مصر الرابح الأكبر من وقف النار في غزة

الخاسران هما إسرائيل و"حماس"

أف ب
أف ب
جندي مصري قرب شاحنات للمساعدات الانسانية تدخل الى قطاع غزة من الجهة المصرية لمعبر رفح في 19 يناير بعد دخول اتفاق وقف اطلاق النار حيز التنفيذ

مصر الرابح الأكبر من وقف النار في غزة

لا يمكن لأي من طرفي الحرب الرئيسين في غزة أن يدعي تحقيق أي نصر في القتال الذي امتد خمسة عشر شهرا. ولكن مصر، التي تشترك بحدود مع الأطراف المتصارعة، يمكنها أن تدعي ذلك.

فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها الرئيسة من هذه الحرب. ورغم نجاحها في تقليص نفوذ حركة "حماس"، التي كانت السلطة الحاكمة في غزة، إلى مجرد خلايا متفرقة ومتناثرة، فإن الحركة بدأت بالفعل في إعادة تنظيم صفوفها وبناء قدراتها من جديد.

كانت كلفة الحرب على إسرائيل هائلة، حيث خسرت ما يقرب من 900 جندي خلال النزاع، إضافة إلى 1200 شخص قُتلوا في الهجمات المفاجئة التي شنتها "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. كما أصيب آلاف الجنود، وسيعيش عشرات الآلاف مع آثار الصدمة النفسية للحرب لسنوات طويلة قادمة.

رجل يثبت علما فلسطينيا على عمود ارسال فوق مبنى مدمر كان مقرا لوكالة "الاونروا" في مخيم جباليا في 19 يناير أ ف ب

اقتصاديا، تعرضت إسرائيل لضرر جسيم، حيث تكبد اقتصادها خسائر بعشرات المليارات من الدولارات في النفقات العسكرية والتكاليف المدنية وفقدان الإيرادات. ومن المتوقع أن يستغرق التعافي الاقتصادي عدة أشهر.

من جهة أخرى، شنت "حماس" هذه الحرب بتكلفة مدمرة على السكان المدنيين في غزة، الذين تحملوا وطأة الهجمات الإسرائيلية والانتهاكات المرعبة على مدار 15 شهرا. وكان من نتاج ذلك أن أدرك الفلسطينيون أن "حماس" قد أصبحت عبئا على القضية الفلسطينية أكثر من كونها قوة تحرر حقيقية.

ستحتاج إعادة إعمار غزة إلى سنوات، وربما عقود، إذا افترضنا أن المجتمع الدولي سيثق من جديد في هذه القضية، ويقدم التمويل اللازم. ومع ذلك، يبقى السؤال العميق: كيف يمكن تعويض فقدان الأحبة، من أبناء وآباء وإخوة، الذين خسروهم في هذه الحرب؟ وهل هناك شيء في العالم يمكن أن يعوض ذلك حقا؟

التهجير معلق في الوقت الحالي

لعبت مصر، جنبا إلى جنب مع وسطاء آخرين، دورا محوريا في تأمين وقف إطلاق النار واتفاق تبادل الأسرى، الذي بدأ تنفيذه في 19 يناير/كانون الثاني. والحق أن مصر قد بذلت، منذ اندلاع القتال بين "حماس" وإسرائيل في أكتوبر 2023، جهودا دؤوبة لوضع حد لهذه الأعمال العدائية.

ويأتي إصرار مصر من رغبتها في حماية أراضيها وإصرارها على منع تدفق الفلسطينيين المهجرين إلى أراضيها. وكانت التحركات الإسرائيلية على الأرض تهدف بجلاء إلى تهجير سكان غزة قسرا إلى سيناء. لقد نفت الحكومة الإسرائيلية نيتها تلك مرارا بشكل رسمي، ولكن تدمير شمال غزة، وإنشاء البنية التحتية العسكرية في أنحاء القطاع، وضغط سكان غزة البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة في مساحة ساحلية ضيقة قرب الحدود المصرية، تكشف كلها عن نية إسرائيلية واضحة للبقاء طويلا، إن لم يكن لضم القطاع بأكمله.

لو تحقق سيناريو التهجير القسري، لوجدت مصر نفسها أمام معضلة عميقة، ولواجهت القوات المصرية المتمركزة على حدود غزة خيارا مستحيلا

ولقيت فكرة الضم تأييدا ودعما علنيين من وزراء يمينيين متطرفين ومؤيدين للاستيطان الإسرائيلي، الذين ما انفكوا يتحدثون عن ضرورة دفع سكان غزة إلى "مغادرة طوعية"، ولتسريع هذه العملية، حولت إسرائيل غزة إلى جحيم لا يمكن العيش فيه.

وكانت مصر تتابع هذه التطورات بقلق متزايد، وتراقب تحول شمال شرق سيناء، التي تتاخم غزة على امتداد اثني عشر كيلومترا، إلى نقطة توتر. وقد كررت القاهرة رفضها القاطع لمثل هذه الخطط، وعززت وجودها العسكري في المنطقة، منعا لأي تهجير قسري، ولتؤكد موقفها الحازم ضد تفريغ قطاع غزة من سكانه.

لو حصل مثل هذا التهجير لكان له تداعيات عميقة، ولهدد عقودا من السلام بين مصر وإسرائيل. وكان من الممكن أن يؤدي تدفق أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى سيناء إلى تحويل مصر إلى قاعدة لمواصلة المقاومة ضد إسرائيل، مما يزيد من زعزعة استقرار المنطقة. ولكن، لحسن الحظ، أوقف اتفاق وقف إطلاق النار هذه السيناريوهات مؤقتا، مما وفر فرصة مهمة لجميع الأطراف المعنية.

إبقاء حلم الدولة حيا

لو تحقق سيناريو التهجير القسري، لوجدت مصر نفسها أمام معضلة عميقة، ولواجهت القوات المصرية المتمركزة على حدود غزة خيارا مستحيلا. فمن جهة، لم يكن بإمكانها إطلاق النار على مئات الآلاف من الفلسطينيين اليائسين الساعين إلى اللجوء في سيناء هربا من الموت والجوع في غزة. ومن جهة أخرى، فإن عبور هؤلاء الأفراد إلى سيناء كان سيؤدي إلى تهجير دائم، حيث يصبح من المستبعد عودتهم حتى بعد توقف القتال في غزة.

لطالما أكدت مصر رفضها لهذا الاحتمال وقررت أنها لن تتحمل تكاليفه بأي حال من الأحوال. وكانت القاهرة تدرك أن تفريغ غزة من سكانها سيؤدي إلى تهجير مماثل لسكان الضفة الغربية إلى الأردن، وهو أيضا احتمال دعمه علنا سياسيون إسرائيليون من اليمين المتطرف، ولذلك فإن معارضتها الحازمة ساعدت في وقف مثل هذه التطورات التي كانت ستؤدي إلى إنهاء القضية الفلسطينية، مما يمنح إسرائيل طريقا مختصرا لتحقيق هدف قد يستغرق عقودا.

تجد "حماس" نفسها في عزلة دولية خانقة، تزداد سوءا خاصة في ظل الانتكاسات التي تواجهها إيران و"حزب الله"، وهما من أبرز داعميها التقليديين

والحق أن إفشال الخطط الإسرائيلية للتهجير القسري إنما يعزز بشكل قوي النضال الفلسطيني من أجل إقامة دولته المستقلة، ويساعد حلم الدولة الفلسطينية على الاقتراب من التحقق إذا ما ظهرت صيغة تسمح للسلطة الفلسطينية بتولي المسؤوليات الإدارية والأمنية في غزة. غير أن إسرائيل تعارض هذا الاحتمال بشدة، لأنها تدرك أنه يمثل خطوة كبيرة نحو إقامة الدولة الفلسطينية، وفي المقابل، يزداد الزخم الإقليمي والدولي باتجاه إدارة السلطة الفلسطينية لغزة.

مستقبل "حماس"

يسمح وقف إطلاق النار الحالي لـ"حماس" مبدئيا بالبقاء على الساحة، رغم تصاعد المعارضة لاستمرار هيمنتها على غزة. ووفقا للاتفاق، ستفرج "حماس" عن 33 رهينة إسرائيليا خلال المرحلة الأولى التي تستغرق 42 يوما، مع بدء مفاوضات لاحقة للإفراج عن بقية الرهائن. ويفترض هذا النهج المرحلي بقاء "حماس" في السيطرة على الأقل إلى أن يُفرَج عن الرهائن المحتجزين لديها جميعهم.

ومع ذلك، يظل مستقبل "حماس" على المدى البعيد غامضا. فمن المرجح أن تفقد الحركة سيطرتها على غزة بعد الإفراج عن الرهائن، مما يضع مستقبلها السياسي في حالة من عدم اليقين، ليس فقط في غزة، بل أيضا في الضفة الغربية، حيث تتراجع شعبيتها بالفعل، بسبب الدمار والخسائر في الأرواح خلال الصراع الأخير الذي تسبب في مزيد من تآكل الدعم الشعبي للحركة بين الفلسطينيين العاديين.

وتجد "حماس" نفسها في عزلة دولية خانقة، تزداد سوءا خاصة في ظل الانتكاسات التي تواجهها إيران و"حزب الله"، وهما من أبرز داعميها التقليديين. والأرجح أن التراجع في الدعم الإيراني وتردي وضعها داخل غزة سيكونان نقطة تحول حاسمة في مستقبل الحركة السياسي.

 أ ف ب
فلسطينيون بين الانقاض في مخيم جباليا للاجئين في 19 يناير

وقدم هذا التطور فرصة ذهبية لمصر التي طالما نظرت بعين الريبة إلى حركة "حماس" بسبب ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين، التي حكمت مصر لفترة وجيزة من منتصف عام 2012 إلى منتصف عام 2013، قبل أن يطيح بها الجيش المصري في انتفاضة مدعومة شعبيا. ولكن مصر تحتفظ بقنوات اتصال محدودة مع "حماس"، مستغلة سيطرتها الاستراتيجية على الحركة من وإلى قطاع غزة. فمنذ أن أغلقت إسرائيل جميع المعابر الأخرى مع غزة في عام 2007، أصبحت سيناء الرابط الوحيد بين القطاع والعالم الخارجي، مما يمنح القاهرة نفوذا كبيرا على الحركة.

مع تسلم إدارة جديدة مقاليد الحكم في الولايات المتحدة، يعزز دور مصر في هذه الأزمة من أهميتها وتأثيرها في تحديد مسار العلاقات المصرية الأميركية خلال السنوات الأربع المقبلة

والمؤكد أن انتهاء حكم "حماس" في منطقة قريبة بهذا الشكل من الحدود المصرية سيمثل مكسبا أمنيا مهماً لمصر، ولا سيما أن جمهرة من المحللين يتهمون الحركة بأنها كانت تدعم مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الذين خاضوا معارك ضد القوات المصرية في سيناء على مدار ما يقرب من عقد من الزمن.

عودة مصر إلى الصدارة

يرى السياسيون اليمينيون المتطرفون في إسرائيل في وقف إطلاق النار الحالي هزيمة لنهجهم وتنازلا لـ"حماس". وقد يزيد هذا الشعور من احتمال تجدد القتال في الأسابيع أو الأشهر المقبلة. بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه كان مترددا في الموافقة على الاتفاقية، خشية أن تؤدي إلى زعزعة استقرار حكومته الائتلافية الهشة. بيد أن مصر لعبت دورا حاسما في التوسط لإتمام هذا الاتفاق في لحظة حرجة.

لقد كانت مصر قوة إقليمية بارزة قبل أن تتراجع مكانتها بسبب أزماتها الداخلية الاقتصادية والسياسية والأمنية عقب سقوط نظام حسني مبارك في عام 2011. وقد عانت البلاد من أزمات ديون متتالية، وهجمات إرهابية متكررة في سيناء، ومخاوف من عودة الإسلاميين إلى السلطة، مما أبعدها عن الساحة الإقليمية لعقد كامل. سوى أن أزمة غزة قدمت لمصر فرصة لإعادة تأكيد دورها كلاعب رئيس على الساحة الدولية. وإلى جانب تسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، عززت مصر موقعها كشريك لا غنى عنه في تحديد مستقبل هذا الإقليم.

ومع تسلم إدارة جديدة مقاليد الحكم في الولايات المتحدة، يعزز دور مصر في هذه الأزمة من أهميتها وتأثيرها في تحديد مسار العلاقات المصرية الأميركية خلال السنوات الأربع المقبلة.

وفي النهاية، تظهر مصر كأحد المستفيدين الواضحين من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، بشرط أن يستمر الاتفاق في الأشهر المقبلة، لأن فشله سيتسبب في كوارث ستتجاوز غزة ومصر، لتعيد تشكيل ديناميكيات المنطقة بأكملها.

font change

مقالات ذات صلة