المجاملة والنقد

النقد الأدبيّ عندنا يعمل على إلغاء نفسه

المجاملة والنقد

أحيانا، لا مفرَّ من المجاملة. ولكنْ، لا ينبغي للمجاملة أن تلغي النقد، أي أن تحلّ كليا محلّه. فالمجاملات (إجمالا) تخفي ما يليق بالنقد (البنّاء) أن يُظهره.

ومن شأن المجاملات، إذا غاب النقد، أن تجعل التعاملات على أنواعها تميل إلى التكاذب أو المحاباة أو التزلف.

ومع ذلك، لا مفرَّ أحيانا من المجاملة. فاللياقة في التعامل بين الأشخاص تقتضي شيئا من المراعاة أو التنازل، تلاؤما مع ظروف التعامل ومستوياته. وذاك ما أشار إليه المتنبي في هذا البيت:

وخِلّة ٍ في جليس أتّقيه بها

كيْما يُرى أنّنا مِثْلان في الوهَن ِ

فاتّقاء الجليس هنا هو مجاملة له، أي مراعاة لوضْعه، أو لخِلّة معيّنة فيه.

ومثل هذا الاتقاء تفرضه اللياقة بين الجليسيْن، خصوصا إذا لم يكن التكافؤ بينهما متوفرا.

ويقول البرقوقي في شرحه بيت المتنبي: "ربّ خصلة في جليس لي أستقبله بمثلها من نفسي، أي أتخلّق بها، حتى يظنني مثله في ضعف الرأي".

ويدعم البرقوقي شرحه هذا ببيت لشاعر آخَر، هو الآتي:

أُحامِقُهُ حتى يُقالَ سجيّةٌ

ولو كان ذا عقل لكنتُ أُعاقِلُهْ

إنها اللياقة التي تقتضي تنازلا تجاهَ الآخَر، تحامُقا، أو تظاهرا بالوهن (أي بضعف الرأي). هذه هي المجاملة التي تتجنب الإفصاح أو التصريح بالرأي السديد. هذه هي المجاملة التي تؤدي إلى تغييب النقد.

إذن، للمجاملة مظهر اللياقة. إلا أنها تنطوي على قدْر من المداجاة أو الرياء.

وفي بعض المعاجم "جاملَهُ: عاملَهُ بالجميل ولم يُصْفِهِ الإخاء".

ما تقدّم هو إشارات إلى بعض معاني المجاملة في المستوى العام (الاجتماعي)، أو بالأحرى في مستوى التعامل بين الأشخاص. فهل نتصوّر خطَر المجاملة على المجتمع إذا كانت هي النمط السائد أو الطاغي بين أنماط التعامل؟ هل نتصوّر دوْرها في حجْب المساوئ والعيوب، وفي تهميش النقد الإيجابي أو الصادق، بل في جعْل الصدق هامشا ضيقا لمتْن واسع جدا من التكاذب والتحايل والتذاكي وتهافت القِيَم؟

وماذا يسعُنا بعدُ أن نقول عن المجاملة والنقد في حقول الثقافة، وخصوصا في

حقول الأدب، وبالأخص في حقل النقد الأدبي؟!

أمام النقد الأدبيّ عندنا، لكي ينهض، صعوبات جمّة. منها أوضاعنا الاجتماعية التي تشهد على افتقارنا إلى الفكر النقدي، الذي يتطلب الحرية والمعرفة بلا حدود، والذي بدونه لا يمكننا التقدّم في أيّ مجال من المجالات

النقد الأدبيّ عندنا يعمل على إلغاء نفسه، إذْ يتحول إلى مجاملات في معظم  مجالاته، وبالأخص الإعلامية منها. ومن النافل أن نقول إن التراجع في حقل ثقافيّ مرتبط بمثله في بقية الحقول، إلا أن المهمّة التي ينبغي للنقد الأدبيّ أن يضطلع بها هي واحدة من المهمّات الطليعية، التي من شأنها المبادرة: في تشخيص المشكلات أوّلا، وفي تصوّر الآفاق المعرفية الجديدة ثانيا.

أمام النقد الأدبيّ عندنا، لكي ينهض، صعوبات جمّة. منها أوضاعنا الاجتماعية التي تشهد على افتقارنا إلى الفكر النقدي، الذي يتطلب الحرية والمعرفة بلا حدود، والذي بدونه لا يمكننا التقدّم في أيّ  مجال من المجالات.

ومنها أيضا انحسار التخصّص في النقد الأدبيّ عندنا، إذْ باتت المهمّة متروكة لمن ليسوا متفرغين لها، أي ليسوا منصرفين بكليّتهم إليها. وتفرّغُ الناقد أو انصرافُه إلى النقد يقتضي منه التوسع والتعمق في مجالات المعرفة. فالناقد ينبغي له أن لا يقلَّ عن الأديب، إنْ لم يفُقْهُ بإمكاناته الثقافية وبتجرّد أحكامه.

ومن تلك الصعوبات أيضا افتقارُنا إلى بيئة أو بيئات ثقافية حيوية، تكون جوّا للحوار ولتبادل الأفكار ولنبْذ التعصّب. فالمثقف بعامة، والناقد بخاصة، يحتاج إلى تفاعل دائم مع أقران له. إن غياب التفاعل الحيويّ الحرّ بين مثقفين أكْفاء هو الذي يجعل سبيل النقد مسدودا أو وعِرا، وهو الذي يسمح للمجاملات على أنواعها بالانفلاش على المساحة الثقافية كلّها.

كم نحن في حاجة إلى النقد وإلى النقاد. وما الانفلاش الذي أشرنا إليه، والذي يتمثل بكثرة المعلقين والمحللين وأصحاب الآراء في وسائل الإعلام سوى شاهد على غياب النقد الحق. فالناقد الناقد ينبغي أن يرى مهمته (أو مهنته) أسمى من كل المهمات والمهن. لأنها تقتضي، أكثر من غيرها، التسلح بالمعارف والرهافة وبُعد النظر. فلا تكون ملحقَة بغيرها من المهمات أو المهن، بل تكون القادرة على التحليق والغوص والتقويم والتصويب في هذا الحقل أو ذاك. وبهذا وحده تنأى بنفسها تلقائياً عن المراعاة والمجاملة.

font change
مقالات ذات صلة