ضرورة مشروع وطني جديد لإيقاف الحرب في السودان

الإصلاح يشمل وضع قوانين تنظم العملية الديمقراطية

أ ف ب
أ ف ب
سودانيات يتظاهرن في جنيف أثناء الجلسة الافتتاحية لمحادثات وقف إطلاق النار في السودان في 14 أغسطس

ضرورة مشروع وطني جديد لإيقاف الحرب في السودان

في الخامس عشر من ديسمبر/كانون الأول 2023، شكّل سقوط مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، في قبضة "قوات الدعم السريع" نقطة تحول جذرية في مسار الحرب السودانية. فقد أدى ذلك إلى تفاقم الكارثة الإنسانية الناتجة عن الحرب بشكل كبير، خاصة أن ولاية الجزيرة كانت الملاذ الأبرز للنازحين الفارين من جحيم الحرب في العاصمة الخرطوم، التي تعرضت لحملة تدمير وتشريد ممنهجة شنتها "قوات الدعم السريع". وأصبحت ود مدني منذ سقوط الخرطوم المركز الأكبر لمنظمات وعمليات الإغاثة الإنسانية الدولية. وسرعان ما وقعت الولاية في أسر الميليشيا تحت وطأة انتهاكات ممنهجة، وهو ما ألقى بظلاله الكئيبة على حياة السكان المحليين والنازحين على حد سواء، بالإضافة إلى موجة نزوح كبيرة ثانية. وشهدت الولاية مجازر كبيرة في أرجائها المتفرقة.

ومع استعادة الجيش السوداني السيطرة على مدينة ود مدني، ثاني أكبر مدن البلاد والتي تشكل ملتقى طرق رئيس بين أنحاء البلاد المختلفةفي الحادي عشر من يناير/كانون الثاني 2024، بدت ملامح تحول جديد في المشهد العسكري. جاءت استعادة ود مدني كجزء من سلسلة تطورات عسكرية أظهرت تقدم الجيش نحو استعادة مناطق استراتيجية في ولايات الخرطوم وسنار وغيرهما مما فقده منذ اندلاع الحرب. ويُضاف إلى ذلك الصمود الأسطوري لمدينة الفاشر في شمال دارفور، والتي استطاعت الوقوف في وجه هجمات الميليشيا لما يقارب العام الكامل، مما يؤذن بتحول موازين القوى العسكرية لصالح الجيش بشكل كبير.

غير أن هذا التقدم العسكري في ولاية الجزيرة، كان مصحوبا بجرائم بشعة ذات طابع عنصري، استهدفت بشكل خاص مجتمعات العمال الزراعيين في مناطق الكنابي بالجزيرة. وهؤلاء العمال، الذين تعود أصول معظمهم إلى إقليم دارفور، وجدوا أنفسهم ضحية لاعتداءات بشعة تنم عن انتقام بدائي يتجاوز حدود الأخلاق والقانون، ويدخل تحت تصنيف جرائم الحرب. وقد يرى البعض أن هذه الجرائم ما هي إلا رد فعل على الفظائع التي ارتكبتها "الدعم السريع" بحق سكان الجزيرة خلال فترة سيطرتها، ولكن مثل هذه التبريرات تفتقر إلى الأساس الأخلاقي والقانوني، إذ إن مواجهة الجريمة لا ينبغي أن تنزلق إلى مستوى ارتكاب جرائم مضادة بنفس الوحشية. كما أن المتعاونين مع الميليشيا يجب أن يعاملوا بأحكام القانون، لا أن يترك المجال لدائرة الانتقام التي لا تخدم سوى تعميق خطاب الكراهية والصراع الإثني.

إن الانجرار إلى مثل هذه الأفعال الانتقامية يخدم ويعزز من استراتيجية ميليشيا "الدعم السريع" وحلفائها، التي تسعى إلى استخدام الأبعاد الإثنية والجهوية في تبرير حربها وجرائمها. أما إذا أردنا للسودان الخروج من هذا النفق المظلم، فعلينا تكريس سيادة القانون، وتفكيك الديناميات التي تُغذي هذا الصراع، بدلا من الانصياع لمنطق الانتقام الذي يهدد بتفكيك النسيج الوطني وتكريس الانقسام الاجتماعي.

إن هذه الجرائم لا تسهم في إنهاء الحرب بقدر ما تعمق الجروح في النسيج الاجتماعي السوداني، وتهدد بخلق مخاطر أكبر وأشد عمقا على المدى الطويل. كما أن التقدم العسكري وحده لا يكفي لإنهاء الحرب؛ إذ إن إنهاءها يتطلب مشروعا وطنيا جديدا يعالج مسبباتها، ويعكس تطلعات الشعب السوداني، ويعزز استقراره. وهو ما تسعى الميليشيا وحلفاؤها لتعطيله عبر التهديدات ومحاولات تقسيم البلاد من خلال إقامة حكومة في مناطق سيطرتهم المتقلصة.وكل هذه التحركات لا تخدم غير إطالة أمد الحرب والفوضى في السودان ولا تعدو كونها محاولات يائسة تهدف إلى تشكيل واجهة سياسية جديدة لميليشيا "قوات الدعم السريع"، بعد أن أصبحت حقيقتها الفاشية مكشوفة أمام العالم أجمع. وآخر ذلك كان تصنيف الولايات المتحدة في 7 يناير 2025 لجرائم الميليشيا على أنها تشكل جريمة الإبادة الجماعية.

يحتاج المشروع الوطني لوقف الحرب لمواجهة التحديات الكبرى التي مزقت النسيج الاجتماعي السوداني، والتي وإن كان لها جذورها المتراكمة فقد فاقمها وأشعلها خطاب التحريض الإثني الذي اعتمدته "الدعم السريع"

لقد شهدنا حجم الكوارث التي لحقت بالمناطق تحت سيطرة الميليشيا، بدءا من جرائم القتل الإثني والإبادة الجماعية في الجنينة، مرورا بالقتل والنهب والاغتصاب في الخرطوم وولاية الجزيرة، وقصف المنشآت المدنية وآخرها قصف محطة التوليد الكهرومائية في سد مروي يوم 13 يناير 2025 والذي أدى إلى تعطيل 40 في المئة من إنتاج الكهرباء في البلاد وصولا إلى الدمار الذي طال المناطق الأخرى التي اجتاحتها قوات الميليشيا. هذا الواقع يكشف الوجه القبيح لنظام الحكم الذي تعدنا به حكومة الميليشيا وحلفائها والذي يعتمد العنف والإجرام والتخريب والدمار كأساس لوجوده.

المشروع الوطني الذي يمكن أن يُنهي الحرب في السودان يجب أن يقوم على رؤية شاملة ومتسقة تتكامل فيها ثلاثة عناصر أساسية، لا يصلح أحدهم بمعزل عن الآخر. هذه العناصر تشكل الأساس لأي تحول سياسي واجتماعي حقيقي يهدف إلى إيقاف الحرب عبر بناء دولة عادلة ومستقرة.

العنصر الأول: استعادة الحياة إلى طبيعتها

لا يمكن أن يكون الحديث عن إيقاف الحرب في السودان دون مواجهة وإنهاء واقع معاناة النزوح الداخلي واللجوء خارج البلاد، الذي أصبح قدرا لأكثر من 12 مليون سوداني. هذ الأمر ليس مجرد مأساة إنسانية، بل هو انتهاك مباشر لشرط وجود الدولة في السودان وهو المحافظة على طبيعية حياة السودانيين وأمانهم وهو ما يجعل استعادة الكرامة والإنسانية شرطا أساسيا لأي مشروع سياسي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الوضع الإنساني الذي يضع أكثر من 25 مليون سوداني تحت وطأة الحاجة إلى المساعدات الإنسانية يعكس عجزا هيكليا في النظام السياسي والاجتماعي، يحتم الشروع في معالجته فورا لاستعادة استقرار البلاد. وهنا تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف مفهوم السياسة نفسها في السودان. لذلك، يجب أن نسعى لتحويل مفهوم السياسة في السودان إلى مفهوم خدمي بامتياز، يضع الخدمات الاجتماعية في قلب أهداف العمل السياسي. هذا يشمل توفير الأمن الغذائي، والرعاية الصحية، والتعليم، وغيرها من الحاجات الأساسية التي تضمن استعادة الحياة الطبيعية.

 أ ف ب
نازحون سودانيون من بلدة سنجة ينتظرون الحصول على الطعام في مخيمهم شرق مدينة القضارف في 22 أغسطس

ولهذا، فإن وضع حد لمعاناة الملايين وضمان عودة الحياة إلى طبيعتها يجب أن يُنظر إليه على أنه حجر الزاوية لأي مشروع وطني حقيقي، وليس مجرد هدف إنساني.وهذا يتضمن إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس جديد يتجاوز الانقسامات الحالية، مع التركيز على استعادة الثقةفي أجهزة الدولة التي تآكلت بفعل الصراعات السياسية والحروب الأهلية والفساد. وهو ما يرتبط ارتباطا وثيقا ببقية عناصر المشروع الوطني، ويجعل تحقيقه شرطا لا غنى عنه لتحقيق أي تحول شامل.

العنصر الثاني: توحيد السودانيين، ورتق النسيج الاجتماعي، وإصلاح ما أفسده خطاب التقسيم

سيحتاج المشروع الوطني لوقف الحرب لمواجهة التحديات الكبرى التي مزقت النسيج الاجتماعي السوداني، والتي وإن كان لها جذورها المتراكمة منذ قبل الحرب فقد فاقمها وأشعلها خطاب التحريض الإثني الذي اعتمدته ميليشيا "الدعم السريع" كأداة للتجنيد والعسكرة الإثنية.

تحقيق الاستقرار السياسي في السودان ضرورة أساسية لإنهاء الحرب ويتطلب إعادة بناء مشروع الانتقال السياسي على أسس تضمن حكما مدنيا ديمقراطيا يعكس إرادة الشعب، ويُرسّخ سيادة السودانيين على قرارات حكومتهم

هذا الخطاب لم يكن مجرد أداة عابرة للحرب، بل مثل محاولة مُمَنهجة لإعادة صياغة الانتماءات الوطنية على أسس عرقية وجهوية ضيقة، وهو ما أدى إلى شرخ عميق في وحدة السودانيين. لقد كانت محاولات الميليشيا لمنح الحرب شرعية زائفة عبر إضفاء أبعاد اجتماعية لا تخدم سوى أطماع المشاريع الخارجية والطموحات الإقليمية التي تهدف إلى تقسيم السودان إلى أجزاء يسهل السيطرة عليها.

هنا، يظهر الدور الخطير للنزعة الإثنية في تفكيك الدولة الوطنية، إذ تصبح الهويات الأولية وسيلة لطمس القضايا الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية. وهي مثال لكيف يتم استخدام الهويات الثقافية والإثنية كأدوات سياسية واجتماعية لفرض هيمنة وإخفاء مصالح اقتصادية وسياسية أعمق. لذلك، فإن إعادة تعريف الهوية الوطنية في السودان هي ضرورة ملحة في سياق المشروع الوطني لوقف الحرب.

يجب أن تقوم الهوية الوطنية والانتماء الوطني كنتاج لضمان الدولة للحقوق وتوفيرها للخدمات، بحيث يكون الانتماء الوطني نتاجا لما يقدمه الوطن لمواطنيه من خدمات وعدالة، وليس مجرد انتماء إثني أو جهوي. هذا التحول في تعريف الهوية يعيد الاعتبار لمفهوم "الدولة كمشروع مشترك"، حيث يشعر جميع المواطنين بأنهم جزء لا يتجزأ من مستقبل البلاد.

 أ ب
رؤساء الوفود المشاركة في محادثات جنيف الرامية إلى إنهاء الحرب في السودان في 23 أغسطس 2024

وكما أن المصالحات الاجتماعية القاعدية هي مدخل أساسي لتحقيق هذا الهدف. وهنا، يلعب المجتمع المدني دورا حيويا في بناء جسور الثقة. فإن المنظومات الاجتماعية القاعدية، وعلى رأسها الطرق الصوفية، بهياكلها وتأثيرها العابر للهويات الإثنية والجهوية، تمتلك تأثيرا كبيرا يمكن استثماره في تعزيز التعايش والتسامح. فعناصر الثقافة المحلية قادرة على تجاوز الانقسامات السياسية عندما تُستخدم لتوحيد الجماعات المختلفة تحت إطار جامع من القيم المشتركة.

من خلال إشراك هذه الهياكل الاجتماعية في عملية المصالحة الوطنية، يمكننا تحقيق مصالحة قاعدية شاملة تتجاوز النزاعات الحالية، وتعيد للسودانيين شعورهم بالانتماء المشترك، عبر الاعتراف بتعددية الهويات داخل الفرد والمجتمع، وخلق انتماء أكثر شمولية مع الآخر مبني على المصالح والقيم المشتركة وليس على الأسس العرقية، وهو ما يجعل من الوحدة الوطنية مشروعا ماديا حقيقيا وليس مجرد شعار أو لافتة.

العنصر الثالث: إعادة صياغة مشروع الانتقال السياسي نحو حكم مدني ديمقراطي

إن تحقيق الاستقرار السياسي في السودان ضرورة أساسية لإنهاء الحرب ويتطلب إعادة بناء مشروع الانتقال السياسي على أسس تضمن حكما مدنيا ديمقراطيا يعكس إرادة الشعب، ويُرسّخ سيادة السودانيين على قرارات حكومتهم. هذا الانتقال لا يُعد مجرد خطوة سياسية، بل هو عملية تاريخية تهدف إلى التخلص من تركة ثلاثة عقود من الفساد والاستبداد تحت حكم المؤتمر الوطني، بالإضافة إلى الإرث الطويل من عدم الاستقرار السياسي الذي أعاق تطور الممارسة السياسية الراشدة في البلاد.

الانتقال نحو حكم مدني ديمقراطي في السودان لا يُعد مجرد تغيير في هياكل السلطة، بل هو تحول جذري في العلاقة بين الدولة والمجتمع

يشير فرانسيس فوكوياما في كتابه "النظام السياسي والاضمحلال"(Political Order and Political Decay): إلى أن الاستقرار السياسي يعتمد على وجود مؤسسات قوية وقادرة، تؤطر العلاقة بين الدولة والمجتمع بشكل يحقق التوازن بين السلطة والمساءلة. لذلك، يجب أن تبدأ عملية الانتقال السياسي (أو الرشد السياسي كما قد تصح تسميتها) في السودان بإصلاح مؤسسي تدريجي يشمل جهاز الدولة بشقيه المدني والعسكري، مع بناء قواعد راسخة للحكم الراشد.

الإصلاح المؤسسي التدريجي يشمل وضع وتنفيذ قوانين تنظم العملية الديمقراطية على نحو عادل وشفاف، وإنشاء هياكل للحكم اللامركزي تعكس احتياجات المناطق المختلفة وتمثل سكانها في معادلة الحكم. بالإضافة إلى ذلك، فإن العملية الأهم في هذا الانتقال هي صناعة دستور دائم للبلاد، وهي "الفريضة الغائبة" عن تاريخ السياسة السودانية. فالدساتير ليست مجرد وثائق قانونية، بل أدوات اجتماعية وسياسية تضمن الحريات وتعزز العدالة كما يشير أمارتيا صن. وهو ما يجعل عملية الاتفاق على الدستور الدائم للسودان ضمانة لتحقيق الإجماع الوطني وتثبيت أسس الديمقراطية.

رويترز
سيارة ومباني متضررة في السوق المركزي بالخرطوم خلال اشتباكات بين "قوات الدعم السريع" والجيش

كما أن إصلاح الخدمة المدنية والمنظومة الأمنية والعسكرية يمثل جزءا لا يتجزأ من هذا المشروع. وهذه المؤسسات تحتاج إلى إصلاح وتطوير شامل يضمن حياديتها وكفاءتها، ويزيل تسييسها، ويجعلها أدوات في خدمة المواطن بدلا من أدوات للسيطرة. فالدولة المستقرة هي التي تمتلك مؤسسات تخدم المجتمع بدلا من أن تستغله. لذلك، فإن إعادة بناء المنظومة الأمنية والعسكرية وفق معايير الاحترافية والمساءلة يمثل شرطا أساسيا للاستقرار.

إن الانتقال نحو حكم مدني ديمقراطي في السودان لا يُعد مجرد تغيير في هياكل السلطة، بل هو تحول جذري في العلاقة بين الدولة والمجتمع. هذه العملية تتطلب إرادة سياسية قوية، وإشراك جميع الفئات المجتمعية، ومراعاة التحديات المتراكمة لضمان تحقيق السلام والتنمية والعدالة التي يطمح إليها الشعب السوداني.وبالطبع لا يمكن لأحد أن يتصور أن هذه العملية ستتم "ضربة لازب" أو بين يوم وليلة، وكذلك بقية عناصر المشروع الوطني، ولكن الاتفاق على أهدافها وعناصرها هو ضرورة أساسية لإيقاف الحرب وهي لبنة البداية لسودان مستقر وآمن في المستقبل.

font change

مقالات ذات صلة