". وذكر بزشكيان وبوتين أن البلدين سيكثفان التعاون بينهما في مجالات عدة منها السياسة والأمن والتجارة والنقل والطاقة.

تتضمن المعاهدة المؤلفة من 47 بندا، تعميق التعاون في أكثر من 30 مجالا من الزراعة إلى الطاقة وصولا إلى الفضاء، لكنها أشبه باتفاقية إطار تحتاج إلى اتفاقات تفصيلية في كل مجال

وفي مؤشر إلى أن اختيار التوقيت لم يكن بمحض الصدفة على الأقل من جانب إيران، كشف بزشكيان في أثناء القسم العلني من الاجتماع أنه "قبل زيارتنا إلى موسكو، راجعنا أيضا عددا من الاتفاقيات والترتيبات التي تم التوصل إليها بين بلدينا. كانت هناك بعض الأخطاء البسيطة والتأخيرات، وحاولنا تنحية كل هذه الأخطاء والتأخيرات. يسعدني أن أعلن أن زملاءنا الوزراء والخبراء يناقشون جميع القضايا التي لا تزال مدرجة على جدول الأعمال، وأنا واثق من أنهم في غضون اليوم سوف يتفقون على كيفية المضي قدما في هذه القضايا". ويوضح حديث بزشكيان أن المعاهدة التي من المفترض أن تكون الثمرة الأساسية للزيارة لم تكن جاهزة كما ينبغي، وأن العمل عليها تواصل أثناء لقائه مع بوتين. ويكشف هذا التفصيل أن إيران كانت في عجلة من أجل توقيع المعاهدة قبل أيام من قدوم ترمب، لبعث رسالة مفادها أن لها حلفاء يمكن الاعتماد عليهم، ويتشاركون معها في رفض سياسات الإملاء والعقوبات. ومعلوم أن توقيع المعاهدة تأجل أكثر من مرة، وكان مقررا في المرة الأخيرة توقيعها على هامش "قمة قازان" لمجموعة "بريكس" في أكتوبر/تشرين الأول 2023.

الدفاع الغائب

وتتضمن المعاهدة المؤلفة من 47 بندا، تعميق التعاون في أكثر من 30 مجالا من الزراعة إلى الطاقة وصولا إلى الفضاء، لكنها أشبه باتفاقية إطار تحتاج إلى اتفاقات تفصيلية في كل مجال، ولا تشي بتغير جذري حقيقي على مستوى العلاقة، نظرا لوجود أولويات ومشكلات مختلفة لدى كل طرف.

ورغم أن نصف بنود المعاهدة المنشورة على موقع الكرملين، ركزت على تعزيز الأمن المشترك، ورفع مستوى التنسيق بين أجهزة الاستخبارات، والتعاون في هذه المجالات، بدا واضحا أن الجانب الدفاعي، يختلف في شكل جذري عن الاتفاقات الموقعة مع كوريا الشمالية في يونيو/حزيران الماضي، أو بيلاروسيا نهاية العام الماضي، وكلتا المعاهدتين تضمنتا بندا للدفاع المشترك في حال تعرض أي طرف لاعتداء خارجي. وعرضت المعاهدة أشكال التعاون العسكري المشترك بين الجانبين الروسي والإيراني من المناورات والتدريبات البرية والبحرية المشتركة، مع الالتزام بقواعد القانون الدولي، وغيرها من أوجه التعاون لإحلال الأمن والسلام.

 أ ف ب
ايرانيون يحتفلون في طهران ببدء يالتوصل الى اتفاق وقف اطلاق النار في غزة في 17 يناير

 وبدا لافتا أن المعاهدة لم تتحدث عن الدفاع المشترك، واستعاضت عنها ببند ينص على أنه "في حال تعرُّض أحد الطرفين لاعتداء خارجي يلتزم الطرفان بعدم تقديم أي نوع من المساعدة من شأنها أن تسهل استمرار العدوان، وأن يعمل الطرف الآخر على تسوية الخلافات التي نشأت بشأن هذه المسألة على أساس ميثاق الأمم المتحدة وغيره من قواعد القانون الدولي المعمول بها". وبمعنى آخر فلا حديث عن إرسال أسلحة أو قوات لنجدة الطرف الآخر، ناهيك عن أن تحديد المعتدي والمعتدى عليه مبدأ مختلف عليه في تجارب الصراعات العالمية، وعليه فإن كل طرف يمكنه التملص حتى من هذا الالتزام رغم ضعفه.

وأبقت المعاهدة مجالا للتعاون والتشاور العسكري والأمني للبلدين في مجال مواجهة التهديدات العسكرية المشتركة، والتهديدات الأمنية ذات الطبيعة الثنائية والإقليمية، انطلاقا من أنه "عنصر مهم في الحفاظ على الأمن الإقليمي والعالمي".

يدرس ترمب الخيارات المتاحة لمنع إيران من امتلاك القدرة على بناء سلاح نووي، ومن ضمنها "إمكانية توجيه ضربات جوية وقائية

وتنسجم هذه الصياغات مع موقف إيران التي نفت أكثر من مرة على لسان مسؤوليها مشاركتها في الحرب الروسية على أوكرانيا، في المقابل من الواضح أن موسكو سعت إلى المحافظة على مسافة تمنحها مساحة للمناورة، والنأي عن التدخل العسكري المباشر كحليف عسكري لإيران في حال تطور الصراع بين طهران وواشنطن إلى حرب مع عودة ترمب. ومعلوم أن صحيفة "وول ستريت جورنال" ذكرت في الشهر الماضي أن ترمب يدرس الخيارات المتاحة لمنع إيران من امتلاك القدرة على بناء سلاح نووي، ومن ضمنها "إمكانية توجيه ضربات جوية وقائية". وبحسب الصحيفة، فإن خيار توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية يخضع لمراجعة أكثر جدية من قبل بعض أعضاء فريق ترمب في ظل تقديرات بتوجه إيران إلى الإسراع في برنامجها النووي العسكري، مع تراجع نفوذها الإقليمي عقب الضربات الموجعة لـ"حزب الله" في لبنان وإضعاف "حماس" وسقوط الأسد. وبدا أنا موسكو لا تستبعد تطورا سلبيا للمواجهة بين إيران والولايات المتحدة نتيجة استراتيجية "الضغط الأقصى 02" التي ينوي ترمب اتباعها مع طهران لثنيها عن تطوير برنامجها النووي العسكري، خاصة بعد عدم استبعاده في حوار مع مجلة "تايم" في 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي احتمال خوض حرب مع إيران خلال ولايته، بعد سؤال عن المزاعم بتخطيطها لاغتياله، وحينها قال: "يمكن أن يحدث أي شيء، فالوضع متقلب للغاية".

التحالف العسكري بين روسيا وإيران ليس واردا لعدة أسباب أهمها؛ عدم وجود ثقة بين البلدين تاريخيا منذ عهد الإمبراطورية الروسية، واقتطاع أذربيجان من إيران في القرن التاسع عشر، مرورا بالعداء في الحقبة السوفياتية

وبعيدا عن الارتياح الحذر في موسكو من تأثير عودة ترمب إلى المكتب البيضاوي على جهود تسوية الحرب في أوكرانيا، والهواجس والمخاوف من ضربات أميركية على إيران، فإن التحالف العسكري بين روسيا وإيران ليس واردا لعدة أسباب أهمها؛ عدم وجود ثقة بين البلدين تاريخيا منذ عهد الإمبراطورية الروسية، واقتطاع أذربيجان من إيران في القرن التاسع عشر، مرورا بالعداء في الحقبة السوفياتية، وصولا إلى التراشق حول المسؤولية عن سقوط النظام السوري البائد، والاتهامات بالتواطؤ مع إسرائيل في ضرباتها على الميليشيات الإيرانية، والحليفة لها في سوريا منذ سنوات. كما لا تتطابق مصالح البلدين في جنوب القوقاز. ومن العوامل المهمة أن روسيا طرحت منذ سنوات مبادرة للأمن الجماعي في الخليج بمشاركة الدول العربية وإيران، وكل الأطراف العالمية المهتمة والمعنية بعدم الانزلاق إلى حرب في المنطقة، والحوار من أجل الوصول إلى توافقات لحل المشكلات القائمة سلميا، وعليه فإن تحالف روسيا عسكريا مع أي طرف يعني انحيازها لها، وتراجع علاقاتها مع الطرف الآخر، ومعلوم أن روسيا بنت علاقات قوية مع كل من المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات في السنوات الأخيرة، أثمرت عن زيادة التعاون الاقتصادي والتنسيق السياسي، وتراهن روسيا على استمرار التنسيق مع البلدين العربيين ضمن صفقة "أوبك بلس" المهمة للمحافظة على أسعار النفط المرتفعة، وبالتالي قدرة موسكو على تمويل حربها على أوكرانيا، والاستفادة من موارد النفط لتحسين اقتصادها في حال توقفت الحرب.

وبدا واضحا تجنب الطرفين، على مستوى المسؤولين والخبراء المقربين من السلطتين، الحديث عن أي صفقات عسكرية مهمة، وتأكيد أو نفي تسليم إيران أسلحة حديثة متطورة في مجال أنظمة الدفاع الجوي، مع رادارات وأجهزة تشويش إلكتروني، إضافة إلى طائرات "سو-35" والتي كثر الحديث عنها في الشهور الأخيرة. ومن الواضح أن روسيا غير قادرة على تزويد إيران بمنظومات الدفاع الجوي المتطورة، نظرا لزيادة الهجمات الأوكرانية على أراضيها باستخدام الصواريخ الغربية، والطائرات المسيرة ما يفرض عليها حماية أراضيها وحماية المرافق العسكرية والاقتصادية، ومنشآت تكرير وتخزين النفط. وفي حين تحتاج إيران إلى المنظومات الدفاعية والطائرات بشكل ملحّ، تبدو روسيا في موقف أفضل بعد بناء مصنع للمسيرات "درونز" بخبرات إيرانية في ألابوغا بجمهورية تتارستان، وحصولها على مئات آلاف القذائف المدفعية من إيران، وكذلك مئات الصواريخ البالستية قصيرة المدى المفيدة في الحرب على أوكرانيا رغم افتقادها للدقة اللازمة.

ومع زيادة الحديث عن إمكانية ذهاب إيران إلى الحصول على القنبلة النووية، بدا واضحا أن روسيا غير راغبة في وصول المشروع النووي الإيراني إلى عتبة إنتاج القنبلة، كما أنها لم تزودها بالنواقل القادرة على حمل السلاح النووي سواء طائرات استراتيجية أو صواريخ بالستية تعمل بالوقود الصلب.

عقبات

وكشفت بنود المعاهدة وتصريحات المسؤولين من الطرفين عن الرغبة في تطوير عدة مشروعات لكن التفاصيل كشفت عن وجود مشكلات تعوق المضي فيها. وفي رده على أسئلة الصحافيين أكد بوتين أن الطرفين ناقشا إنشاء وحدات طاقة جديدة للمفاعل النووي القائم في بوشهر، لكنه أشار إلى وجود مشكلات تتعلق بتغير حسابات الكلفة وطريقة الدفع.

أ ف ب
قائد القوات البرية الايرانية كيومرث حيدري اثناء زيارته الجنود الذين يجرون مناورة في مكان غير محدد في ايران في 20 يناير

وأوضح بوتين وجود مشكلات ذات طبيعة تقنية وإدارية للمضي في مشروع ممر" شمال-جنوب" وهو مشروع لتطوير طرق نقل وسكك حديدية يربط بين شواطئ إيران الجنوبية، وسانت بطرسبورغ في روسيا، ويراهن عليه الجانبان لزيادة التبادل التجاري والالتفاف على العقوبات الغربية.

وفي موضوع الطاقة، أشار بوتين إلى تباين وجهات النظر في موضوع الأسعار لتزويد إيران بالغاز الطبيعي الروسي، واقترح البدء بضخ قرابة ملياري متر مكعب سنويا، مع وجود إمكانية لرفع الكمية إلى 55 مليار متر مكعب سنويا في حال حل المشكلات بين الطرفين، ومعلوم أن إيران تملك احتياطات ضخمة من الغاز لكنها تستورد كميات من تركمانستان لتغطية احتياجاتها في شمال البلاد والمناطق المحيطة ببحر قزوين.

وتحدث الطرفان عن استمرار التعاون في مجال استكشاف وإنتاج النفط، لكن نظرة أعمق تكشف أن مصالح البلدين متباينة في هذا المجال، فعودة إيران إلى السوق النفطية تشعل التنافس بينهما على السوقين الهندية والصينية، كما تتسبب في انخفاض الأسعار عالميا وهو ما لا يصب في مصلحة روسيا.

 أكد بزشكيان أن "إيران وروسيا عازمتان على تذليل العراقيل التي تحول دون تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية الثنائية فورا، بما في ذلك العقبات في مجال الرسوم الجمركية والمصرفية، وتبادل السلع والعملات الوطنية، وضمانات الاستثمار وتسهيل حركة التجار وتأشيرات الدخول".

ورغم تأكيد الطرفين على الرغبة في زيادة التعاون الاقتصادي، من الواضح أن التعاون في هذه المجالات ليس في أفضل حالاته. وفي اللقاء مع بزشكيان أشار بوتين إلى نمو التبادل التجاري في العام الماضي بنحو 17 في المئة إلا أن حجمه لا يتجاوز أربعة مليارات دولار حسب تصريحات السفير الإيراني لدى روسيا قاسم جلالي، يوم الجمعة الماضي. وكان التعاون التجاري شهد طفرة في 2022 ووصل إلى خمسة مليارات دولار، لكنه تراجع في 2023، وهو أقل بكثير من حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا على سبيل المثال الذي يصل إلى 40 مليار دولار سنويا. وللمقارنة فإن تجارة إيران مع الاتحاد الأوروبي في 2010 بلغت 37 مليار دولار ما يكشف أن مصالح إيران التجارية أكبر بكثير مع أوروبا مقارنة بروسيا، والأمر ذاته ينطبق على علاقات إيران التجارية والاقتصادية مع الصين.

وأخيرا، من المؤكد أن توقيت الاجتماع في الكرملين وتوقيع معاهدة الشراكة بعد طول انتظار، فتح الباب أمام توقعات وتحليلات بأن روسيا وإيران فتحتا صفحة جديدة في العلاقات، وعقدتا العزم على بناء تحالف استراتيجي ضد النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، لكن نظرة أعمق تكشف أن العلاقات بينهما لا ترقى إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية بسبب ثقل تجارب التاريخ، ومخططات المستقبل. ويبدو أن أقصى ما يمكن المراهنة عليه بشأن مستقبل العلاقات بين البلدين، هو استمرار التحالف الظرفي لتجاوز العزلة، وتأثير العقوبات، إضافة إلى شعارات للاستهلاك الداخلي حول دور كل من البلدين في النظام العالمي.

font change

مقالات ذات صلة