في الخامس عشر من ديسمبر/كانون الأول 2023، شكّل سقوط مدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، في قبضة "قوات الدعم السريع" نقطة تحول جذرية في مسار الحرب السودانية. فقد أدى ذلك إلى تفاقم الكارثة الإنسانية الناتجة عن الحرب بشكل كبير، خاصة أن ولاية الجزيرة كانت الملاذ الأبرز للنازحين الفارين من جحيم الحرب في العاصمة الخرطوم، التي تعرضت لحملة تدمير وتشريد ممنهجة شنتها "قوات الدعم السريع". وأصبحت ود مدني منذ سقوط الخرطوم المركز الأكبر لمنظمات وعمليات الإغاثة الإنسانية الدولية. وسرعان ما وقعت الولاية في أسر الميليشيا تحت وطأة انتهاكات ممنهجة، وهو ما ألقى بظلاله الكئيبة على حياة السكان المحليين والنازحين على حد سواء، بالإضافة إلى موجة نزوح كبيرة ثانية. وشهدت الولاية مجازر كبيرة في أرجائها المتفرقة.
ومع استعادة الجيش السوداني السيطرة على مدينة ود مدني، ثاني أكبر مدن البلاد والتي تشكل ملتقى طرق رئيس بين أنحاء البلاد المختلفةفي الحادي عشر من يناير/كانون الثاني 2024، بدت ملامح تحول جديد في المشهد العسكري. جاءت استعادة ود مدني كجزء من سلسلة تطورات عسكرية أظهرت تقدم الجيش نحو استعادة مناطق استراتيجية في ولايات الخرطوم وسنار وغيرهما مما فقده منذ اندلاع الحرب. ويُضاف إلى ذلك الصمود الأسطوري لمدينة الفاشر في شمال دارفور، والتي استطاعت الوقوف في وجه هجمات الميليشيا لما يقارب العام الكامل، مما يؤذن بتحول موازين القوى العسكرية لصالح الجيش بشكل كبير.
غير أن هذا التقدم العسكري في ولاية الجزيرة، كان مصحوبا بجرائم بشعة ذات طابع عنصري، استهدفت بشكل خاص مجتمعات العمال الزراعيين في مناطق الكنابي بالجزيرة. وهؤلاء العمال، الذين تعود أصول معظمهم إلى إقليم دارفور، وجدوا أنفسهم ضحية لاعتداءات بشعة تنم عن انتقام بدائي يتجاوز حدود الأخلاق والقانون، ويدخل تحت تصنيف جرائم الحرب. وقد يرى البعض أن هذه الجرائم ما هي إلا رد فعل على الفظائع التي ارتكبتها "الدعم السريع" بحق سكان الجزيرة خلال فترة سيطرتها، ولكن مثل هذه التبريرات تفتقر إلى الأساس الأخلاقي والقانوني، إذ إن مواجهة الجريمة لا ينبغي أن تنزلق إلى مستوى ارتكاب جرائم مضادة بنفس الوحشية. كما أن المتعاونين مع الميليشيا يجب أن يعاملوا بأحكام القانون، لا أن يترك المجال لدائرة الانتقام التي لا تخدم سوى تعميق خطاب الكراهية والصراع الإثني.
إن الانجرار إلى مثل هذه الأفعال الانتقامية يخدم ويعزز من استراتيجية ميليشيا "الدعم السريع" وحلفائها، التي تسعى إلى استخدام الأبعاد الإثنية والجهوية في تبرير حربها وجرائمها. أما إذا أردنا للسودان الخروج من هذا النفق المظلم، فعلينا تكريس سيادة القانون، وتفكيك الديناميات التي تُغذي هذا الصراع، بدلا من الانصياع لمنطق الانتقام الذي يهدد بتفكيك النسيج الوطني وتكريس الانقسام الاجتماعي.
إن هذه الجرائم لا تسهم في إنهاء الحرب بقدر ما تعمق الجروح في النسيج الاجتماعي السوداني، وتهدد بخلق مخاطر أكبر وأشد عمقا على المدى الطويل. كما أن التقدم العسكري وحده لا يكفي لإنهاء الحرب؛ إذ إن إنهاءها يتطلب مشروعا وطنيا جديدا يعالج مسبباتها، ويعكس تطلعات الشعب السوداني، ويعزز استقراره. وهو ما تسعى الميليشيا وحلفاؤها لتعطيله عبر التهديدات ومحاولات تقسيم البلاد من خلال إقامة حكومة في مناطق سيطرتهم المتقلصة.وكل هذه التحركات لا تخدم غير إطالة أمد الحرب والفوضى في السودان ولا تعدو كونها محاولات يائسة تهدف إلى تشكيل واجهة سياسية جديدة لميليشيا "قوات الدعم السريع"، بعد أن أصبحت حقيقتها الفاشية مكشوفة أمام العالم أجمع. وآخر ذلك كان تصنيف الولايات المتحدة في 7 يناير 2025 لجرائم الميليشيا على أنها تشكل جريمة الإبادة الجماعية.